كانت بداية ظهور الطوائف في تاريخ المسلمين عن طريق تكريس كل طائفة ذاتيتها الخاصة، باحثة عن مساحة اختلافها مع الطوائف الأخرى، وما يميزها عنهم. وفي مقابل التعصب الطائفي كان ينشأ تعصب طائفي مضاد. يبدو من السابق للأوان أن اجعل عنوان هذا الحديث هو نفسه الاستنتاج الذي وصلت إليه بعد قراءات ومشاهدات واسعة. أنا لا أريد أن أثير لديكم شحنة من العجب وربما التعجب. لكنني أقول بما يشبه اليقين إن منطقة الخليج العربي لم تشهد حرباً طائفية ذات بال منذ القرن التاسع الميلادي وحتى الآن. واخترت القرن التاسع لأنه القرن الذي تشكلت فيه جماعات مذهبية دينية، وقامت فيه إمارات مذهبية في نواح مختلفة من منطقة الخليج. هذا الإرث التاريخي هو الذي أدى إلى نضوج ظاهرة الطوائف الدينية في الخليج. وفي هذا الصدد لابد من رفع هذا السؤال:ما الطائفية؟ هناك نوعان من الطائفية: أحدهما طائفية سياسية والأخرى دينية. أما الطائفية الدينية، التي هي مدار هذا الأربعاء، فهي ضرب من التبعية لمذهب، يتصف أهله عادة بضيق الأفق والتعصب، وربما التحيز وعدم التسامح تجاه الآخر. والطائفية الدينية يمكن أن تظهر في صيغ متعددة منها ما هو فردي، ومنها ما هو جماعي أو بصورة مهنية. وأخطر ما في الطائفية يكمن في بروز ملة دينية أو نحلة دينية ضمن دين واسع. الطائفية ليست قضية شخصية لا تهم إلا الشخص الذي يتصف بها، بل هي قضية عامة تهم الأمة، التي قد تعاني من ويلات الطائفية إذا لم يمكن التحكم فيها. وذلك لأنها تهدد حقوق الإنسان، والتسامح الديني، والعدالة الاجتماعية، ومبادئ عدم التمييز العنصري أو الديني. والطائفية قد تسيء إلى الأفراد إما بالقبول السيئ. أو قد يتطور الأمر إلى إيذاء جسدي وعنف لا يقف عند فرد بل يطال أثره الجماعة أو الأمة بأسرها. كانت بداية ظهور الطوائف في تاريخ المسلمين عن طريق تكريس كل طائفة ذاتيتها الخاصة، باحثة عن مساحة اختلافها مع الطوائف الأخرى، وما يميزها عنهم. وفي مقابل التعصب الطائفي كان ينشأ تعصب طائفي مضاد. سرعان ما يقود ذلك التعصب إلى مواجهة، وقتال وتصفية. لهذا نجد في اللغة العربية كلمات كثيرة تدل عن الطائفية أو نوع منها مثل: الملة والنحلة والفرقة والطائفة والمذهب وغير ذلك كثيرة، وهي وإن كانت كل كلمة تحمل دلالة معينة، إلا أن كثرة الكلمات في القاموس العربي، يدل على أهمية تلك القضية وسعة انتشارها. ورغم أن مفهوم الطائفية يظل ملتبساً في التناول التحليلي وفي الممارسة التاريخية، إلا انه يخفي تجاذباً صارخاً بين السياسي والديني. فالطوائف أو الفرق الدينية الأولى في تاريخ الإسلام كانت تحمل هماً سياسياً مباشراً. وهي قد وضعت نفسها في موقع المعارضة للحكم السائد. وحتى صراع المفاهيم الفكرية المجردة قد تضمن مضامين طائفية. ونضرب مثالاً واحداً من تاريخ المسلمين. ففي العصر العباسي، حرص الخلفاء العباسيون على الاستفادة من الاستقطاب الطائفي، مما حوّل العراق إلى ساحة صراع عقدي وسياسي. وهو أشد أنواع الصراعات الطائفية. وفي مقابل ذلك يأتي الصراع الفقهي السياسي. الذي هو بدوره أقل وطأة وخطورة من الصراع الأول. أقول تكون صراع طائفي عقدي سياسي بين السنة والشيعة في العراق أفضى إلى قيام مكونين سياسيين هما: دولة الخلافة ودولة الإمامة. ومع أن ذلكما المكونان قد تلاشيا إلى درجة كبيرة، فإن فكرة الانقسام لا تزال حية، لم يمحها ما يسمى بالاندماج المدني. وكان الدكتور رشيد الخيون يرى أن الطائفية الدينية في العراق قد تم توظيفها سياسياً منذ العصر الأموي حتى العصر الحديث. ويقول إن الحكومات المتعاقبة في العراق قد مارست الطائفية تحت غطاء وحدة المجتمع. الانقسام الطائفي السياسي أخذ بعده السياسي والقانوني كاملاً وأصبح قاعدة لقيام دول عديدة، أبرزها لبنان، الذي يتمتع بنظام برلماني ديمقراطي مبني أساساً على طائفية دينية سياسية. وهي طائفية شكلت مع مرور الأيام سداً منيعاً ضد استبداد الدولة، لكن في المقابل كانت الطائفية ولا زالت أداة إضعاف للدولة. وهو الاستنتاج نفسه الذي يذهب إليه أحمد الزعبي. وكان الكاتب مصطفى بكري قد ذهب أبعد من ذلك عندما رأى أن الطائفية في لبنان ذات أبعاد واسعة حتى أنها تؤثر في عقد اتفاقيات دولية. وفي دول الخليج العربي يرى أكرم ألفي أن شيعة الخليج قد تحولت من المصادمة إلى المشاركة عبر قنوات قد توصف بأنها قنوات سلمية. ففي السنوات الأخيرة كان الخطاب السياسي لشيعة الخليج ينحو بشكل مقبول نحو الاندماج في الأطر السياسية القائمة. ولابد من لفت الانتباه إلى أن الحركات السياسية اليسارية أو الحركات القومية التي شهدتها منطقة الخليج في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الفارط كانت مكوناتها شيعية. لكن مع بروز ظاهرة الخميني والثورة الإيرانية، تبنى جيل جديد من قيادات الشيعة في الخليج رؤية الخميني وأفكاره الثورية. وقد فشلت تلك القيادات في حشد تأييد كبير لها في أوساط الشيعة في الخليج، الذين تسيطر عليهم عقلية التجار. كتب المستعرب الروسي كوبيشانوف ان الطائفية في جزيرة العرب هي من نوع طائفة السلالات. وقوله هذا لا يخلو من حق، لكنه حق غير مكتمل. فلا يعني أن تتبنى الأسر الحاكمة في الخليج ضرباً من ضروب المدارس الفقهية، لايعني ذلك أنهم ينحازون إلى طائفة دينية. فالفرق شاسع بين أن تتبع مدرسة فقهية معينة، وبين أن تنحاز إلى طائفة دينية بشكل متعصب. لم تعرف الطائفية في الخليج صداماً مسلحاً ذا بال. فمنذ قدم دعاة بعض المذاهب الشيعية أو الخارجية أو الإسماعيلية إلى الجزيرة العربية فإنهم بداية اتجهوا إلى التبشير بمذاهبهم في مناطق حضرية زراعية مثل: البحرين وهو الاسم الذي كانت تعرف به منطقة غرب الخليج. أو اليمامة، وهو الاسم الذي يطلق على المنطقة الحضرية في وسط الجزيرة العربية أو اليمن. واستطاعت بعض تلك المذاهب أن تقيم لها إمارات مثل: الإمارة الجنابية القرمطية في الإحساء والهفوف، التي أسسها أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي سنة 918م. والإمارة الأخيضرية الحسنية في اليمامة، التي أسسها محمد بن يوسف بن إبراهيم بن عبدالله الحسني الملقب بالأخيضر سنة 858م. والدولة والدعوة الإمامية التي أسسها في اليمن الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الحسني سنة 893م. والدعوة والدولة الإسماعيلية في اليمن التي أسسها علي بن محمد الصليحي سنة 1071م. والإمارات الحسنية والحسينية كإمارة الجعافرة في مكة أو إمارة طاهر بن مسلم الحسينية في المدينة وكلها في منتصف القرن العاشر الميلادي. كل هذه الكيانات السياسية التي قامت على عاتق طائفة دينية منذ القرن التاسع حتى القرن الحادي عشر الميلاديين، لم تشهد صراعاً دموياً ذات بال بين الطوائف الدينية الموجودة آنذاك. ومع مرور الزمن تشكلت في منطقة الخليج ثلاث فئات مذهبية هي أهل السنة وهم الأكثر، ثم الشيعة في البحرين والمنطقة الشرقية من المملكة والكويت، وأخيراً الأباضية في عمان. بجانب طوائف صغيرة مثل الإسماعيلية أو بعض المذاهب المتفرعة من المذهب الشيعي أو السني. لقد اتسمت علاقات متينة بين الفئات السكانية المذهبية، ولم يشهد التاريخ صراعاً مسلحاً نشب بينها. ما سبب ذلك؟. يبدو أن السبب الرئيس في ذلك أن سكان تلك المناطق يمتهنون التجارة في أوسع أبوابها، حتى المهن القليلة مثل الزراعة أو الغوص إنما قامت لخدمة مهنة التجارة. لهذا سيطرت عقلية التجارة على معظم سكان منطقة الخليج، وهي عقلية قد تتمذهب، ولكنها لا يأخذها مذهبها إلى درجة الصراع والاقتتال. يقول مايكل فيلد صاحب كتاب التجار ان معظم التجار في منطقة الخليج ينتمون إلى أسر تجارية ذات بعد تاريخي كبير، وهم يأتون من مذاهب مختلفة، ولكنهم لا يفرطون في تجارتهم من أجل مذهبهم الديني. فالطائفية في الخليج هي طائفية تجارية دينية. السبب الثاني أن الدولة في الخليج ليست دولة عسكرية، وعدد أفراد الجيوش قليلة، وبالتالي لا يوجد فعلاً زخم عسكري قد يصبح في خدمة أي صراع طائفي. ولم تشهد دول الخليج في تاريخها الحديث اضطهادات طائفية يقوم بها الجيش. كما أن الأقليات الدينية في دول الخليج تتمتع إلى حد معقول بمستوى من العيش لا يقل عن مستوى معظم الأكثرية الدينية. وهذا لا يعني وجود استثناءات، لكنها استثناءات لم تقد أبداً إلى صراع مسلح. وهنا لابد من طرح هذا السؤال وهو: هل الطائفية خيار سياسي يمكن لأبناء الخليج السير في دربه؟ والجواب بالنفي. والسبب أن الخيارات السياسية تنطوي على فلسفة وبرامج سياسية يمكن تبنيها على السطح، بينما الطائفية لا تملك فلسفة، وهي ليست صالحة أن تصبح برنامجاً سياسياً يمكن لأحدهم من تبينه والتصريح به. والحق أن الطائفية هي نزوع مضخم للأنا تجاه الآخر. وهذا هو بيت القصيد. وقد يكون الآخر شريك صاحب الطائفية في اللغة والأرض والتاريخ والدين، وقد يكون الآخر من خارج تلك الدوائر. وعلى هذا يمكن القول إن الطائفية ليست خياراً سياسياً، بل هي ظاهرة اجتماعية مثل أية ظاهرة اجتماعية تسود في حقبة زمنية، لأسباب معروفة، ثم تخبو. وفي منطقة الخليج لم تجد الطائفية طريقها إلى أن تصبح أكثر من ظاهرة اجتماعية، حتى لو لم يصرح أبناء الطوائف بذلك، فلسان الحال أبلغ من لسان المقال.[c1]نقلا عن جريدة "الرياض" السعودية[/c]
دول الخليج لم ولن تعرف الحرب الطائفية
أخبار متعلقة