ومآسي النوايا الطيبة الاختيار
[c1]عبدالله علوان[/c]تأتي عبارة ( القاع ياطير الأطماع) في بداية المبيتة الاخيرة من قصيدة الشاعر عبدالرحمن الآنسي ( طرب سجوعه وكرر)..والعبارة تنطوي على معاني النهي والزجر، وتفوح بنفاد صبر الشاعر من لجاجة الطير وعدم اقتناعه بحقيقة يحاول الشاعر ان يقنعه بها بالنصح والوعظ الاتعاظ وبضرب الامثال له ومن خلال تجربته بذلك الظبي الارعن، الذي مازال الطير يعقد عليه آماله، رغم ما شاهد من تصرفاته الرعناء وسلوكه الغادر ، وفي هذا الطير وذاك الظبي الارعن ، ندرك ليس فقط مأساة الطير وعدم اعتباره بتجربته او الاتعاظ بها من خلال نصاحة الشاعر، بل ندرك ايضاً مهزلة الظن ، ظن الشاعر بالظبي، قبل ان يعامله ويتعامل معه ، فوجده احمق من ضب، وأغدر من افعى.لكن اولا نجد في الطير شيئاً من فهاهة باقل وبلاهته ...؟ بلى ... والا لما ناح على فراق الظبي الارعن، ولما ندم على تجربته به وصداقته له ، بدون وعي به وبدون معرفة بما اختار ....؟ تقف القصيدة على عدة مفاهيم جمالية ، ابرزها مفهوم او مبدأ الاختيار المعتزلي الذي ينطوي على معنى الحرية، ثم مايترتب على هذا الاختيار، من عواقب وخيمة ساقت الطير الى الاسى والاسف والى الندم والندامة، ثم قام باسقاط مأساته على الاخرين ، ولم يعترف بورطته ، رغم انه السبب في توريط نفسه لانه انساق وراء الظبي الارعن بدون وعي به ولابصيرة بما اختار ، وبدون اعمال العقل والنظر في ما اختار ، لقد انجرف الطير وراء جماعة هي الاخرى متورطة بذلك الظبي الارعن ، انجرف الطير وراء ( صايح القوم ،يوم توطو تهامة) وقد كان يوما مشؤوماً ،نجد الشاعر يدعو عليه وعلى خيبة الطير من ذلك اليوم ، فـ ( لاكان من اليوم) الذي انصاع الطير فيه لاختياره البائس، ورجع يحالف الندامة ويسقط اوظار اللوم على رؤوس اخوانه او رفاقه..لكن مضمون القصيدة يقول لنا وبدون قصد ، ان مفهوم الاختيار ويكنى عنه ( باصطحاب السلامة) هو الآخر مفهوم يكتظ بالحماقة ، مثله مثل النية الطيبة او الظن الحسن الذي ظنه الشاعر بالظبي الارعن فتكشف في سياق التجربة عن رعونة او عن حماقة..وهذا الظن الحسن، او النية الطيبة، هو ما اعتقد به الشاعر في الظبي الارعن او قل ان ظنون الشاعر كانت لاتقل مأسوية عن اختيار الطير..ومن هذه التجربة ، تجربة الطير في اختياره وحسن ظن الشاعر بالظبي نشأت مفاهيم اخرى، مثل مفهوم العبرة بالآخرين والاعتبار بتجارب الغير، ثم التحرر من قيود الظن والاختيار، فكل مختار مكره على اختياره كما يقول الأشاعرة، ومعلوم انه ليس كل ظن حسن ، بل ان بعض الظن إثم، وعلى هذا وذلك يقوم مبدأ ( الدين النصيحة) عند الأشاعرة ومبدأ الاعتبار ليس بالغير وحسب ، بل وبالحقائق التاريخية والاجتماعية ( إن في ذلك لعبرة لأولي الابصار)..[c1] القاع يا طير الأطماع[/c]تقوم القصيدة ، على المناظرة ، والحوار، والاخبار، وهذه المناظرة تجري بين الشاعر والطير وبالتالي حوارهما عن تجربة الطير ومأساته في الاختيار، ثم مأساة الشاعر في حسن ظنه، او نيته الطيبة التي تكشفت عن خطأ وسوء تقدير بالظبي الارعن فعن هذ الخطأ وسوء التقدير كانت مأساة الطير والشاعر وتنسرد القصيدة في خمسة مبيتات، لكل مبيته توشيح ، ولنبدأ بالمبيتة الاولى:[c1]بيت[/c]طرب سجوعه وكرر****طير الغصون الرطيبهلما رأى الليل اسحر****وشقق الصبح جيبهومال بالغصن الاخضر****فوج الصبا في هبيبهمدري ذكر او تذكر****عهد اللقا من حبيبه [c1]توشيح[/c]فناح والنوح لائق****لكل عاشق مفارقومن طيور البواسق****تعلمته الخلائقالمبيتة اعلاه تصف طير الغصون الرطيبة وتكريره للشاعر كلامه المسجوع والمنغم ، وكان ذلك عند السحر، وقبل انبلاج الفجر ، ومع التطريب والسجع مال فوج الصبا بالغصن الاخضر، ومع ذلك كان الشاعر محتاراً من كلام الطير ونواحه، فلم يدر ما اذا كان الطير قد عاودته الذكرى بعهد اللقاء من حبيبه ام مجرد انتشاء وتطريب لمحض التطريب، ثم يأتي التوشيح ، ليبرر الشاعر للطير نواحه، فالنواح ليس مشروعاً وحسب بل لائق لكل عاشق مفارق لما يعشق ، ان خيرا فخير وان شرا فشر، وهذا النواح وذاك التطريب ، كان ومازال ضرورة يمارسها طيور البواسق، ومن هذه الطيور البواسق تعلم الخلق ، بل الخلائق، ليس فقط النواح والعشق، بل تعلموا التطريب والسجع ، اوقل ان الشاعر يقول بدون قصد بنظرية الانعكاس وقولها بأولوية المادة على الوعي ثم ينتقل الى المبيته الثانية :[c1] بيت[/c]ياطير مافي الهوى خير****ولامع الحب راحة وماجرى فيه للغير****واضح أتم الوضاحةفان تعتبر انت ياطير****بالغير وتقبل نصاحةفقصر الحبل واحذر****بعد المدى من قريبه [c1]توشيح[/c]فمن تبصر بروحه****في الحب مأوى جروحهبحكمة الهند ويحه****ماهو ببكيه ونوحه تأتي المبيته الثانية هذه ، لتقدم نصاحة للطير، فمع الهوى والميول الذاتية والانفعالات الرعناء، لايكون الخير ولاتكون السعادة ، وانما يكون الويل والثبور ، ومع الحب ، الذي يكون سببه الهوى، لاتكون الراحة ولا السعادة ، وانما يكون الويل والثبور، ومع الحب ، الذي كون سببه الهوى، لاتكون الراحة ولا السعادة وانما يكون التعب والنصب والشقاء، وما جرى فيه للغير من مثل هذا الحب القائم على نزوات الهوى الارعن ، وعلى الاختيار المزاجي، كانت عواقبه وخيمة ، وان الاعتبار بالغير وبالآخرين، بمثل هذا كان واضحاً ، وبالاعتبار بالغير وبالآخر ، ضرورة كضرورة الوعي المنعكس بالممارسة عن الواقع ،وبالاعتبار يجب على الطير ليس فقط تقصير حبال الهوى، بل والحذر من سوء التقدير او إحكام العقل وإعمال النظر في المسافة ( بين بعد المدى من قريبه).ثم تأتي التوشيحة لتفسر النصاحة وتوضحها فعلى الانسان ان يكون بصيراً بنفسه في حبه ( بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره) الآية- من سورة القيامة، وهذه البصيرة هي التي تشفى الروح، فلايعالج الانسان جراح الحب بالبكاء والنواح ، او بالأسى والاسف ، وانما يعالجها بالحكمة والتعقل ( بحكمة الهند).ثم ينتقل الى المبيتة الثالثة :[c1] بيت[/c]ياطير كم محسن الظن****جنى عليه حسن ظنهاحسنت بالظبي الارعن****ظني فجا العيب منهفقلت قطع الهوى اهون****من حمل وصله بمنهفاصبح الشوق اكثر****لماتطاول مغيبه [c1] توشيح[/c]هيهات من يومك امسك****فبسك الشوق بسكوان اوحشك فقد انسك****فحجتك عند نفسك تسرد المبيته الثالثة تجربة الشاعر التي بدأت بالظن الحسن، او بالنية الطيبة ، وانتهت بخيبة الشاعر من ذلك الظبي ، الذي تكشف في سياق التجربة عن رعونة ، فاضطر الشاعر الى قطع العلاقة معه وهذا الظبي كثير المن على الشاعر بوصله ، وكان ترك الهوى معه وقطعه اهون عليه من تحمل منه بوصاله.لكن قطع الهوى هذا، ليس نوعاً من القطيعة الكلية، بل هي قطيعة معلقة بالوصل وقطيعة قوامها الصقل، والابتعاد ، والغرض منها التأديب- تأديب الظبي، على منّه بوصله ( قل لاتمنوا عليَّ اسلامكم بل الله يمن عليكم ان هداكم للأيمان ان كنتم صادقين سورة الحجرات) فلعله يشتاق الى الشاعر ان يشتاق الشاعر له، ويكون وصله ، وهذا من قول ابي تمام:فإني رأيت الشمس زيدت محبة****الى الناس ان ليست عليهم بسرمد وتأتي الموشحة الثالثة ، لترجع بالخطاب الى الطير وتذكره ببديهة لم يستوعبها الطير الذي ظل ينوح على ماضي علاقته بالجماعه ، وبالظبي الارعن، فليس بالامكان استرجاع مامضى ، لان الامس غير اليوم ولايمكن استرجاع الامس ، واسترجاع الماضي فيكفيك شوقاً واشتياقا الى الماضي الذي جرعك الويل والنكال ، فلا تعلل نفسك بما فات ومات.واذا ما استوحشت من فراق الظبي فليس من هو مسئول عن حالتك الموحشة، بل انت المسئول عنها ( فحجتك عند نفسك) كما قال تعالى ( وكل انسان الزمناه طائره في عنقه).ومن هذه الموشحة ينتقل الشاعر الى المبيته الرابعة وهي بيت القصيد عند الشاعر ، والتي تعالج مفهوم الاختيار ويكني به في صدر المبيته بعبارة ( انت اصطحبت السلامة) اي انت اخترت طريقك فلا تلوم الا نفسك[c1] بيت[/c]انت اصطحبت السلامة****من صائح اليوم بالقوميوم ماتوطوا تهامة****بالخل لاكان من يومفيا نديم الندامة****اطرح على نفسك اللوموسبح الله الأكبر****تسبيحة ألما العجيبة [c1]توشيح [/c]ماكل مافات يفدى****فالصبر وهو المبدئوبعده اليأس اجدى****فاليأس دوا والطمع دا ثم يأتي التوشيح ليؤكد ماسبق ان قاله ، وهو عدم امكانية استرجاع مافات فالبكاء على مافات نوع من الطمع في مالا يمكن نيله، والطمع هو الداء الذي يستفحل بالنادمين على ماقد مضى من التجارب الفاشلة سياسية كانت او فكرية عقائدية ، والدواء كل الدواء في اليأس مما لايمكن ارجاعه.واخيراً يجب الوقوف عند بيت القصيد بالنسبة لنا وهي المبيتة الاخيرة:[c1]بيت [/c]القاع يا طير الاطماع****امليت جو السماء ريشومالقيت الذي ضاع****بكثر دوار وتفتيشفاضرب سديه واقصر الباع****عمن ضرب دونك الميشوان عادله في المقدر****عوده فيومه بجي به [c1]توشيح [/c]نعم والا فلا لا****خف الطلب او توالاوالله اعلا منالا****سبحانه وتعالى [c1] يتبع [/c]