أفكار
يبـدو الدور الإقليمي لمصر أكثر نشاطا في كل من القضية الفلسطينية والمسألة السودانية، بحكم ارتباطهما المباشر بالأمن القومي. لكن البعض يتساءل عن أسباب تكثيف الجهود في الأولي لإتمام مصالحة وطنية شاملة وتراجعها في الثانية.فقد رأينا إصراراً على الجميع شمل الفصائل الفلسطينية في القاهرة، ومحاولة تذليل العقبات التي تعترض طريقها، سواء لجهة تسوية خلافاتها البينية أو تهدئة مشكلاتها الإسرائيلية. في حين تركزت الجهود في الحالة السودانية على توثيق علاقات التعاون مع الحكومة، وتمديد خيوط التواصل مع عدد كبير من الفصائل. ومراقبة التطورات السياسية والعسكرية عن كثب. وممارسة أنواع مختلفة من الدبلوماسية الناعمة في الشمال والجنوب والغرب والشرق. كما تقوم مصر بمساع متعددة لتجاوز المطبات السياسية والعراقيل الجنائية التي تواجه النظام السوداني مع بعض الجهات الإقليمية والدولية. ناهيك عن المشاركة بالإعداد أو التشاور في كل المحطات واللقاءات التي عقدتها الخرطوم مع معارضيها, في عواصم افريقية وعربية.بالتالي هناك قواعد متينة للقيام بدور فاعل في المصالحة السودانية، لا تقل أهمية عن مثيلتها الفلسطينية، لأن الهدوء والاستقرار على الجبهتين مهما للحفاظ على الأمن القومي، والفوضى والانفلات من مصادر تهديده الرئيسية. وإذا حاولنا الاقتراب أكثر من المشهد سنضع أيدينا على عدة نقاط تاريخية وإستراتيجية، تفسر وتبرر الانخراط الدائم في القضية الفلسطينية، والحرص على توحيد أطرافها الوطنية. ما يهم في هذا المقام الاجتهاد للتعرف على أسباب العزوف المصري عن رعاية مصالحة سودانية شاملة, في ظل امتلاك أدوات القدرة المادية والقدوة المعنوية. ويتواصل العزوف منذ سنوات خلت، كانت فيها الخلافات بين الحكومة السودانية والمعارضة تنحصر في أبعاد سياسية، والمخاطر التي تهدد البلاد أقل حدة من الناحية الأمنية. فخلال الفترة التي اتخذ منها’ التجمع الوطني الديمقراطي’ القاهرة مقرا له، أعطت الجهود المصرية أولوية لتقريب المسافات بين الجانبين، ولم تطرح آنذاك مبادرة متكاملة للمصالحة الشاملة أو الجزئية. حتي اتفاقية’ نيفاشا’ التي وضعت أسس السلام في الجنوب بين الخرطوم والحركة الشعبية تم توقيعها في كينيا برعاية إقليمية ودولية مشتركة. وعقدت غالبية لقاءات المصالحة مع الشرق في أسمرة. وجرت معظم جولات السلام بشأن دارفور في أبوجا وأروشا وطرابلس وسرت والدوحة.الحاصل أن قضايا السودان على درجة كبيرة من التباين، بصورة يصعب معها الوصول لمصالحة من خلال مبادرة خاطفة من هنا أو رؤية غير مدروسة من هناك. وتعطي التجربة المصرية أهمية للظروف المناسبة كشرط أساسي قبل الإقدام علي أي مشروع للمصالحة السياسية. لذلك فرعاية أو استضافة محادثات أو طرح مبادرات عملية ستكون عديمة الجدوى، ما لم تتوافر لها الإرادة والاستعداد والأجواء التي تساعد علي النجاح. كما أن الأزمة الساخنة في إقليم سوداني تتشابك مع ملفات حيوية في أقاليم أخري، وتؤثر عليها من زوايا متعددة. فكل من الاستقرار أو الفوضى في دارفور يلعب دورا في تثبيت أو اهتزاز اتفاق السلام في الجنوب. وتمدد بعض الأحزاب الشمالية في الشرق وفتح قنوات لها في الغرب، يسهم بدرجات مختلفة في دعم أو رفض التسوية في كل من الإقليمين.في هذا السياق، تقوم الولاءات الخارجية لبعض الفصائل بدور معتبر في خلط كثير من الأوراق السودانية. ولعل زيارة عبد الواحد نور زعيم أحد أجنحة’ حركة تحرير السودان’ لإسرائيل مؤخرا، أكدت هواجس الحكومة السودانية من تأثير هذه العلاقة على الأزمة في دارفور. ويضاعف ما يتردد حول ارتباط خليل إبراهيم زعيم حركة ’العدل والمساواة’ بعلاقات سياسية وقبلية مع النظام الحاكم في تشاد، من مخاطر الأيادي الخارجية على الأمن والاستقرار في السودان. على أساس هذا النوع من التداخل وما يتمخض عنه، يمكن قياس حزمة كبيرة من التوجهات المعلنة والعلاقات الخفية لحركات وفصائل أخرى في كافة ربوع السودان.من جهة ثانية، يؤدي تزايد أعداد اللاعبين على الساحة السودانية، لأسباب سياسية وإنسانية واقتصادية، إلى ترسيخ المشكلات، التي تقف حائلا أمام نجاح أي مبادرة للمصالحة. فكل طرف له حسابات تدفعه إلى المساعدة في تسوية أو التشجيع على استمرار رفع السلاح. وسط كثرة التفاعلات الخارجية وتداخلاتها المحلية, ساهمت مناورات الخرطوم لشق صفوف معارضيها في تعميق الشروخ السياسية، حتى أن أول اتفاق يتم توقيعه مع أحد الفصائل درج السودانيون على تسميته بـ ’ حسن النيات’. وأربكت خلافات الحكومة السودانية مع عدد من القوى الإقليمية والدولية عددا من أطروحات التسوية, فأصبح الحديث عن مصالحة شاملة ضربا من الخيال. وفرض الأمر الواقع ميلا نحو الحلول الجزئية، أي حل أزمة كل إقليم علي حدة. لكن ما يجري بشأن دارفور خروج على هذه القاعدة، لأن تأييد الحلول الثنائية الراهنة, سوف تكون له تداعيات سلبية متنوعة.إذا دققنا النظر في المعايير السودانية السابقة سنجد أن هناك جملة من القواسم بينها وما يجري على الساحة الفلسطينية, مع فروق طفيفة في طبيعة التوجهات السياسية و الممارسات الحركية والانتماءات العقائدية،بمعنى توجد تعقيدات وتشابكات وتدخلات, ومع ذلك لم تتوان مصر لحظة عن مواصلة جهودها للمصالحة الوطنية.،لأنها تدرك أن الابتعاد عنها يفتح الباب لدخول جهات لديها تصورات مناهضة للمصالح المصرية، والرضوخ لبعض الابتزازات له انعكاسات سيئة على الأمن القومي. من هنا يحتاج السودان مبادرة مصرية للمصالحة المتدرجة تبدأ من دارفور، تتجاوز الحساسيات التاريخية وتستثمر الوشائج الحالية مع القوي السودانية. ولدينا مقومات متشعبة وعلاقات متعددة ونوايا مخلصة لهذا الدور. فقد دخل السودان مرحلة حرجة توشك أن تفضي به إلي التفتيت. وهو ما يرخي بظلال قاتمة على مجموعة كبيرة من مصالحنا الإستراتيجية. فهل آن الأوان لنمسك بزمام المبادرة والمصالحة في دارفور ؟.[c1]* عن/ صحيفة (الأهرام) المصرية[/c]