محمد زكرياذكرها الكثير من المؤرخين المسلمين القدامى ، و الرحالة العرب, والقادة الإنجليز العسكريين ، والبرتغاليين بأن مدينة عدن تعد أمنع البلاد وأحصنها يصعب اختراقها واقتحامها بسبب تحصينها الطبيعي القوي من جهة واستحكاماتها الدفاعية المتينة من جهة ثانية وصلابة مقاومة أهلها من جهة ثالثة . والحقيقة أنّ الدول المتعاقبة على حكم عدن على سبيل المثال إمارة بني زريع و الأيوبيين ، والرسوليين ، والطاهريين ، والعثمانيين كل تلك الدول أولوا عناية فائقة في تحصين وحماية المدينة من خلال إقامة الاستحكامات الدفاعية المختلفة والمتنوعة المتمثلة بتشييد الأسوار ، وإقامة الأبواب ، وبناء الحصون ، والقلاع ، والأبراج ، وحفر الخنادق وكل تلك المنشآت العسكرية تدخل ضمن العمارة الحربية التي ملئت رؤوس جبال شمسان ، و جبل التعكر ( جبل الخساف ) ، والجبل الأخضر ( جبل صيرة ) وجبل الحديد وغيرها من الشعاب ، والتلال التي تحيط بمدينة عدن أحاطت السوار بالمعصم . والحقيقة أنّ تلك القلاع والحصون ، مازال البعض منها ماثل للعيان يقاوم غوائل الزمان ، والأكثر منها صار أثراً بعد عين أو بتعبير آخر طويت في صفحة النسيان ، واختفت من ذاكرة الأمة . [c1]قلعة صيرة القديمة من بناها ؟[/c]ومن يمعن النظر إلى رؤوس جبال عدن سواء جبل التعكر المعروف حالياً بجبل الخساف أو الجبل الأخضر ( جبل صيرة ) والمرتبط بسلسلة جبال تطل على ساحل أبين المشهور بجبال المنصوري ، سيلفت نظره بعض بقايا آثار القلاع والحصون ، ومراكز المراقبة ( النواظير ، والمناظير والمحاريس ) . وتذكر المصادر التراثية أنّ على قمة جبل صيرة تربعت قلعة قديمة ، وأنّ تلك القلعة دمرت وأزيلت تماماً عن وجه قمة الجبل بسبب مدفعية الأسطول الإنجليزي في إبان أحداث معركة الاحتلال لعدن في صبيحة 19يناير سنة 1839م . وأنّ تلك القلعة الحالية المطلة من على جبل صيرة هي من تشييد الإنجليز . ولكن مع الأسف لا نعلم علم اليقين من بنى القلعة القديمة قبل الاحتلال الإنجليزي للمدينة ؟ . ومن المحتمل أنّ الذي بنى تلك القلعة القديمة العثمانيين عندما استولوا على عدن في سنة ( 945هـ / 1538م ) لأن إستراتجيتهم العسكرية كان هدفها هو حماية السواحل اليمنية من الأسطول البرتغالي بعد أنّ رأوا أنّ متابعة أساطيل البرتغاليين في عرض البحر ، قد سببت لهم الخسائر الكبيرة في أسطولهم ، فاتبعوا أسلوب دفاعي بحت في مواجهة تحركات الأسطول البرتغالي . ولقد نجحت تلك الخطة العثمانية إلى حد ما ، فقد حدت من نشاط و قوة البرتغاليين الكبيرين في البحر العربي والبحر الأحمر . وكان من البديهي أن يشيد العثمانيين تلك القلعة أو ربما قاموا بترميمها حيث يبدو أنهم وجدوها قبل مجيئهم إلى عدن فوق جبل صيرة المطلة على البحر العربي ضمن تحصيناتهم الدفاعية ، فنصبوا المدافع الثقيلة فوقها الذي أشتهر بها العثمانيين لضرب البرتغاليين إذا حاول الأخيرين الاقتراب أو محاولة احتلال عدن . وما يؤكد ما ذهبنا إليه أنّ القلعة القديمة بناها العثمانيين أو أعادوا بناءها وهو الحوار الذي دار بين أحد الضباط الإنجليز Wellestedوالسلطان محسن بن فضل العبدلي المتوفي ( 1847م ) " فقد رأى ( ولستد ) عدداً من المدافع ... وهي مدافع ضخمة مركبة على عربات هزيلة مصطفة على طول سور صيرة . قد بقيت منذ عهد العثمانيين . وسأل السلطان محسن بن فضل العبدلي ـــ الذي في عهده احتل الإنجليز عدن ــــ : " لم لا يصهر هذه المدافع المصنوعة من الصفر . والاستفادة منها ببيعها كما فعل محمد علي باشا في مدافع شبيهة بهذه تركها الترك في جده ؟ . فأجابه السلطان محسن : " أنّ قلبي لا يطاوعني فأحرم عدناً مما كان فيها من مجد وعظمة غابرين " . ودليل أخرى في الإمكان أنّ يعزز ما ذهبنا إليه وهو أنّ العثمانيين هم الذي شيدوا تلك القلعة العتيقة أو أعادوا بناءها المتربعة على قمة جبل صيرة قبل مجيء الإنجليز لعدن واحتلالها وهو عندما اشتعل القتال بين المدافعين اليمنيين على قمة الجبل والإنجليز استعمل الأولين مدافع ثقيلة لضرب السفن الإنجليزية التي كانت تقذف مدافعها على القلعة . ومن المؤكد أنّ تلك المدافع الذي استخدمها المدافعين ، كانت من بقايا مدافع العثمانيين الذين اشتهروا بالمدافع الثقيلة ـــ كما قلنا سابقاً ـــ والذين جلبوها معهم من استنبول لأن اليمن لم تكن تعلم عن المدافع إلاّ على يد العثمانيين . [c1]سور صيرة [/c]وانّ من أهم التحصينات و الاستحكامات الدفاعية التي ظهرت في العصور القديمة هو السور الذي تطور مع تطور الأسلحة الهجومية ، فقد كان في بداية الأمر يبنى من اللبن ثم بنى بالحجارة وتخلل السور الأبراج التي تربط بين سور المدينة بعضها ببعض حيث تشحن تلك الأبراج بالرجال والعتاد لصد المهاجمين على المدينة وإعاقة تقدمهم بل والهجوم عليهم إذا سنحت الفرصة لذلك وبذلك صار السور خط دفاعي وهجومي في آن واحد ولم يقتصر فحسب على الدفاع السلبي كما كان في الأزمنة القديمة. [c1]بنو زريع والسور[/c]ولقد ذكرت المصادر التراثية أنّ أول من سور مدينة عدن وعلى وجه التحديد من جهة الجبل الأخضر أو جبل صيرة هم بني زريع , وبعض الروايات التاريخية ترجح أن تسوير المدينة يعود إلى الدولة الزيادية ( 203ــ 409هـ / 818 ـــ 1019م ) ولكن لا توجد رواية أخرى تؤكد ذلك ولكن الشيء المؤكد هو أنّ بني زريع هم أول من بنى السور في عدن ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . ولكن المعطيات عن ذلك السور الذي بناه آل زريع يشوبه الكثير من الاضطرابات التاريخية ، فلا نعلم علم اليقين موقعه على وجه الدقة ، ، وهل بني على سطحه مرافق دفاعية ؟ . ولكن هناك معطيات توضح موقع السور من خلال رواية ابن المجاور ، وبامخرمة ، فقد ذكرا أنّ السور يبدأ من سفح الجبل الأخضر ( جبل صيرة ) حتى سفح جبل حقات . وتلقي معلومات أخرى مزيداً من الأضواء على موقع السور أكثر تحديداّ ودقة عما ذكره ابن المجاور ، وبامخرمة . فقد تم العثور على صور رسمت في القرن العاشر الهجري / القرن السادس عشر الميلادي ، والقرن الحادي عشر الهجري / القرن السابع عشر الميلادي ، تظهر موقع السور حيث " يبدأ قريباً من منتصف سفح الأخضر ( جبل صيرة ) ، ويتجه موازياً لسفحه ثم يشكل قوساً يلتقي بجبل حقات ثم ينعطف في اتجاه مواز لسفحه في اتجاه القطيع . وبهذا يمنع التسرب إلى المدينة من الساحل ومن جانب جبلي الأخضر وحقات " . ونستخلص من ذلك أنّ السور الذي بني في عهد بني زريع يتميز بطوله ولكن لا نعلم علم اليقين مواد البناء التي استخدم فيه هل من اللبن أو من الحجارة ، وأكبر الظن أنه بني من الحجارة لأنه من غير المعقول أن يبنى من اللبن لأن أمواج البحر العاتية ، قد تدمره في الحال . ولكن ّ بعض المراجع تذكر أنّ السور كان ضعيفاً وعندما جاء الأيوبيين إلى اليمن ، واستولوا على عدن سنة 569هـ / 1174م ، شيدوا سوراً قوياً في نفس موقعه القديم . [c1]السور والأحداث التاريخية [/c]والحقيقة أنّ السور مر بمراحل قوة وضعف ، ونقصد بأن الدول القوية التي سيطرت على عدن اعتنت بترميمه وصيانته والإشراف عليه بصورة دائمة لكونه يحمي المدينة من ناحية البحر ، وعندما تولى أمور المدينة دول ضعيفة تعرض السور إلى الإهمال الشديد وهذا ما حدث عندما نشبت الفتن والاضطرابات بين أمراء وحكام بني زريع في أواخر حكمهم . وحدث هذا أيضاً في أواخر عهد السلاطين العبادلة . ويرسم Wellested ( ولستد) ـــ أحد الضباط الإنجليز الذين زاروا عدن سنة 1835م ـــ صورة بائسة عن سور صيرة قبل احتلال الإنجليز لعدن بأربعة سنوات بأن يد الإهمال قد أخربته ، وقد اختفت معالمه تحت الرمال . و تعرض كذلك أجزاء كثيرة من السور إلى الهدم بفعل مدافع المماليك . وهذا ما دفع الشيخ عبد الملك بن عبد الوهاب أخو السلطان عامر بن عبد الوهاب بترميمه في ( 522هـ / 1516م ) " فعُمر عمارة قوية ، وكان غرضه أنّ يعمر السور كله على هذا النمط ، فلم يساعد على ذلك لكثرة المصروفات " . وتلك العبارة الذي أوردها بامخرمة تدل أنّ الدولة الطاهرية ، كانت تعاني الكثير من المشاكل السياسية الداخلية المتمثلة بتمرد وثور المناوئين لها من ناحية والتهديدات الخارجية المتمثلة في حصار الأسطول البرتغالي لسواحل اليمن من ناحية ثانية وأطماع المماليك في أملاكها من ناحية ثالثة وأخيرة . ومما زاد من اضطراب الحياة السياسية في الدولة الطاهرية ، وعجل بنهايتها ــــ هو مقتل السلطان عامر بن عبد الوهاب أعظم سلاطين الدولة الطاهرية الذي امتد حكمه على اليمن نحو 29عاماً ـــــ على يد المماليك في ( 923هـ / 1517م ) بالقرب من صنعاء . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ دراستنا للعمارة الحربية أو العسكرية في عدن هو في حقيقة الأمر دراسة للأحداث التاريخية التي طفت على وجه المدينة ، فتاريخ العمارة الحربية متصل اتصالا وثيقاً وشائجاً بتاريخ عدن فلا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض .[c1]باب السر[/c]من التحصينات والاستحكامات الدفاعية الهامة والتي تعتبر جزء مكملاً للسور هي الأبواب , ولقد اعتنى بها البناء أو المعمار اليمني عناية كبيرة وجعل لها وظائف عديدة من أهمها الحفاظ على حماية المدينة من المهاجمين من جهة وحماية الحاكم من جهة أخرى ، وكان من الطبيعي أن تتميز تلك الأبواب بالصلابة والمتانة . وأهم ما يميز الأبواب في المدن الإسلامية أنّ تكون" صفحت مصاريعها بالحديد لمقاومة ضربات العدو ". و تروي المراجع أنّ أبواب سور صيرة بلغ سبعة أبواب والذي يهمنا من تلك الأبواب التي تدخل في تأمين حياة الحاكم هو باب السر . والحقيقة أنّ هذا الباب يعد من الأبواب الخاصة ، و كان لا يعرف موقعه إلا الحاكم وبعض الحاشية المقربين إليه , وكان لا يستعمل إلاّ في حالات نادرة وضرورية عندما يكون الحاكم أو الملك حياته معرضة للخطر أو تنشب ثورة في داخل المدينة ، فيهرب منه إلى مكان آمن . وتروي المصادر التاريخية أنّ باب السر في سور صيرة ، كان تحته نفق غائر وعميق يصل إلى دار السعادة الذي بني بالقرب من جبل حقات . والحقيقة أنّ باب السر انتشر في العصور الوسطى انتشاراً واسعاً في قصور الأمراء والسلاطين . وقد كان ( باب السر ) في بداية الأمر هو باب خاص للحاكم أو الخليفة يدخل ويخرج منه دون أنّ يشعر به أحد " وتلك الأبواب الخاصة ــــ كما أسلفنا ـــ كانت الأساس الذي قام عليه انتشار (( باب السر )) بعد ذلك وخصوصاً في تلك العصور التي سادتها الفتن والاضطرابات كالعصر المملوكي ، فلم يقتصر إنشاء أبواب السر على القلاع ، ومراكز السلطة ، ولكنه ساد قصور وبيوت الأمراء المنتشرة في المدينة ، بل إنه امتد إلى المنشآت الدينية في منشآت السلاطين التي تمكنهم من الهرب إذا ما تعرضوا للحصار " . [c1]أحياء عدن القديمة ودروبها[/c]ومن الاستحكامات أو التحصينات لحماية المدينة من الاضطرابات ، والقلاقل ، والثورات الداخلية هو إقامة سكك ودروب لأحيائها وتلك الدروب تغلق في وقت حدوث النهب والسلب أو هروب المسجونين من الحبوس ( السجون ) أو بعبارة أخرى تعزل الحارات بعضها عن بعض من خلال الدروب حتى يتم السيطرة على الوضع من قبل السلطة على القلاقل والفتن . وقد كانت تلك الدروب سائدة في العصور الوسطى أو في تخطيط المدينة الإسلامية التي بلغت ذروة النضوج في القرن الرابع الهجري / القرن العاشر الميلادي . ولقد " امتد أثر تأمين الحاكم في المدينة على تخطيط منازلها التي وزعت في حارات تقفل عليها دروب ، ويسهل التحكم في عزلها بعضها عن بعض والسيطرة على أي اضطراب أو حوادث تؤثر في حالة الأمن بها " . والجدير ذكره أنّ تخطيط المدينة كان يبنى في الأساس على حماية وأمن الحاكم ، وكان ذلك بالتالي ينعكس على تخطيط حارات المدينة ، فالسكك والدروب ، والأزقة ، والطرقات والشوارع كانت كلها تخطط أو كلها تصب في حماية الحاكم. والحقيقة أنّ عدن تلك المدينة الراقدة في أحضان البحر و القابعة في وسط الجبال نشأت فيها عدد من الأحياء القديمة مثل حي حسين الأهدل الذي كان يسمى قديماً حي الشاذلية نظراً لوجود الطريقة الصوفية الشاذلية فيها ــ كما يقال ــ . وتفيد بعض المصادر التراثية بأن حي حسين الأهدل طفا على سطح وجه مدينة عدن في أواخر الدولة الطاهرية . ولقد زار هذا الحي بعض الأوربيين في مطلع القرن التاسع الميلادي ، ووصفه بأنه كان مليئاً بالأضرحة والأربطة الدينية علاوة على أن البيوت كانت مبنية بالطين أو اللبن وإلى جوارها أكواخ من القش . والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل كانت حارات عدن القديمة مثل حارة ( حافة ) حسين أو حارة القاضي أو حي القطيع أو حي أبان أو بتعبير آخر هل كانت تلك الأحياء القديمة شبيه بحارات بغداد ، والقاهرة ، و دمشق القديمة ؟ من حيث وجود الدروب فيها لغلقها في الليل ؟ . والحقيقة أنّ المعلومات تصمت عن إعطائنا فكرة عن تخطيط سكك ، وأزقة ، وطرقات ، وشوارع عدن القديمة في العصور الإسلامية وعلى وجه التحديد في حكم بني زريع ، والأيوبيين ، والرسوليين ، والطاهريين . وربما كانت مدينة عدن من المدن المفتوحة لكونها ثغر على البحر ، وتتميز ثغور المدن بأنها مفتوحة بخلاف العواصم التي تكون الأغلب الأشمل منها في مركز السلطة ، فكان لا بد من تحصينها , وإنشاء الاستحكامات الدفاعية لحماية أمن وسلامة الحاكم من ناحية و حماية المدينة ، من الاضطرابات ، والتمردات التي قد تطل برأسها في يوم من الأيام ولذلك خرجت تلك السكك والدروب لعزل الأحياء أو الحارات بعضها عن بعض في حالة حدوث قلاقل وفتن في داخل المدينة ــ كما قلنا سابقاً ــ . وتظهر ظاهرة الدروب بوضوح في ( المدينة الملكية ) وهي مقر الحاكم ، ومركز السلطة مثل قاهرة الفاطميين ، دمشق ، و بغداد وغيرها من المدن الكبرى في العالم العربي والإسلامي . ولكن من المحتمل أن تكون هناك دروباً في بجانب قصر المنظر فوق جبل حقات والذي يمثل مركز إمارة بني زريع الرسمي بهدف عزل الحي في تلك المنطقة في حالة وقوع فتن أو تمردات بغرض حماية و تأمين حياة الحاكم من الخطر . [c1]عدن في العهد الأيوبي [/c]في سنة 569هـ / 1174م ، جرد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي حملة عسكرية ضخمة إلى اليمن بقيادة أخيه الأكبر توران شاه ( ملك الشرق ) بهدف القضاء على البقية الباقية من النفوذ الفاطمي في اليمن من ناحية والسيطرة على عدن ذلك الميناء الهام الذي يدر أموالاً ضخمة تمكنه من تدعيم حروبه ضد الفرنج الصليبيين من ناحية أخرى . وهذا ما دفع الدكتور سيد مصطفى سالم ، أنّ يقول : " وكان صلاح الدين يرى في مد نفوذه إلى اليمن تدعيماً لمركزه في مصر بعد أنّ قضى على الدولة الفاطمية ، وأعلن الخطبة للخليفة العباسي ، كما كان يهمه أن يبقى نفوذ مصر في اليمن والحجاز مثلما كان في عهد الفاطميين " . ويضيف قائلاً : " وحتى تستفيد خزائنه من جراء سيطرته على موانئ البحر الأحمر . ومن المعروف أنّ الأيوبيين ، قد اهتموا بتنمية ميناء عدن بعد دخولهم إلى اليمن ، فارتفعت إيراداته إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه في العهد السابق " . وهذا يدعوا إلى القول بأن عدن كانت لها أهمية خاصة للدولة الأيوبية أو للدول المتعاقبة عليها ، فقد حرصت على حمايتها من الأطماع الأجنبية ، والطموحات المحلية . ولقد أدرك الأيوبيين أنّ ازدهار الحياة التجارية في عدن لا بد أنّ يسبقه الأمن والأمان ولذلك شيدوا الكثير من الاستحكامات الدفاعية في الثغر . ومن المحتمل أنّ القلاع ، والحصون ، والبروج وغيرها من المنشآت العسكرية المغروسة في رؤوس جبال شمسان ، التعكر ( الخساف ) ، والتلال والشعاب المحيطة بعدن الأغلب الأعم منها من إنجازات الأيوبيين الحربية .[c1]الأيوبيون وخبرتهم الحربية[/c] وكيفما كان الأمر ، فقد سيطر الأيوبيين على اليمن نحو أكثر من خمسين عاماً ( 569 ــ 627هـ / 1173 ـــ 1229م ) , وكان من البديهي أنّ يكون لهم تأثيراً بصمات واضحة على العمارة الحربية في المدن اليمنية الهامة ومنها مدينة عدن ــ كما قلنا سابقاً ـــ . ومن المعروف أنّ الأيوبيين بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي خاضوا حروب قاسية وطويلة ضد الفرنج الصليبيين ـــ كما هو معروف ـــ . وهذا ما دفعهم إلى تشييد الكثير من القلاع والحصون ، والأبراج للدفاع عن المدن الواقعة في بلاد الشام ، وفلسطين على وجه التحديد وانتشرت تلك الحصون والقلاع ، والبروج انتشاراً واسعاً في بلاد الشام وفلسطين وخاصة في منتصف القرن الثاني عشر بعد أن تحول الأيوبيين من الدفاع إلى الهجوم . ومن خلال التجربة والخبرة العميقين اللذين اكتسبهما الأيوبيين في بناء تلك الحصون ، والقلاع ، والبروج تفننوا في بنائها . وهذا ما نلاحظه في الكثير من البلدان الذين حكموها. وأروع الأمثلة على ذلك قلعة الناصر صلاح الدين الأيوبي الشامخة والضخمة المطلة على قاهرة المعز لدين الله التي تعد تحفة معمارية غاية في الإبداع في ميدان العمارة الحربية بصفة خاصة والعمارة الإسلامية بصفة عامة . [c1]الهيبة العسكرية الأيوبية[/c]والحقيقة أنّ الأيوبيين عندما وصلت حملتهم العسكرية إلى اليمن ، كانت تسبقهم شهرتهم الواسعة والعريضة في فنون القتال بسبب قتالهم الشرس مع الفرنج الصليبيين في بلاد الشام وفلسطين ، وانتصاراتهم الباهرة والعظيمة عليهم ابتداء من منتصف القرن الثاني عشر الميلادي الذي انقلبت فيه موازين القوى الحربية لصالح الأيوبيين أو العالم العربي ضد الفرنج الصليبين . وكانت تلك الهيبة العسكرية الأيوبية أكبر الأثر في تحطيم الروح المعنوية في صفوف المناوئين لهم في اليمن وإزاء ذلك كانت المدن اليمنية تسقط الواحدة تلو الأخرى بسهولة على يد السلطان توران شاه . ولقد شهدت اليمن في عهدهم الكثير من الحصون ، والقلاع ، والبروج ، والمناظير و المحاريس التي ملأت الحضر ، والوبر ، والسهول والجبال . وفي هذا الصدد يقول المؤرخ عبد الله محيرز: " ووصل الأيوبيون بخبرات عسكرية متفوقة ، وطريقة جديدة في الحرب ، وشهرة مشوبة بالهيبة كدولة كبرى لها صولات ضد الصليبيين ، ومنافسيهم في الشام " . وتلفت نظرنا عبارة محيرز وهي " وصل الأيوبيون بخبرات عسكرية متفوقة " . ومن المحتمل أن الأيوبيين جاءوا إلى اليمن بفنون قتالية جديدة أو أسلحة قتالية لم تكن معروفة لليمنيين من قبل في ميدان العمارة الحربية وتحديداً في تشييد أنواع جديدة من الحصون ، والقلاع الغير تقليدية من ناحية وجلبهم ــ أيضاً ــ معهم سفن حربية في حملتهم لم تعهدها اليمنيين من قبل من ناحية أخرى . وهي ( الشواني ) وهي سفن حربية تقذف لهب على السفن المعادية . بغرض " محاصرة الموانئ اليمنية ، ومهاجمتها من ناحية البحر " . ولقد استعملها الرسولين في القبض على المهربين والمعروفين بـــ ( المجورين ) والجدير بالذكر أنّ بني رسول كانوا امتداداً للدولة الأيوبية التي حكمت اليمن أكثر من مائتي عام ولكنهم مع مرور الوقت صاروا جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع اليمني . [c1]باب العقبة وتوران شاه[/c]وعندما حاصر توران شاه عدن في سنة 569هـ / 1173م من البحر ، حاول أن يستولي على عدن من جهة باب العقبة أي من البر , ولكن يبدو أنّ محاولاته العسكرية . قد باءت بالفشل بالرغم من ضخامة قواته الزاحفة على المدينة وربما تعرضت قواته إلى خسائر جسيمة في العتاد والرجال . وهذا ما فعه بأن أعمل الحيلة والخداع وذلك من خلال التفاهم مع حراس باب العقبة بهدف دخول قواته منها ومن ثم القضاء على إمارة بني زريع. وهذا ما أكد كلامنا حسن صالح شهاب ، بقوله : " ففتح عدن من جهة البر أمر صعب ، ولم يكن يتم إلاّ بتواطؤ حاميتها ، المرتبة على الجبال المحيطة بها . . . " . [c1]تحصين عدن والأمير الزنجبيلي[/c]من الشخصيات الأيوبية التي لعبت دوراً هاماً على مسرح أحداث تاريخ ثغر عدن هو الأمير الزنجيلي أو ألزنجبيلي . ولقد كان أحد الأمراء في حملة السلطان توران شاه على اليمن . ويبدو أنّ ألزنجبيلي هذا أظهر بلاء حسناً في الحروب الذي خاضها مع توران شاه في اليمن . وعلى أية حال ، تمكن الأمير ألزنجبيلي أنّ يكسب ثقة توران شاه مما جعل الأخير يوليه نائباً على إمارة عدن والتي تعد من أهم المدن اليمنية للأيوبيين ـــ كما ذكرنا سابقاً ــــ . وعندما رحل السلطان توران شاه من اليمن ، وبعد أنّ ثبت أقدام الأيوبيين فيها وأعادها إلى الخلافة العباسية . بدأ يلوح في أفق الأمير الزنجيلي حلم استقلال إمارة عدن عن الدولة الأيوبية المركزية في القاهرة . ولكنه لم يتجرأ أنّ يفعل ذلك إلاّ بعد وفاة توران شاه سنة ( 576هـ / 1181م ) . وكانت الخطوات الأولى والضرورية من أجل الحفاظ على استقلال إمارة عدن هو إقامة التحصينات والاستحكامات الدفاعية لحماية إمارته الجديدة من المناوئين له وهي الدولة الأيوبية في مصر على وجه الخصوص . ومن بين المنشآت الحربية الذي شيدها الأمير الزنجيلي أو ألزنجبيلي في إمارة عدن هي سور صيرة ، وفيه يقول عبد الله محيرز : " وعندما بسط الأيوبيون سيطرتهم على عدن ، أقطعوها عثمان ألزنجبيلي : أحد ولاتهم في اليمن ، فأنشأ سوراً من حصن الخضراء ( جبل صيرة ) إلى حصن التعكر ( جبل الخساف ) على رؤوس الجبال " . وفي موضع آخر يضيف محيرز معلومات أخرى عن سور صيرة ، قائلاً : " وتعطي المصادر لأول مرة تفاصيل محددة عن الاستحكامات العسكرية التي أنشأها الأيوبيون في العقبة لحماية المدينة. فقد أفاد ابن المجاور أنّ عثمان ألزنجبيلي بنى درباً من حصن التعكر على رؤوس الجبال ، وعبر باب عدن حتى حصن الخضراء ـــ الواقع على قمة جبل صيرة ـــ . وقد كان من أمنع حصون المدينة ، ثم درباً إضافيا من حصن الخضراء على الجبل الأخضر حتى أخره الذي يطل على خليج صيرة حيث يبدأ السور الساحلي الذي ينسب ابن المجاور بناءه إلى الزريعيين ، وجدده ألزنجبيلي متمماً بذلك الحلقة المحكمة للاستحكامات العسكرية للمدينة " . ويمضي في حديثه : " وقد لعب هذا الدرب دوراً حاسماً في حماية المدينة ضد أعدائها من ناحية والهيمنة عليها وعلى أهلها من ناحية أخرى . . . أضافت إليه الدول المتعاقبة ما تطلبته الظروف الدفاعية ، وما اقتضته تطور أساليب الدفاع " . [c1]عدن القلعة الحصينة[/c]ويزيد الأستاذ حسن صالح شهاب في توضيح الصورة عن الاستحكامات و التحصينات الدفاعية التي أقامها الأمير ألزنجبيلي أو الزنجيلي في إمارته الجديدة عدن ، فيقول : " اهتم عثمان ألزنجبيلي ، أو الزنجيلي ، عقب تعيينه نائباً على عدن من قبل توان شاه بتحصين مدينة عدن بالأسوار والحصون المنيعة من جهة البر والبحر ، وكأنه كان يريد أنّ يجعل منها قلعة ، يعسر فتحها من الجهتين لينفرد وحده بحكمها " . ويسترسل : " فمن جهة البحر مدّ سوراً متيناً من الحجارة والجص على طول ساحل عدن ، من الجبل ( الأخضر ) شمالاً إلى جبل ( حقات ) جنوباً . وركب فيه ستة أبواب هي ، من الشمال إلى الجنوب ، كالآتي : باب الصباغة ، باب حومة ، باب السيلة ، باب الفرضة ، باب ( مِشرف ) ، وباب ( حيق ) " والذي ذكرناه بأنه كان يسمى باب ( السر ) والذي تحدثنا عن باستفاضة . [c1]باب عدن و بنو زريع [/c]وقبل أن تظهر الدولة الأيوبية على مسرح الأحداث التاريخية في اليمن ، كانت هناك في عدن إمارة بني زريع التي حكمت عدن ولحج أكثر من ثلاثين عامـــاً( 532هـ ـــ 569هـ / 1137ــ 1173م ) . ولقد كان بنو زريع نواباُ للدولة الصليحية في عدن . وعندما أصاب الدولة الصليحية الشيخوخة , وذهبت رياحها وانكسرت شوكتها ، فقد انسخلوا عنها ، وأقاموا لأنفسهم إمارة جديدة في عدن . وكان من الطبيعي أنّ يهتم حكامها الأوائل في تدعيم استقلال إمارتهم الغنية . فاهتموا اهتماماً كبيراً في تحصينها تحصيناً عسكرياً قوياً ، وكان من جراء ذلك أنّ صدت الكثير من الحملات العسكرية الصليحية عليها التي جردتها السيدة بنت أحمد الصليحي المتوفاة ( 532هـ /1138م ) لتثبيت نفوذها السياسي عليهم . وكان من شروط الدولة الصليحية أنّ يتولى بني زريع الحكم في إمارة عدن ، هو دفع مائة ألف دينار في كل عام للسيدة بنت أحمد الصليحي . وعندما أخذت الدولة الصليحية في الغروب ــ كما أسلفنا ـــ ، رفض بني زريع دفع المبلغ كاملاً ، فوقعت بينهم وبين السيدة أحمد حروب عديدة . ولكن تلك الإمارة الزريعية الجديدة تمكنت من الصمود ضد تلك الحملات المتتالية الذي كانت تشنها الدولة الصليحية المركزية في جبلة بين حين وآخر ، وفشلوا فشلاً ذريعاً في اختراق عدن عبر البر بسبب مناعة باب عدن . وفي هذا الصدد ، يقول مؤرخنا عبد الله محيرز : " أنّ هذا الباب ( يقصد باب عدن ) الذي سقط في يد المكرم الصليحي ، قد استعصى على خلفه من الصليحيين ، ,أصبح في نصف قرن قادراً على الصمود ضد جيوش دولة فتية ترأسها السيدة بنت أحمد " . ويضيف ، قائلاً : " فمن الواضح أنّ الزريعيين تمكنوا من تحصين العقبة تحصيناً فعالاً جعل سقوط الباب واحتلال المدينة أمراً مستحيلاً " . [c1]مرجان الظافري[/c]ومن الشخصيات السياسية الخطيرة التي أدت دوراً هاماً في تحصين مدينة عدن في عهد حكم الدولة الطاهرية هو الأمير مرجان الظافري المتوفى (927هـ 1521م ) الذي كان نائباً للدولة الطاهرية في عدن . و في عهده شهدت المدينة أخطر الحملات عليها وهي محاولة الأسطول البرتغالي احتلالها في ( 919هـ / 1513م ) . وتذكر المراجع أنّ الأمير مرجان الظافري ، كان يتوقع هجوم البرتغاليين على المدينة ولذلك أخذ على عاتقه تحصينها تحصيناً متيناً بهدف إعاقة البرتغاليين من الدخول إلى المدينة. وأثبتت التحصينات والاستحكامات الحربية التي أقامها الأمير مرجان الظافري كفاءتها في صد الفرنج البرتغاليين عن مدينة عدن . وبعد تلك الحملة البرتغالية الفاشلة على عدن ، وصلت حملتان إلى عدن برتغاليتين. وكان الأمير مرجان ، قد استعد لهما حيث أقامة الاستحكامات والتحصينات العسكرية ، ومن جراء ذلك . فقد تردد البرتغاليين بالهجوم على عدن. [c1]التحصينات العثمانية [/c]في سنة 945هـ / 1538م ، سقطت عدن في يد العثمانيين . ولقد وضع العثمانيين خطة استراتيجية هدفها هو تثبيت السيطرة العثمانية على السواحل اليمنية بهدف طرد البرتغاليين من البحر الأحمر ، " فتحولت السواحل اليمنية بذلك إلى قاعدة بحرية هامة عند مدخل البحر الأحمر الجنوبي ، كما تحول هذا البحر بدوره إلى بحيرة عثمانية " . وبناء على ذلك فقد باتت عدن قاعدة بحرية عثمانية لما يمثله موقعها الهام لكونه المدخل الحقيقي لجنوب البحر الأحمر ـــ كما قال الدكتور سيد مصطفى سالم ـــ . وكان هذا يعني إقامة استحكامات وتحصينات دفاعية في المواقع الهامة من المدينة . ويقال أنّ بعض الحصون والقلاع الطافية على رؤوس جبال عدن تعود إلى الحكم العثماني الأول لليمن سنة ( 1538 ــ 1635م ) . ولقد استفاد منها الإنجليز عندما احتلوا المدينة سنة 1839م ، وقاموا بترميمهم وصيانتها . ولقد أفادتهم تلك الحصون والقلاع العثمانية إفادة كبيرة في صد قوات الفضلي ، والعبدلي على عدن . وهذا ما أكده حسن صالح شهاب ، قائلاً : " وفي عدن أقام الأتراك حصوناً وأسواراً على الجبال المطلة على مدخل عدن من جهة البر ، وقد استفادت القوات البريطانية ، عقب استيلائها على عدن ، من هذه الحصون والأسوار ، في صد هجمات عساكر مشيخة ( العبدلي ) و ( الفضلي ) على عدن " .[c1]الحائط التركي[/c]ومن أجل تحصين مدينة عدن ، أقام العثمانيين سوراً " يمتد من جبل حديد إلى البحر بساحل أبين ، تظهر أنقاضه في صورة فوتوغرافية ، نشرت في كتب (( ملوك بلاد العرب)) ليعقوب ، وتسميه المصادر الإنكليزية (الحائط التركي ) Turkish Wall . وكان بطرفه على ساحل أبين حصن ، وعلى طرفه الآخر حصن آخر على جبل حديد " . ولم يكتف بذلك العثمانيين في تشييد الأسوار أو السور ، والحصون والقلاع على رؤوس الجبال فحسب بل اعتنوا عناية فائقة " بباب عدن ، على تل ( العقبة ) فركبوا فيه ثلاثة أبواب ، يقول ( جوردين ) الذي زار عدن سنة 1609م . . . أنّ أحد الأبواب الثلاثة من حديد ، والاثنين الأخيرين من خشب صلب ثبتت فيهما مسامير غليظة . وجميع الأبواب تتحرك صعوداً وهبوطاً عند فتحها وقفلها " . محمد زكريا[c1]الهوامش :[/c] الدكتور عبد الستار عثمان ؛ المدينة الإسلامية ، عالم المعرفة ، 1408هـ / 1988م ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـــ الكويت ـــ . عبد الله أحمد محيرز ؛ الأعمال الكاملة . العقبة . صهاريج عدن . صيرة ، 1425هـ / 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ الحصبة ــــ .حسن صالح شهاب ؛ عدن فرضة اليمن ، الطبعة الأولى 1410هـ / 1990م ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ـــ صنعاء ــــ . الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ، الطبعة الثانية 2004م ، إصدارات جامعة عدن ـــ الجمهورية اليمنية ــــ عدن ــــ . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538ـــ 1635م ، الطبعة الخامسة نوفمبر 1999م، دار الأمين والنشر والتوزيع ـــ القاهرة ـــ جمهورية مصر العربية ــــ
|
تاريخ
العمارة الحربية في عدن
أخبار متعلقة