غالباً مايظن قراء الشعر العربي المعاصر أن أول من كتب شعر التفعيلة في اللغة العربية ( اوماسمته نازك الملائكة الشعر الحر، وهي ترجمة للعبارة الفرنسية (vers libere) الذي ظهر في تلك اللغة في القرن السابع عشر أو للعبارة الانكليزية (free verse) هو الشاعر العراقي بدر شاكر السياب أو الشاعرة العراقية نازك الملائكة. فقد كتب السياب قصيدته التفعيلية الأولى هل "كان حبا" في 29 / 11 / 1946م يقول فيها:[c1]هل تسمين الذي ألقى هياما؟أم جنونا بالأماني؟ أم غراما؟مايكون الحب؟ نوحا وابتساما؟أم خفوق الأضلع الحرى، إذا حان التلاقي[/c]وهي قصيدة دون مستوى قصيدته البيتية (أو العمودية) ديوان شعر ودون قصيدته التفعيلية " أنشودة المطر" بكثير إما أول قصائد نازك الملائكة التفعيلية فكانت " الكوليرا" عام 1947م ولكن الشاعر اليمني المصري علي احمد باكثير الذي ولد في اندونسيا ونشأ في حضرموت وقضى فترة قصيرة في عدن والحجاز ثم استقر في مصر كان قد سبقهما الى ذلك النوع من الشعر بنحو عشرة أعوام فقد كتب مسرحية "اخناتون ونفرتيتي" عام 1938 ونشرها عام 1940 بالشعر التفعيلي وقبل ذلك بنحو ثلاثة أعوام كان قد ترجم جزءاً من مسرحية شكسبير " روميو وجولييت" بالشعر التفعيلي تحديا لمدرس الأدب الانكليزي البريطاني الذي قال ان الشعر العربي لايمتلك المرونة لكتابة مثل مسرحيات شكسبير وقد أسمى باكثير الشكل الذي كتب فيه بالنظم المرسل المنطلق وكان هنا يحاول ترجمة المصطلح الانكليزي tunning blamk verse) وإذا كان باكثير لم يستمر في هذا الشكل طويلاً إذ تحول بشكل رئيسي إلى المسرحية النثرية والرواية إلا أن السياب نفسه يعترف لباكثير بالريادة وباكثير كتب قصيدة من وحي نكسة حزيران 1967 بالشكل التفعيلي ايضاً وكانت هناك محاولات أخرى سبقت نازك والسياب في كتابة أشكال خارجة عن الشكل البيتي كمحاولات محمد فريد أبو حديد لكتابة الشكل المرسل الذي حافظ على البيت ولكن لم يحافظ على القافية وكانت هناك محاولات لأمثال محمود حسن إسماعيل ومصطفى وهبي التل(عرار) ولويس عوض وبديع حقي. كما كانت هناك محاولات يمنية منها ماذكره د.مبارك حسن الخليفة في كتابة "دراسات في الشعر اليمني المعاصر" مثل قصيدة "درب السيف" للشاعر حسن بن عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف التي نشرها في ديوان "ولائد الساحل" المنشور بمصر عام 1943 ومنها:[c1]أهو البحر المحيطأوهو البر المحيططعنا الداماء لأتبصر منها عوجاوهنا الكثبان كالوا ماء مارت لججاوسنين جاريات[/c]وهناك قصيدة بعنوان "انفجار" لمحمد عبده غانم في ديوانه "على الشاطئ المسحور" المنشور عام 1946 وفيها انفلات يجعلها مزيجاً من شعر التفعيلة والشعر البيتي.وللسيد احمد بن محمد الشامي قصيدة بعنوان "صلاة" كتبها بعد فشل حركة 1948 وهو في السجن واعتبرها د. عبدالعزيز المقالح أول قصيدة تفعيليه ومنها:[c1]انا لا انظم شعرا فلقد أنسيت أوزان القصيدانما انثر اشواقاً ودمعاشوق قلب مغرموفؤاد مؤلمودموعا عصرتها لهفة الروح الحزين[/c]ولكن ربما سبقه أستاذي لطفي جعفر أمان قليلاً في ديوانه " بقايا نغم "الذي نشر في سبتمبر 1948 فالإهداء قصيدة تفعيليه تقول:[c1]اليك يا ابنة عيسىانت يامن يفيض في صدرك البضجلال الصليب نوراً عليا[/c]لك في هذا الذي بين كفيك خفوق بحبك المفقود نغم ضاع في مجاهل دنياك هياما.. وخبا الا بقايا فاذكريني بها ؟؟ فيارب ذكراك تعيد المفقود من دنياي من أمان اترعت منها شبابي.ونرى في الديوان قصيدة مثل "خطيئة غريب" وفيها مقطوعات بيتية تتراوح مع مقطوعات تفعيلية وهكذا نرى ان اليمنيين كانوا من السباقين الى التجديد في الشكل وللشامي ولطفي أمان وغانم وغيرهم كثير من الشعر التفعيلي فيما بعد.[c1]علي لقمان والتجديد في الشكل[/c]في كتابة علي محمد لقمان- شاعر الوتر المغمور يتحدث المؤلف نجمي عبدالمجيد في احد الفصول عن تجربة الشعر المنثور والموشح في ادب علي محمد لقمان ويسجل قصيدتين نثريتين للقمان نشرتا في فتاة الجزيرة عام 1941 ولكن الشاعر لم ينشرها في ديوانه الاول الوتر المغمور الذي نشر عام 1944 ويقول نجمي مفسراً ذلك مما يدل على ان الشاعر ينظر الى هذا النص من باب المحاولة وليس من منطلق الرؤية الإبداعية التي تضع لصاحبها مكانة بين اهل الشعر "القصيدة الأولى" بعنوان" انناس حائرة" نشرت في 17 / 8 / 1941 ومنها:[c1]انظري ذلك البلبل التائهعلى فنن الحب ينشد الرجاء والدعة والجدول من تحته ينساب غيرا وادعاوهو يغني لحناً شجياًصاغه الحنينفترنم به الأنين...[/c]والقصيدة الثانية بعنوان مشتاق نشرت في 14 / 12 / 1941 ومنها:[c1]بي شوق صاخب الزفير رنان الآهاتالشعر بعض شوقيأنا شعر وآلم وأملعيناك زهرتان وأنا نحلةلاتطير منهما إلى غيرهمابي شوق، بي شوققلبك وردة ناعمة حالمةأيقظها شعري بالطل الندي..[/c]وهذا يذكرني بالشعر الانكليزي الرومانسي في أواخر القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر ونحن نعلم أن لقمان ترجم لأحد الشعراء الرومانسيين (لعله وردزورث أو لورد بايرون) كتيباً نشره مكتب النشر البريطاني بعدن وكان ذلك في فترة الحرب العالمية الثانية عندما كان لقمان يعمل في ذلك المكتب وكانت من زملائه فيه الكاتبة المعروفة " فريال ستارك" وكتيب لقمان قد نفد ولم اطلع على نسخة منه في مكتبة خالي علي لقمان او مكتبة والدي د. محمد عبده غانم رحمهما الله وربما انه من الممكن الحصول على صورة له من المكتبة البريطانية بلندن ولو اطلع المرء على كل دواوين علي لقمان المنشورة .وقد اصبح ذلك متيسراً بعد ان جمع الاستاذ د. احمد علي الهمداني كل دواوينه المنشورة في مجلد وكل مسرحياته المنشورة في مجلد ثان لما وجد في دواوينه شعرا تفعيلياً.ولاشعراً منثوراً. بل لايوجد مثل ذلك في ديوانه الأخير "ياليل في عصيفرة" الذي راجعت مسودته شخصياً وسلمتها للدكتور الهمداني فأدرج الديوان ضمن هذه الأعمال الكاملة بجانب دواوينه التي كانت قد نشرت من قبل أي الوتر المغمور، أشجان في الليل، على رمال صيره، أنات شعب، هدير القافلة، ليالي غريب، الدروب السبعة وعنب من اليمن.والمعروف ان لقمان بدأ رومانسياً في الوتر المغمور ثم تحول الى شاعر جماهيري كلاسيكي في كثير من شعره بحكم اشتغاله بالسياسة والصحافة ولو اننا نجد التأمل والرومانسية في كثير من شعره وخصوصاً بعد اضطراره لمغادرة مسقط راسة عدن او المدينة الفاضلة كما كان قد سماها في إحدى قصائده وكان لقمان لا يجد ادنى صعوبة في كتابة القصائد البيتية (العمودية) الطويلة فقد كان من اصحاب النفس الطويل ويكتب قصائده عادة في وقت الفجر وهو صافي الذهن فلا تطلع الشمس الا وقد أتمها وكذلك كان يفعل في كتابة مقالاته وكتبه.ونأى لقمان بنفسه عن الشعر التفعيلي تماماً على الأقل على مستوى النشر فلم يحدث ان قرأت له قصيدة تفعيليه منشورة واذكر انه ذات يوم وكنت قد تزوجت ابنته عام 1968 سألني ما إذا كنت مازلت اكتب الشعر ( فهو قرأ لي شعراً قليلاً منثوراً في " فتاة الجزيرة" وربما صحيفته القلم العدني " او صحيفته الأخبار" مما كنت ابعث به مند 1964 من بريطانيا للنشر ثم انقطعت عن النشر بعد ان عدت الى عدن لان الأجواء السياسية. كانت خانقة فلم انشر سوى قصيدة واحدة أججتها الام نكسة حزيران فاجبته انني اكتب ولكن لا انشر وقلت له دعني اسمعك هذه الابيات من قصيدة بعنوان" من وراء الستار الحديدي":[c1]اريد البكاءفيمنعني الخوف لا الكبرياءوفي اضلعي جبل من شقاءاريد السؤالولكن محال لان الظلالتصيخ الى كل قيل وقال:[/c]فرأيت الدهشة في وجهه، وكنت أخشى ان يأخذ علي كتابتي القصيدة بالتفعيلة ولكن القصيدة أعجبته( وقد نشرها فيما بعد الاستاذ رجاء النقاش في مجلة " الدوحة" وقرأها والدي وسربها كثيراً).والمفاجأة الثانية كانت عندما اطلعت على أوراق ومخطوطات لقمان في امريكا عام 2000 عندما اكتشفت ان له عدة قصائد تفعيليه لا أظن ان أية واحدة منها كانت قد نشرت وقد أشرت الى تلك القصائد في كتابي علي محمد لقمان ونزيل عصيفرة ومختارات من شعره" الذي نشر عام 2002 وكان أول كتاب ينشر عن علي لقمان.خمس من القصائد التفعيليه هي من مخطوطة بعنوان " رسائل مهموسة" يقول علي لقمان عن هذا الديوان الذي يحوي 28 قصيدة :" لماذا هذه التسمية لديوان يضم قصائد نظمت بعضها في عدن ونظمت بعضها في تعز فسميتها ورتبتها وانا مقيم في تعز بعد ان انتقلت للعمل فيها.. كنت انظم هذه القصائد واحفظها لنفسي فلم يطلع عليها احد غير صديق او صديقين من الذين كانوا يزورونني في منزلي، فيطلبون مني ان اسمعهم بعض شعري فهي لهذا قصائد مهموسة، ولما كانت مني والي فقد سميتها رسائل تهمس بها نفسي الى نفسي" ويقول علي لقمان:" هلل الشعب العربي لكل ثورة على الحكم الاستعماري والحكم الفردي والنظام الاقطاعي طمعاً في حكم عادل نستطيع به ان نحرر فلسطين الحبيبة من الصهيونية ونقيم وحدة عربية حرة يحكمها دستور عادل يكفل للشعب الحرية والخبر والأمان وتوزيع الثروة بالقسطاس ورددنا مع احمد شوقي بيته الخالد:زمان الفرد يافرعون ولى[c1] *** [/c]ودالت دولة المتجبر بناولكن الأمة فوجئت بزمان " الحزب" فكل من تولى الحكم منح حزبه الموالي له الحق في الحكم المطلق ومن لم يكن من الحزب عد باغيا متمرداً لايستحق الرحمة وغير جدير حتى بوظيفة يحول بها أولاده الصغار تحت حكم الحزب الواحد الذي اله نفسه فصدق انه إه معبود"والمخطوطة تحوى خمس قصائد تفعيليه بجانب 32 قصيدة بيتيه وان كان في قصيدة سادسة بعنوان الطعام بعد الكلام " بضعة أبيات قليلة تفعيلية بين الأبيات العمودية.اما القصائد الخمس فأربع منها مؤرخة بين مايو 1969 ونوفمبر 1917 اما القصيدة الخامسة وعنوانها" بين الضحك والبكاء" فبدون تاريخ والفترة التي كتبت فيها القصائد إذن هي الفترة التي استولت فيها الجبهة القومية على الحكم في جنوب اليمن وتوقف لقمان عن النشر في عدن ( وإن نشر بعض القصائد في مجلة الاديب البيروتية ) بل ان مطابعه استولت عليها الدولة وظل في منزله مراقباً منذ الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 حتى خروجه الى مدينة تعز فيما كان يعرف بالشطر الشمالي من اليمن وانتهى في عدن ماكان فيها من حرية الرأي والتعبير لعدة عقود تحت الحكم الشمولي ولذلك فقد كانت قصائد الشاعر رسائل مهموسة لنفسه وليس عجيباً ان يلجأ الشاعر وقد بلغ الخمسين من العمر الى الشعر ألتفعيلي الذي يناسب التأمل وكان الشعر البيتي طبعاً في يد لقمان في قصائده التي يخاطب به الشعب والجماهير التي تقرأ له تلك القصائد وقصائده بالعامية ايضاً التي عرفت " بالوراديات نسبة الى ديوانه "ياهوه الوراد".يقول لقمان في مطلع قصيدة بين الضحك والبكاء:[c1]الناس يضحكونوانت لاتضحك في الركن البعيدالناس يهزاونوانت في واديك مهموم شريكما العمر وجبة الغذاءياسيدي العمر فيه ان تكون او لاتكون إني أحب ان أكونفكيف اين لي أكون[/c]اما في قصيدة جمال في ادنبره فقد كتبها في عاصمة اسكوتلندا في مستشفى قضى فيه سبعة اسابيع لعلاج الصدر فقد أصيب بالسل وكان نجله الأكبر وجدان رحمه الله في السنة النهائية في دراسة الطب في جامعة ادنبره. والقصيدة طويلة تقع في خمسة عشرة مقطوعة وتمتد صفحات كتبها في مايو 1969ومنها:[c1]يا اخت ياممرضةهل تعلمين من اناانا المريض ليس غير ههناهذا الذي تقيدين طائروتحبسين شاعروتمنعين سيرة مغامرفما الذي قد امرضه؟وللبلاوي في الليالي عرضهالقهر في اوطانه المعذبةحيث الحمام مكسبهحيث يعيش المرء من غير فمكيف يعيش المرء من غير فم؟..وفي المقطوعة (14) يقول:يا اخت ياممرضةهذا القطار القافلةمستخرج من إبليذاهبة او قافلةفأين اين جملي[/c]وفي نوفمبر 1970 تماثل الشاعر للشفاء بعد علاج طويل للسل بدأه لمدة ثلاثة أشهر في ادنبره واستمر فيه عاماً ونصف في عدن تحت إشراف أخيه د. حافظ لقمان رحمه الله فكتب قصيدة "جراح في الجناحين" يشكر فيها الأطباء ومنها:[c1]نفر الاصحاب عنه والرفاقهكذا الخوف من العدوى يكونلا ألوم الناس في ارض النفاقطالما ماتوا ضحايا للظنونولاوهام الضلالكيف استطيع اصلى للصنموانا لله صومي والصلاةوانادي في وجود بالعدم[/c]اما قصيدة "نابليون البواب" المكتوبة في 15نوفمبر 1970 فيقول الشاعر فيها وهو يهجو مسؤولاً او بواباً تافهاً يتحكم في العباد:[c1]ياسيدي .. من انت؟نابليون؟هل عاد في صورته الدميمةبكل مافي نفسك اللئيمةالفتح:" كرت" للدخول تمنحهالاسر: شيخ بالتعالي تجرحهقدام شباكك ياسبهللحوامل، عجائز، شيوخوانت فوق المكتب المغفليثني عليك البله والفروخقد سلطتوكفي خلاء..ومن يسد في امه قزامىتقصيرتينلنتهتلراتمسلناوجرد الحساما .. وصدق الاوهاما[/c]فهذا الموظف التافه جعل من نفسه قيصرا ونابليونا وهتلرا وموسولينيا وفي قصيدة " مذكرات أرملة لم تتزوج" التي كتبت في مايو 1971 يروى الشاعر معاناة فتاة مات ابوها فأعتدى صديق له على امها بعد استخدامها خادمة فماتت من الغم والفتاة عملت سكرتيرة محاولة كسب العيش الشريف ولكن ابن مخدومها وايضا مخدومها نفسه حاولا التحرش الجنسي بها وهي قصيدة مطلعها:[c1]أنا أرملةفأرملة من غير زوج قضىومن غير ذكرى حبيب مضى وخلفني للوله[/c]وللقمان قصائد تفعيليه قليلة أخرى من غير مخطوطة " رسائل مهموسة" منها قصيدة بعنوان " نسيم الصباح" ومنها:[c1]انت التي أهوى واخفي حبهاوأحب في كل الليالي قربهاانت التي .. انت التيفي الصمت حولي صوتك العذب الحنونمالي سواك فمتى اراك[/c]واخيراً قصيدة كتبها في تعز في يوليو 1979 قبيل وفاته في امريكا في ديسمبر 1979 وعنوانها:"العودة الى الوطن " ومنها:[c1]ارني الطريقفلم اعد اجد الطريقالبحر قدامي عميقووراء خطوى بي حريقالى ان يقول:واسير وحدي بين نيران وتضحيات العبابمن غير عكاز وقد ذهب الشبابواما عيني الضبابتخفي السبيل الى الاياب [/c]رحم الله علي لقمان الذي عانى كثيراً بعد ان تقدم به العمر وتجبر الطغاة.
|
ثقافة
علي محمد لقمان وشعر التفعيلة
أخبار متعلقة