مع الأحداث
يقول الناقد الفرنسي الشهير «رولان بارت» إن الثرثرة نوع من أنواع الحُبْسَة. والثرثرة التي يقصدها بارت ليست ما نعنيه عادة من إفراط في الكلام وإسراف في القول دون مغزى. بل هي تكرار ما قيل. وبرأيي فإن أسوأ أنواع الثرثرة أو التكرار هي التي يغيب فيها الإنسان وراء مقولات وعبارات إما مأثورة وإما مشهورة حتى لكأنه لا يقدر على قول شيء من عنده. فلو ألقينا نظرة عاجلة على البرامج الجماهيرية التي يُعطى فيها المايكرفون لأفراد الشعب فإنه يدهشك هذا الكم الهائل من الثرثرة بالمعنى (البارتي) أو (البارطي) كما يقول المغاربة.فالجميع تقريبا لا ينطق عن ذات نفسِه , بل يتكلم بـ( العبارة المثالية النموذجية) التي تروج لها وسائل الإعلام ومصادر التربية ووسائط التعليم. وهذه(العبارة) لا تشفُّ عن شيء إطلاقاً , بل هي تمارس حجباً كثيفاً على الواقع الذي تتحدث عنه , أو الشيء الذي تشير إليه. حتى إنك لتتنبأ بكل ما سيقوله الناس بصدد هذا الموضوع أو ذاك! فهل هناك شخص واحد - وواحد فقط - يتكلم بدلاً من الناس.. يقف من وراء حناجرهم ومن خلف آذانهم جميعاً؟!هذه العبارة المثالية المبتذلة جداً ليست ذات صياغة واحدة فقد تتخذ عدة صياغات وأشكال.. ولكنها هي هي من حيث المحتوى ومن حيث التوجه ومن حيث المقصد.إنها تنمو -أي العبارة- بكثرة في الأماكن والمحافل الإعلامية والتعليمية والجماعية. كلنا نصبح في هذه اللحظة وعاظاً ومثاليين جدا. نصبح شخصاً واحداً , ولكننا وقتما نخلو إلى أنفسنا نترك هذه العبارة وراء ألسنتنا وليس على أطرافها.. نتركها قريبا منا لعلَّ طارئاً يطرأ!هل هو الخوف أم الجهل أم النفاق أم ماذا؟ هذا الذي يدفع كثيراً من الناس إلى تحاشي الصدق في التعبير؟! أم هو شيء أعقد من هذا وذاك؟ ماذا عساه أن يكون؟إن الوعي الجمعي لدينا -أي الثقافة العقلية التي تربينا عليها وتلقيناها في المدارس والمعاهد- يصرُّ دائماً على أن يحشر نفسه في كل صغيرة وكبيرة.. في كل ما هب ودب! لا يريد منا هذا الوعي أو العقل الجمعي أن نتعب وأن نفكر وأن (نشقق) الكلامَ كما يحلو لنا! فهو حنون علينا , رؤوف بنا.إن نظرة خاطفة أخرى على المناهج التعليمية وعلى طرائق التدريس الرسمي وغير الرسمي يخبرك بأفضل مما يحاول قلمي أن يخبرك به. فالطالب منذ المراحل الأولى يخضع لبرنامج محدد وتفصيلي جدا. برنامج تربوي أخلاقي فكري, يقود الطفل وراءه كالدمية.. كالآلة. إنه الطريق الذي لا بد له أن يسير عليه... لسبب بسيط ؛ وهو أنه هو الطريق الوحيد فقط! حتى طريقة دخول الحمام وطريقة قضاء الحاجة مرسومة مسبقاً للطفل.. فليس له أن يفكر أبداً أو أن يخطط لحياته. فـ(نحن) نخطط له. والـ(نحن) هذه ليست سوى ثقافة المجتمع التي يعبر عنها الوعي الجمعي بكل تجلياته, التي تمت صياغتها ورسمها من قبل قلة قليلة من الناس الذين يسمون في علم الاجتماع بقادة الرأي! أما قادةُ رأيـ(ـنِا) نحن السعوديين فهم أكثر غموضاً وأكثر انتشاراً وأكثر تعقيداً. ليس لهم وجود واضح ولا محدد. يظهرون فقط في أوقات معينة. يتلونون بأسرع مما تتصور. ينقلبون فجأة إلى النقيض دون سابق إنذار, وأحيانا دونما مبرر معقول![c1] *** [/c]فلنعد إلى (بارط).. هذا الناقد الذي لا يحب المقابلات الصحفية ولا يحب الكلام.. لأنه من عشاق الكتابة. إنه يخشى بشدة من السقوط في الثرثرة , في التكرار.. في الكلام لمجرد الكلام. يقول للصحفي الذي أجرى معه حواراً : لا أشعر بالراحة حينما أتكلم- يقصد عن موضوعاتٍ تناولها سابقاً بالكتابةٍ- حينما أطلق لساني لتكرار لكتابة.. إني أشعر وقتها بانطباع يفيد بأنني غير نافع![c1] *** [/c]أتمنى أن نكون أكثر تعبيراً عن أنفسنا.. عن ذواتنا. ولن نكون كذلك مادمنا نستعير الكلام من تلك «العبارة الاجتماعية التربوية» الجاهزة![c1]* عن/ صحيفة ( عكاظ ) السعودية[/c]