قصة قصيرة ::
لم يصدق نفسه . . لأول مرة بعد سنين طويلة ؛ يجد جسده النحيل ، ذا السنوات الثماني في حضن أم لم يكن بينه وبينها سابق معرفة ، أو لقاء . . قبلته . . ضمته إلى صدرها . . أحبها . . أحس بتعابير لا ترد عن أمومة دافئة كان قد نسيها قبل سنوات .قالت له : ـ من اليوم وطالع أني أمك !قال لها بابتسامة عريضة :ـ أنتي أمي وحبيبتي .ـ لا تقل يا خالة ، أو يا زوجة أبي ! !ـ أنتي أمي وبس !شعر أن قلبه يريد أن يرقص. . تمنى لو أنه يستطيع أن يحلق في الآفاق الرحبة كمثل تلك العصافير التي تملأ الآن سماء قريته . . لو أنه يغدو فراشة بين تلك الفراشات الجميلة اللاهية هنا وهناك . . لكنه مع ذلك لا يريد أن يترك حضن هذه المرأة . . فليس أجمل ولا أحلى ولا ألذ ولا أدفأ من البقاء في حضن الأم . . هكذا كان يكلم نفسه .قالت له :ـ هية يا حبيبي . . أني تعبت . . هل تريد أن تلعب في الشارع ؟ !تمنى لو أنها لم تسأله هذا السؤال . . لو أنها تركته في أحلامه بعض الوقت . . ود لو أنه ينام الآن في حضنها كما كان ينام في السنوات الأولى من طفولته في حضن أمه . . لكنه يعلم الآن أنه لا بد أن يطيع حتى يكتسب المزيد من محبة هذه المرأة التي لم تزل عروساً في أيامها الأولى ، خصوصاً أنه يشعر من الأعماق بشدة محبته لها ، وشدة احتياجه لمحبةٍ كان قد فقدها منذ سنوات . . شعر أن هذه المحبة كنز ثمين لا يمكن أن يفرط به .نزل من كرسيه في حضنها ؛ ليحافظ ـ حسب عقله النقي ـ على كرسيه في قلبها . . وبقيت هي تتبادل الحديث مع زائراتها في أول يوم بعد العرس بثلاثة أسابيع . . تحدثن كثيراً حول حكايات زوجها مع زوجته التي طلقها قبل شهرين . .وعن خلافاتهما ، وعن تجارته الواسعة التي أخرجته اليوم من بيته وهو ما يزال عريساً ، وما تتطلبه التجارة من طول الغياب في القرى والمدن ، وعن القسوة التي كانت تتعامل بها تلك المرأة مع زوجها وولدها هذا ،والأهم أنهن حذرنها من محبة زوجها البالغة لولده هذا ، وضرورة أن تحافظ هي على توازنها في هذه المحبة التي وصفنها بأنها غير متكافئة ، وخصوصاً أن المثل الشعبي يقول :لا تربي لك حنش في الجيب يصبح لك غريم ! !اسود وجه المرأة . . تذكرت عدداً من الحكايات التي ترويها النسوة عن خراب البيوت . . شعرت برعب شديد يهز أعماقها . . اضطربت كلماتها وحركاتها . . هي لم تصدق حتى اليوم أنها تزوجت بعد عمر من العنوسة . . دارت في ذهنها صور من الأفكار المفزعة . . ارتعدت . . ثم نكست رأسها في الأرض . . ثم رفعته مسمرة بصرها في جدار الغرفة . . كادت تضحك عندما تذكرت تأكيدات جاراتها أن غياب زوجها قد يدوم أكثر من شهر . . صارت حالتها غير مشجعة على استمرار الجلسة، تفرقت النسوة ؛ كل منهن إلى بيتها أو إلى شأنها ،خصوصاً بعد أن اطمأنت كل واحدة منهن كعادة النسوة على تقديم ما أمكنهن من التوصيات لجارتهن الجديدة . الطفل ( صالح ) لم يكن بعيداً . . ومع ذلك لم يأبه بهذا المجلس وما دار فيه . . فضل أن يبقى قريباً من المنزل ينظر في البعيد ، ثمة عصافير ظلت تحلق في الآفاق ، وثمة عقاب لا يمل من الترصد والمتابعة والانقضاض على أي هدف ، أو أي غفلة قد تبدر من أي طائر .وأخيراً نهض الصبي من محله . . تثاءب بعمق . . لكنه بعد ذلك أسرع باتجاه المنزل كمن ذكر شيئاً كان قد نسيه . . كمن ذكر واجباً مستعجلاً. . نادى بصوت حنون :ـ أمي . . أين أنتي ؟ !تباطأت في الرد . . لكنها لم تتأخر كثيرا .ًـ أني موجودة . . فين كنت ؟قالت وهي تحاول أن تتبسم كعادتها:ـ كنت بجانب البيت قال وهو يتمنى أن تحتضنه كعادتها . . وإن كانت لم تفعل هذه المرة: ـ أنت جائع مش كذا ؟ـ أيوه . . ربي يخليك لي ! ! بس عاده الوقت مبكر على العشاء .ـ وأنت كمان ربي يخليك لي ياحبيبي . . يا نور عيوني . . يا قلبي . . الليلة أني با عشيك أحسن عشى . . اللي ما تطعم بعده . . ولا طعمت قبله مثله ! !جلس صالح كأي طفل في عمره ؛ وهو لا يصدق نفسه مع ما لاحظ على وجه زوجة والده من تغير . .جلس فرحاً لا يكاد يستوعب الواقع الجديد . .بل يكاد يوقن بأنه في حلم ( هل يعقل ما أنا فيه ؟ هل هذه بالفعل امرأة أم ملك نزل من السماء ؟ يارب احفظ لي زوجة أبي . . وأطل لي في عمرها ! ! ) بقي يكلم نفسه(هل يعقل أن زوجة أبي با تحبني أكثر من أمي؟هل يعقل أنني لا أحلم؟! لقد حذرتني أمي من شيء ، وما أراه بعيني هو شيء آخر . . لقد كذبت علي أمي . . لقد كذبت علي أمي . . سامحها الله ! ! ) ومع ذلك فقد كان صالح الصغيرحريصاً على جمال ،وعذوبة اللحظات والكلمات ، يحاول أن يقنع نفسه بأن هذا هو الواقع .وأخيراً جاء العشاء . . تقدم هو نحو المائدة .. ـ هية يا أمي ! !ـ لا ياحبيبي كل بالهناء والشفاء ! ! حيث ما يسري يمري ! ! أني باراعي لبوك بدأ الصغير يأكل ، وهي تنظر نحوه من طرف خفي ،محاولة ألا تريه وجهها وهي تنظر نحوه بتلذذ كمن يترقب الفرج من ورطة كان لا يعلم كيف الخلاص منها . ـ كل يا حبيبي . . كل ! !قالت وهي تواصل النظر نحوه ، ولكن هذه المرة بابتسامة لم يعهدها من قبل . . ابتسامة أحس أنها مخيفة . . ومع ذلك ظل يحاول طرد وساوسه . . أن يحافظ على حبها له . ـ لكن ياأمي أيش هذا العشاء ؟ أنا عمري ما طعمت مثله ! !ـ أعجبك أكيد .ـ أيوه . . لذيذ بس ...قال،وهو يحاول كذلك ألا ترى وجهه ، كمن يرغم على شيء ،لكنه لا يريد أن يتكلم . .تمنى لو أن والده يحضر لحظتها ليدعوه على العشاء، ولكن دون جدوى . .بدأ يشعر بحالة من الغثيان . . كبا على ركبتيه . . أفرغ كل ما كان قد أكله إلى الأرض ، ارتمى شبه مغمي عليه . . صرخت هي:ـ الحقوني يا جيران ! ! الوليد با يموت قرع الباب بشدة . . دخل زوجها مهرولاً. . أصيبت بالذهول . . لم تدرِ ماذا تقول . .زوجها عاد خلافاً لتوقعات جاراتها. ـ أيش حصل ؟ـ مافيش حاجة ، بس الوليد يطرشخرج الرجل حاملاً ولده . . نادى على سيارة للإسعاف . .صرخ الولد . . اختنقت أنفاسه . . سقط على الأرض . .حمله والده إلى السيارة . . وفي الصباح عاد الجميع ـ بعد استكمال الفحوصات وتحديد الأسباب ـ وعاد صالح سالماً ، لكنه عندما دخل الباب ؛ لم يسع إلى حضنها كالعادة، ولم ينادها كعادته : يا أمي . . وكان زوجها لحظتها يسلمها ورقة طلاقها بصمت .