تحديات التطرف
التطرف هو نهج سياسي يعتمد الجمود العقائدي والانغلاق الفكري، وسلوك عملي يرفض الآخر والحوار ، ويعتمد وسائل العنف والإرهاب لتغيير الواقع، ويمثل ظاهرة تاريخية واجتماعية، شأن في ذلك شأن أي نسق معرفي يتأثر بشكل تبادلي سلباً وإيجاباً مع غيره من الظواهر السائدة في المجتمع، ويرتبط إلى حد كبير بمعطيات الواقع وسماته ومتغيراته التاريخية والدينية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. لغوياً يعرف التطرف بأنه: تجاوز لحدود الاعتدال، وهذا التعريف له دلالات نسبية في ما يتعلق بمفهوم الاعتدال الذي يختلف باختلاف المجتمعات واختلاف الزمان والمكان ويحدد وفقاً لنسق القيم السائدة في كل المجتمعات.والتطرف كمفهوم سياسي معاصر تعددت تعريفاته من قبل الباحثين والمتخصصين، والكثير من هذه التعريفات يحمل مؤشرات وقواسم مشتركة فيما يتعلق بجذوره وأسبابه وأشكاله ومظاهره وآثاره على المجتمعات، والتطرف في الغالب العام يتم استخدامه كمفهوم للإشارة إلى (الخروج عن القواعد الفكرية والقيم والمعايير والأساليب السلوكية الشائعة في المجتمع، معبراً عنه بالعزلة أو بالسلبية والانسحاب، أو بتبني قيم ومعايير مختلفة، قد يصل الدفاع عنها إلى الاتجاه نحو العنف في شكل فردي أو سلوك جماعي منظم بهدف إحداث التغيير في المجتمع وفرض الرأي بالقوة على الآخرين). والتطرف كمنهج وسلوك سياسي عملي يكون دائماً ذا منحى رجعي متخلف يتعاطى مع حقائق الواقع ومتغيراته بفكرٍ جامد ، وآليات عتيقة لاتلائم متغيرات العصر المتسارعة ومتطلباته المتنامية، وموجهاً لإيقاف عملية التطوير والتحديث في المجتمع والعودة به إلى الوراء وإلى واقع اللحظة التي توقف عندها فكر وقناعات الجماعات المتطرفة وجعلتها منطلقاً أيديولوجياً وسياسياً لإعادة صياغة الواقع ، وتغيير مساراته بوسائل القهر والإرهاب الفكري والنفسي والمادي. لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات عبر المراحل التاريخية المختلفة من ظاهرة التطرف بأشكاله المتعددة (الفكري والديني والمذهبي والسياسي والاجتماعي) وأشكال أخرى تظهر بين الوقت والآخر ولكنها أقل شيوعاً وتأثيراً، وأضحى التطرف اليوم أكثر من أي وقت مضى ففي عصر العولمة الاقتصادية والثقافية والصراعات الدينية يمثل ثقافة وأيديولوجية ومنهجاً عملياً للعديد من التيارات والجماعات الدينية والسياسية والاجتماعية في العديد من البلدان، إلاّ أنه يكون أكثر حضوراً وتأثيراً في الظروف الوطنية الاستثنائية التي تفتقر فيها المجتمعات إلى المقومات والشروط والموارد الاقتصادية اللازمة للتنمية المستدامة وللاستقرار والأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؛ حيث تظهر الجماعات المتطرفة كأحد مظاهر الإفرازات السلبية لتخلف الواقع وفقر المجتمع وتناقضاته الطبقية والسياسية المستفحلة ، ويبرز بيد البعض كأداة من أدوات الصراع تستخدمها القوى المهمشة ضد النخب المسيطرة، وفيه تنتهك وتقوَّض القواعد والقيم الدينية والثقافية والأخلاقية ، ويضمحل الكثير من العادات والتقاليد والموروثات الإيجابية السائدة التي يستعاض عنها بخروج صارخ عن النهج العقلاني والمعايير السلوكية والعملية المثالية المتوارثة والمجمع عليها. والحال ان اليمن مثل غيرها من البلدان النامية تعاني من إشكالية التطرف بشتى صوره وتمارسه جماعات دينية وسياسية باعتماد وسائل الإرهاب والعنف لتحقيق ما تعتقده مبادئ فكرية وأهدافاً سياسية. فهناك الجماعات الدينية المذهبية التي يدعي كل منها احتكار الدين وحقائقه لنفسها، ويفسرون القضايا الدينية والدنيوية من منظور معتقداتهم الضيقة التي تختزل الدين في الجماعة أو المذهب باعتباره حقائق مطلقة ومصدقة وصالحة لكل زمان ومكان، محولين بذلك الدين من معتقد إيماني راسخ ومفهوم واسع في الحياة إلى أيديولوجية سياسية لا تعترف بالآخر ، وترفض ثقافة المجتمع ومؤسساته الاجتماعية والرسمية وحكومته ونظامه السياسي، وتستخدم الإرهاب بشتى صوره وأشكاله لإشاعة هذه الأيديولوجية داخل المجتمع ، وفرضها بالقوة على الآخرين والحكم على كل من يخالفهم بالردة والكفر والعودة إلى الجاهلية، وهذا ما تلجأ إليه جماعات الإرهاب القاعدي ، والجماعات الحوثية التي تبرر أعمالها الإجرامية الموجهة لتدمير قيم المجتمع ووحدته العقائدية والوطنية ومؤسساته وثقافته، باعتبارها (أعمالا مشروعة تقربهم إلى الله والجهاد في سبيله ضد المجتمع الذي يعتبر في نظرهم جاهلاً ومنحرفاً، وضد حكومته الكافرة التي لا تحكم بما أنزل الله ووفق معتقداتهم). لقد بلغ التطرف الديني في اليمن من قبل الجماعات القاعدية والحوثية أقصى مدى له بالاعتداء على عصمة الآخرين واستباحة دمائهم وأموالهم وحرماتهم، وسعت كلٌّ من هذه الجماعات إلى تكوين مليشيات مسلحة ومجتمع ونظام خاص بها تطبق فيه نهجها وقناعاتها ومعتقداتها وفرضها بالقوة، وهو ما أصاب المجتمع بتمزقات هائلة وصراعات مدمرة وفرض على الدولة مواجهة خطر هذه الجماعات والدخول معها في حروب مفتوحة باهظة التكاليف على مختلف الجبهات. تاسيسا على ما تقدم يمكن القول ان هناك صورا مختلفة لتوظيف الدين في خدمة السياسة وموقف البعض من علماء الدين وتأرجحهم بين السياسة والدين وتوظيفهما المزدوج لتحقيق مكاسب وتطلعات دنيوية بوسائل غير مشروعة، وتناولنا المجموعة الأولى من الجماعات السياسية التي ترتدي العمامة الدينية وتستخدم الخطاب الديني والدعوي كسلاح فكري معاصر لتحقيق مشاريعها السياسية ومصالحها الخاصة، أما المجموعة الثانية فهي تتعامل مع الدين الإسلامي باعتباره نسقًا ثابتا من القيم والمعتقدات والأخلاقيات والعلاقات والتشريعات الجامدة والثابتة التي لا يمكن أن تتغير، وتنظر إلى المتغيرات والتطورات الكونية والوطنية المتسارعة من حولها، وتحاول فهمها وتفسيرها وتطويقها وفق معاييرها وشروطها للأصولية التي تحاول توظيف الدين ورسالته الإنسانية والحضارية المتجددة في بناء المجتمعات، بمعزل عن البعد التاريخي الذي يستلهم الفكر والقيم والمبادئ الإسلامية مشروطة ومواكبة لظرفها التاريخي والمكاني الخاص، ووفق القضايا والظواهر والثقافات ومستويات التطور التي يواجهها في كل مكان وزمان، وضمن سياق تأثيرها وتفاعلها التبادلي مع غيرها من المتغيرات والمستجدات والتواصلات من حولها. أصحاب هذه القناعات الأصولية الجامدة يسعون إلى الدمج القسري بين المضامين والقيم الدينية بمفهومها الجامد وأبعادها ووسائلها السياسية المعاصرة، أي إعادة توظيف القيم الدينية في السياسة المعاصرة خارج إطار مؤسساتها السائدة بما فيها من ضوابط وأهداف ومسؤوليات وحقوق خاضعة لقواعد الرقابة والمحاسبة.. هؤلاء لا يخفون نفورهم وامتعاضهم ورفضهم الشديد للقيم المعاصرة المجمع عليها لتنظيم السلطة والعملية السياسية وفق بناء وتشريع مؤسسي، وممارسات وسلوكيات ديمقراطية منظمة ومستقرة. وهذه الجماعة ومن واقع مفهومها الأصولي الشمولي للدين ترفض القيم السياسية السائدة باعتبارها وافدة على المجتمعات المسلمة من الغرب، وتحاول إضفاء الطابع الاخلاقي على خطابها السياسي الديني الذي تغلب عليه مفاهيم النزعة التآمرية في تفسير الأحداث الكونية ومتغيراتها وما ترتب عنها من آثار سلبية على الأمة الإسلامية،ومن هذا الإطار الضيق في تفسيرها للأحداث، يأتي تفسيرها لمفهوم الجهاد في الإسلام، وهؤلاء يرون في الجماعات الإرهابية القاعدية أحد الامتدادات المعاصرة زمانيا ومكانيا لتيار الصحوة الإسلامية، وشكلاً من أشكال الجهاد والإصلاح الداخلي الذي يعيد الدين إلى أصوله بالاستناد إلى الإمكانات والوسائل والأساليب الذاتية المتاحة. هؤلاء يقدمون الجماعات الإرهابية إلى الرأي العام باعتبارهم طلائع الجهاديين ضد ما يعتقدونه تآمرا دوليا غربيا للقضاء على الإسلام، وإحدى الوسائل المشروعة لمجاهدة ومحاربة الأنظمة الوطنية المرتدة الموالية لأعداء الإسلام، ولا يخفون رغباتهم في أن يروا كل شاب يتحول إلى شحنة من المتفجرات والأحزمة الناسفة المتحركة في كل زمان ومكان، حتى يتحقق مشروعهم وحلمهم السياسي في جعل اليمن إمارة إسلامية تحت سيطرتهم، وقاعدة انطلاق لمحاربة الكفر وتحرير البشرية وإعادة صناعة وتوجيه التاريخ، ولكن وفق مفاهيمهم ومشاريعهم السياسية، وليس وفق مفاهيم الدين والشرع. هذه الجماعة وإن حاولت أن تقدم ذاتها إلى الرأي العام بأنها معزولة عن السياسة في صوامعها الدينية، ومنشغلة بنشر الدعوة والعلم، ومزاولة النشاطات الخيرية، إلا أن خطابها السياسي الديني، ومواقفها وسلوكها العملي تجعلها أكثر قربا من الجماعات الإرهابية وتحرص على توظيفها في خدمة مشروعها السياسي وبما يمكنها من الانتقال من الهامش الذي تتموضع فيه إلى قلب المكوّن العام والمباشر للصراع والحراك الديمقراطي الثقافي والسياسي والاجتماعي. والمجموعة الثالثة وجدت نفسها ضحايا رجال السياسة المحترفين، الذين حرصوا على استقطاب بعض علماء الدين إلى صفهم ومكونهم الحزبي، والاعلاء من شأنهم ومكانتهم سياسيا وإعلاميا بهدف استثمارهم في إضفاء البعد والمبرر الديني على برامجهم الحزبية وخطابهم وسلوكهم السياسي، الأمر الذي جعل من هؤلاء المشايخ والعلماء مجرد تابعين وأدوات سياسية حزبية، لا يترددون في توظيف مكانتهم ومعارفهم وعلومهم الدينية والشرعية في خدمة الأحزاب دون أن تكون لهم رؤية خاصة، أو نهج أو موقف سياسي يقتنعون بصحته وخارج إطار ما وظفوا من أجله. وهناك صنف من السياسيين الذين يحتلون مواقع قيادية حزبية، حاولوا أن يدخلوا عالم السياسة من بوابة الدين، ومواقفهم وسلوكهم وأهدافهم غير محكومة بالقيم والمثل والأخلاقيات الدينية التي يتقمصونها ويدعون من خلالها خدمة الدين ورسالته، بقدر ما تحركهم مصالح وأهواء ذاتية أرادوا تحقيقها بشعارات الدين، من بوابة امتهان السياسة بكل وسائلها وأساليبها وممكناتها وتكتيكاتها ومساوئها، ومثل هؤلاء يسعون إلى تعزيز مكانتهم ونفوذهم ودورهم السياسي من خلال إضفاء مصداقية زائفة على خطابهم السياسي بتقديمه إلى الجمهور تحت عباءة دينية لا تخلو من أهداف مريبة وخطيرة يحاولون تحقيقها عبر نهج غير مشروع في توظيف القوة الروحية والدينية في المجتمع وإيمانه المطلق بمصداقية الرسالة السماوية باعتبارها طريق الهدي والرحمة والخيار الوحيد والممكن للخروج بالوطن من حالة الضعف إلى القوة، ومن التمزق إلى الوحدة. هذان النموذجان من العلماء المتسيسين، أو رجال السياسة المتدينين، يتعاملون مع الإشكالات والظواهر الحياتية والسياسية والأمنية والاجتماعية والتحديات الخطيرة بما فيها الإرهاب، من منظور سياسي نفعي مفرط في انتهازيته إلى الدرجة التي تجعلهم مظلة حماية، ومدافعين مباشرين وغير مباشرين عن الجماعات الإرهابية والخارجة على النظام والقانون وجرائمها بحق الدين والوطن، طالما ظل فعل هذه الجماعات الإرهابية ونتائجها في السياق الذي يخدم مشاريعهم السياسية الضيقة. ما من شك في أن توظيف الدين وبشكل خاطئ لصالح السياسة يمثل أحد أرقى أشكال خداع الجماهير وتضليلها وتزييف وعيها، وينطوي على آثار خطيرة تمس الوحدة العقدية للأمة، لاسيما وأن كل طرف من هذه الأطراف وكل عالم من علماء الدين السياسيين يقدم خطابه الديني إلى العامة باعتباره من صحيح الدين.. كما أن الخلافات والتباينات والتناقضات السياسية والاجتماعية التي تحاول النخب السياسية فرضها على الواقع يتم تحويرها على يد علماء الدين المتسيسين لتحويلها إلى تباينات وخلافات عقدية تجعل من الموقف والقرار الديني خاضعين وتابعين للإرادة والقرار الحزبي، وهذا ما لا يجوز أن يكون من المنظور السليم للدين، الذي ينبغي السمو به وتنزيهه عن كل استثمار سياسي انتهازي خاطئ يمارسه البعض لإرضاء مصالحهم وأهوائهم وشطحاتهم ونزواتهم السياسية..