لا يكاد يمر يوم واحد دون أن نقرأ في صحفنا المحلية أخباراً مؤسفة عن مقتل أو عن إلقاء القبض أو عن التحقيق في (العراق) أو (أفغانستان) أو (لبنان) مع مواطن سعودي متهم بالإرهاب. والصورة هنا تبدو وكأننا شعب دموي سرعانا تستهويه الحروب والمغامرات فيندفع إليها بجنون ويشارك فيها بكل حماس. فهل صحيح إننا شعب دموي؟! إذا لم نكن نحن كذلك فماذا عسانا نكون؟! ولماذا يتسابق أبناؤنا بالمئات للموت في حروب ظالمة وغير مبررة؟! لقد تحدث الكثيرون منا وكتبوا معتبرين هذه الظاهرة انعكاساً للخلل التربوي والمفاهيم المغلوطة التي تصل إلى عقول الناشئة وتحملهم على التضحية بشبابهم والموت بكل بساطة والعودة إلى الوطن في (توابيت) تثير الشفقة ولكنها تضاعف أيضاً حيرتنا، عن مدى ذاك التأثير في عقول الصغار بمثل هذه السهولة...وذلك الاندفاع نحو مصير مؤلم ومثير للدهشة. إن المسألة بكل بساطة وبعيداً عن الاجتهادات أو المبالغات تؤكد أن المشكلة أكبر من أن نقلل من شأنها وأنها لا ترتبط بفئة من الفئات أو توجه من التوجهات وإنما هي تجسد ثقافة مجتمع وتربية شعب ومفاهيم متوارثة تسكن عقولنا جميعاً وتستوطن داخل نفوسنا جميعاً وتقودنا جميعاً إلى هذا النمط من التفكير وإن تفاوتت درجة الاستجابة له بيننا تفاوتاً نسبياً فهناك من يحمله هذا التفكير إلى الموت (جهاداً في سبيل الله) كما يعتقد وهناك من يدفعه إلى التعاطف مع القتلة والمطلوبين والنظر إليهم كأبطال وهناك من يجعله تفكيره يتستر عليهم بل ويقدم لهم الكثير من العون للهرب من وجه العدالة والاحتكام إلى القضاء والمثول لأحكام الشرع الحنيف وهناك الأخطر من هؤلاء جميعاً وهم الذين يغذون عقول الصغار بتلك الأفكار التكفيرية وباسترخاص الحياة والموت في سبيل الوهم كما أن هناك من يوفرون الأسباب لهؤلاء المساكين المغرر بهم لمغادرة البلد والالتحاق بكتائب الإجرام وتجار الحروب في غفلة منا جميعاً. ورغم كل ذلك فإن هناك من يتأفف عند طرح قضية المناهج الدراسية ويرفض بشدة أي شكل من أشكال المراجعة والتصحيح لما انطوت عليه من اجتهادات قادت الكثيرين منا إلى سوء التكوين أو الفهم وأدت بشبابنا إلى الاندفاع في أتون هذه المآسي. والحقيقة أن المشكلة تتصل بالنظام التعليمي بأكمله وليس بالمناهج الدراسية فحسب، كما أنها تتصل بالنظام الاجتماعي وبما يعانيه من تفكك واضطراب وتناقض حاد أدى إلى تحلل أوصاله والتأثير على بنيته العامة. وليس بعيداً عن هذا وضع النظام الإعلامي أيضا فقد ساهم ـ لسوء الحظ ـ في تبني تلك الأفكار ومنذ وقت مبكر وعمل على ترسيخها دون وعي كاف بالآثار المدمرة التي قادتنا إليها توجهاته السطحية بحث الناس بصورة عمياء على المشاركة في حرب تحرير أفغانستان ضد الغزو الروسي وهي الفترة التي مازلنا ندفع ثمن غيبوبتنا واندفاعنا ومشاركتنا فيها لأضخم عملية استلاب فكري كنا أكثر ضحاياه وأكبر المتضررين منه حتى اليوم وإلى أن نصحح الوضع برمته. إن أي خطط أو دراسات أو حلول لا تتعامل مع الأنظمة الثلاثة بكل جدية وبعيداً عن الحساسية أو التردد أو الالتفاف فإنها لن تعالج الخلل في التكوين ولن تحول دون تعرض البلد بسبب الإرهاب ـ لا سمح الله ـ لكوارث لا يعلم مداها إلا الله. ذلك أن الحلول الجزئية أو السطحية أو المؤقتة لا يمكن أن تحقق الأهداف العليا التي ترمي إليها الدولة ويتوق إليها المواطن وتحقق الحماية الكافية للوطن. ومهما كان الأمر دقيقاً ومعقداً. ومهما كان الغوص في جذور المشكلات المؤدية إلى اختلاط المفاهيم وضبابية الرؤية إلا أن الأمل يظل معقودا على رجالات هذه البلاد وعقولها الكبيرة بعلمها وبالغ حكمتها وسلامة تفكيرها وبحرصها الشديد على تصويب الأخطاء وتصحيح المفاهيم والبعد عن المتشابهات وتبسيط الأحكام وإنقاذ الأمة من سلبيات التشدد وأخطاره. فنحن نعيش في عصر تحكمه المعرفة وتربط بين دوله وشعوبه مصالح معقدة وتفرض على الجميع أنظمة وقواعد مشتركة تؤمن بالتعددية الفكرية وبالحريات العامة وبالاستيعاب الكامل للآخر وبالتعامل بالمثل وهي أنظمة وقواعد لا تتعارض مع قواعد الشرع وحقيقة الإسلام وجوهره وليس كما يحاول البعض أن يصور عقيدتنا السماوية السمحة على أنها ضد كل تطور وعلى النقيض من السلوك الإنساني السائد.إن هؤلاء وليس أعداء الإسلام هم الذين يسيئون إليه ويلقون عليه صبغة لاهوتية ظالمة وإلا فإن الخير كل الخير في هذا الدين. وإذا كان هناك من سوء لفهم نصوصه وأحكامه، فإن ذلك راجع إلى عجزنا وإلى ضيق أفقنا وإلى قصور وعينا وعلينا أن نعالج ذلك بدل أن نجعل وطننا يعيش مأزقاً تاريخياً انغزاليا لا ذنب له فيه. إن معالجة هذا الجانب في النظام التعليمي لابد أن تتزامن مع غربلة الواقع الاجتماعي المختل فنظام الأسرة يتعرض لهزة عنيفة بفعل غياب الاهتمام بالدراسة والتخطيط لهذا الجانب والانشغال عنه بأنماط الحياة المادية وتنمية الثروة وصنع الوجاهة الاجتماعية وبحث المرأة المضني عن الوظيفة بعيداً عن المنزل أو المدينة الواحدة التي يعيش فيها الزوج والأبناء وتفاقم الفجوة بين الآباء والأبناء وانتشار المخدرات. كل هذا يحدث في الوقت الذي لا تقوم فيه الجامعات ومراكز الأبحاث المتخصصة، بما فيها الرسمية منها بالدور المطلوب لإعادة لملمة أوصال المجتمع وتجميع شتاته.والأخطر من هذا أن تظل المؤسسة المالية والنقدية والتجارية كالبنوك والشركات بمعزل عن المساهمة في تحمل أعباء مسؤوليتها الاجتماعية بالكامل.وهذا موضوع واسع يحتاج إلى معالجة في وقت لاحق). كل هذه الأعراض التي يعاني منها النظام الاجتماعي في جانبه الحقوقي أو الأخلاقي أو الإنساني تمثل أرضية خصبة لتفاقم ظاهرة الإرهاب وعجز المجتمع عن حماية أبنائه وتصحيح مسارهم ومنعهم من الاندفاع المجنون إلى الموت بكل سهولة. لكن المظلة الأكثر أهمية في هذه المعالجة هي المظلة الإعلامية التي تحتاج إلى إعادة رسم لسياساتها ومنهجية عملها وتطوير أدواتها ووسائلها وتصميم لغة خطاب جديدة مستمدة من معطيات المراجعة لنظامي التعليم والمجتمع وإلا فإن الحالة الإعلامية المتصفة بالتشوش والتناقض سوف تزيد الأمور سوءاً بدل تصحيحها وتقويمها وصنع مبادرة المجتمع كل المجتمع للقضاء عليها. إننا بحاجة إلى إعلام قائد في مرحلة هي الأخطر والإعلام القائد يحتاج إلى حركة أفضل في هواء طلق وسليم. ضمير مستتر: من لا ضمير له... لا أمان له... ولا اعتماد عليه...ولا ثقة به .*قلا عن / صحيفة ( الوطن) السعودية
أنظمة مسؤولة عن التشدد
أخبار متعلقة