علي الذرحاني :إن حدة الاستغراب والاندهاش والتعجب تهدأ عند الناس حول موضوع ما عندما تعرف أسبابه لأن معرفة السبب تبطل حدة التعجب فمنذ 19 عاماً وأنا أعمل مديراً لإدارة الفنون التشكيلية التابعة لمكتب وزارة الثقافة بعدن بعد انتقالي من صنعاء إلى عدن بعد وحدة الوطن المباركة أثناء تبادل الكوادر ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتابع وأشاهد فعاليات وأنشطة مكتب وزارة الثقافة بعدن منذ تولي الشاعر الرقيق فريد بركات مسؤولية إدارة المكتب قبل 19 عاماً وحتى عهد الشاعر الشفاف عبدالله باكداده الذي يتولى الآن منصب مدير عام الثقافة بعدن ومدير مركز الوثائق بكريتر ومذيعاً تلفزيونياً لا معاً في قناة اليمانية التابعة لوزارة الإعلام. وعلى الرغم من عمل هذا الشاعر الذي يشبه النحلة ومجهوده الجبار في التنقل بين مكتب الثقافة ومركز الوثائق والتلفزيون إلا أننا لم نلمس حراكاً ثقافياً ولا فنياً يذكر في عدن باستثناء حفلة رسمية أو موسمية تتزامن مع احتفالات بلادنا بأعياد الثورة وهذه الحفلة اليمنية تكون مخصصاتها المالية قد توفرت سلفاً من الميزانية العامة للاحتفالات وكلما سألنا مدير مكتبنا عن سبب ركود النشاط والحراك الثقافي وغيابه في محافظة عدن يكون جوابه على الفور بأن الاعتماد المالي المخصص للمكتب محدود ولا يكاد يذكر لتفعيل فعالية فنية صغيرة أو أي نشاط ثقافي كإصدار نشرة «الغدير» التي كان يصدرها المكتب أو إعادة إصدار مجلة «الفنون» أو حتى إقامة معرض فني تشكيلي أو إعادة إحياء فعاليات منتدى الصهاريج وكان يفترض على الحكومة ممثلة بوزارة الثقافة أن تهتم بمحافظة عدن بشكل خاص وأن تعيد لها مكانتها الثقافية الرائعة لما عرفت به عبر التاريخ من نشاط ثقافي وفني وأدبي واجتماعي واقتصادي وتجاري وسياحي وتميزت به من خلال المنتديات الثقافية والفنية وانتشار الكتب والمكتبات وحراك ثقافي تجاوز وبلغ حدود وأطراف الجزيرة العربية في الشعر والأدب والفن والقصة والموسيقى والطرب والمسرح والتشكيل والكتاب وخلافه من مجالات العلم والثقافة والفن والمعرفة والآن للأسف صار الهم الأول والأخير لكل مثقف أو فنان أو كاتب أو أديب كيف يلهث وراء لقمة العيش وكيف ينطوي على نفسه ويتخلى عن قضاياه ومبادئه وأهدافه وتطلعاته ويهتم بأمور شخصية ضيقة تتمثل في كيفية الحصول على سيارة صفيح فاخرة أو مسكن راق أو بقعة أرض أو كيف يفتح بقالة أو سوبر ماركت أو مركز اتصالات دولية ومحلية أو كيف يشتري له حافلة أو باص أو ميكرو باص يتم تأجيره أو يعمل دلالا أو وسيطاً يثمن أسعار الأراضي والعقارات الاقتصادية أو التجارية وكل هذا العمل أصبح حلالاً ومشروعاً عند أصحاب المبادئ والقيم الثقافية الحضارية والسامية من المبدعين والمثقفين وبهذه المناسبة أذكر بأن الأستاذ عبدالله باكداده قد طلب مني تصميم غلاف ديوان شعر له يحمل عنوان: «وبالصهاريج تقف الأطلال» وتشرفت بذلك الطلب وأخذت في الخيال وأنا أقرأ نصوص ذلك الديوان الرائع إلى تخيل صهاريج عدن كشبح امرأة رقدت وتمددت بين جبال الطويلة وهجرها أهلها بعد جفاف مائها وحفرها العميقة الواسعة كما يهجر الطفل الرضيع ضرع أمه الذي لايدر اللبن وهجر الجميع عدن وحل محلهم أناس لا هم لهم إلا التجارة والاقتصاد والسمسرة والمزايدات من أصحاب المصالح الضيقة ولم نعد نسمع عن طرب أصيل وجميل ولا فعاليات فنية أو ثقافية تذكر باستثناء مهرجان الصهاريج الأول في زمن مدير عام الثقافة بعدن الشاعر الرائع محمد الشامي الذي أقام ذلك المهرجان ولم تكن مخصصاته المالية كافية وكان أهم عضو في تلك الفعالية النادرة الحدوث الشاعر البديع القرشي عبدالرحيم سلام رحمة الله ولقد تخيلت أيضاً في تصميم غلاف ديوان الأستاذ باكداده سحابة باكية فوق صهاريج عدن تبكي بكاء حاراً على الصهاريج كأهم معلم من معالم مدينة الثقافة وثغر اليمن الباسم عدن هجرها أهلها وأصبحت أطلالاً موحشة وهجرها أصحاب الثقافة والسياحة يقول الشاعر الشفاف عبدالله باكداده في قصيدته المعنونة بـ : «وبالصهاريج تقف الأطلال»سميتك العذبة إن جفت الأيام في حلقي أو بت في حضن الصهاريج المليئة بالحكايا والبقايا والنوايا واحتضار الحلم والآتي وطيف الارتواءمتضرعاً.. والدمعة الحيرى تبعثرها الرياحفتمتطي قلبي.. وتبتهل السماء والماء عن حضن الصهاريج الحزينة راحلاً يدعو الزوايا والصخور الباكيات من العطشسميتك الرغبة إن غابت الدنيا وكل الأمسيات الحالمات ودعوة الكون المتيم بالكناري والنوارس والحمام سميتك الهدبةإن راحت الأطراف تعبث بالعذارى والثكالى الناحبات وسنون عمري قد عدت في قهوة الصبح ابتكار وحفاوة الطفل احتكار ونداء أمي صاغه الليل انتظار سميتك العذبة فوجدتك النبع الذي ينسب في ذاتي ويختزن الرؤى ويطل كالشمس الجريئة عاشقاًنور السفائن والمدائن والحياة سميتك الأشعار وعذوبة السفر الطويل مع الخمائر إن بدت في سحرها الأسفار أو راحت الأشعار ترسم للطوارئ خيمة وردية تطوي المسار فتعيد للصحراء هيبتها ووهج الشمس والأطلال والغزل الموشح بالجوىوترد للنوق الحبيسة عشبها وتضاجع الغيمات كي ترمي على حضن الصهاريج الجريحة قبلة فتزفها الأمطار سميتك الأقدار فعرفت فيك بدايتي ووددت فيك نهايتي ووددت مابين البداية والنهايةأن تكون قصيدتي المثلى تراب الأرض والأرض التي غنت ولحني في الغني أنت ووددت أني في الهوى نغم بدا في الكون ما كنتفيبوح مابي من كلام عاشقبثته أنفاسي أفشي به صمتي..كانت تلك إحدى قصائد ديوان الأستاذ والشاعر عبدالله باكداده وهو يتحسر على الصهاريج وهو الآن مدير عام الثقافة بعدن ويستطيع أن يعيد للصهاريج ألقها الثقافي والفني ويعيد للصهاريج أيضاً المطر العذب ولعدن حيوية النشاط والفاعلية الثقافية والفنية من موقع المسؤولية وأن يطالب الجهات المسؤولة عن الثقافة بإعادة الرونق لعدن الثقافية والفنية ويثبت أن الشعراء يفعلون ما يقولون بالفعل الملموس والعمل المحسوس لا بالقول المعسول فقط
أخبار متعلقة