محمد علي صالحونحن ننطلق إلى الأمام بأجنحة الثورات المعلوماتية والجينية وبسرعة الضوء نفتش في المدى عن وجه للحياة في مجرات كونية جديدة.ونحن ننطلق إلى الأمام - بسرعة الضوء - وإلى فضاءات كونية عالمية بعيدة وإلى آفاق زمن عالمي جديد.. انتقلت فيه الحدود السيادية للدول من الأرض إلى السماء, ويستطيع فيه أرباب الضوء تصفح وجوه المتعبين والفقراء في أكواخ مدن الصفيح في كل لحظة من حجرات مكاتبهم الفارهة.في هذه الأثناء المهمة التي تقف فيها البشرية على مفترق طرق وفي حالة انذهاش مشوب بالقلق يجور بنا في هذه الأثناء, وفي هذه التناولة العودة إلى الوراء لالقاء نظرة على التكوينات الأولى لظاهرة صناعة الدول في التاريخ العالمي.. والعودة إلى تصفح سيرورة التطور في زوايا التاريخ وبين أحضان الجغرافيا.. والتوقف أمام المحطات الهامة في تاريخ الدول منذ ظهورها قبل حوالي أربعة قرون من رحم الزمن الاقطاعي للامساك بمقود التغيير الذي أخرج أوروبا من عصور الظلام إلى فضاءات الزمن الثوري وعصر الثورات الصناعية.. أوروبا التي حملت لواء الاستكشافات الجغرافية.فهل حقاً بان ميلاد ظاهرة صناعة الدول كما قال خبراء الحفريات الجغرافية المهتمين بالشأن السياسي ترجع إلى معاهدة (سفاليا) التي اقترن بها ميلاد القانون الدولي الحديث التي وقعت في عام 1648م والتي تم بموجبها الاعتراف بسيادة الدول على أراضيها, معتبرة أي تدخل في الشؤون الداخلية لأي من هذه الدول خرق للقانون الدولي.. وقد مثل ذلك التطور ظهور أول خارطة سياسية للعالم ..!!أولئك الخبراء المهتمون بالشأن السياسي زعموا أن ظهور أوروبا مقسمة إلى كيانات ذات سيادة.. قد مثل الأساس الأول لمنظومة العلاقات الدولية.. الذي تجسد بأكثر من (300) كيان لهيئة الدول الحديثة.. ذلك المعطى الذي جاء لكي يعبر عن طبيعة المرحلة التاريخية المتوازنة التي شهدتها أوروبا في أعقاب حركة الإصلاح الديني وانتهت إلى فصل الدين عن الدولة وتحرير شهادة ميلاد جديد لأوروبا وللدولة الحديثة.ولم يكن أمامها من خيار سوى الذهاب إلى التمترس خلف حدود الدولة الإقليمية ذات السيادة لضمان الأمان والحماية لنفسها وعلى خلفية حركة الشد والجذب بين عاملي الاستقرار وعدم الاستقرار الذي شهدته المجتمعات الأوروبية حين ذلك ظهرت أول خارطة سياسية للعالم.الاستقرار من حيث أنه يمثل التمسك بالتراث والتقاليد وبمجموعة الرموز الروحية والثقافية لأي شعب من الشعوب التي تندرج تحت رايته المشاعر الوطنية وتراث الأمة وعلمها ونشيدها الوطني.وعدم الاستقرار من حيث أنه يمثل الحركة التي تشمل على كافة أشكال التبادل بين المجتمعات - البشر والبضائع والأفكار - وقد أدى هذان العاملان دورهما في التكوينات الأولى لظاهرة صناعة الدول.وفي هذا الإطار فقد كان لثورة البارود أثرها في تشكل خارطة أوروبا السياسية الانتقالية.. التي أخرجتها من وراء الأسوار والحصون والقلاع إلى فضاء البعد السيادي للدول.. وإلى الانخراط في نسق دفاعي وأمني حامل لبعد لتغير والعناصر التحدي والقوة في حقل العلاقات العالمية..!!ومنذ ذلك الوقت وصناعة التاريخ متدفقة بغزارة بأشرعة الترسيم لفضاء العالم الجيوبوليتيكي.. الخارطة التي تتصور وضع الدول في الحظة بعينها من الزمن هو بطبيعته في حالة من التبدل.. انسيابية وانقلابية لا تنقطع..!!وظاهرة صناعة الدول.. الجغرافيا السياسية - كما تعلمنا حجرات الدراسة : بأنها لم تكن سوى تلك الأنماط المتعاقبة التي شهدت تغيرات في الماضي وهي على موعد مع تبدلات أخرى في المستقبل..!!وبمقلاع القوة أصبحت السيطرة على الأراضي عرفاً دولياً واستعمارياً.. “وشكل الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة تسعة أعشار القانون” وبموجب ذلك المعطى تم تقطيع أوصال القارة الأفريقية بين القوى الأوروبية في عام 1884م بعد مؤتمر برلين المشؤوم.!!- خبراء الجغرافيا السياسية المهتمين بالشأن الاقتصادي - الذين ذهبوا لإعطاء توصيف اقتصادي لظاهرة صناعة الدول.. منطلقين من الأثر الذي لعبته عملية التنافس بين كبار الملاك للأراضي الزراعية وطبقة التجار الناشئة للسيطرة على الأسواق العالمية والتي ترتبت عليها فكرة نقل السياسات التجارية بين المدن إلى يد الدولة الإقليمية ذات السيادة.. التي أرجع ظهورها أصدقاء التوصيف الاقتصادي إلى أس اقتصادي تراكمي للثروة.. تم تحقيقه بأذرع القوة الهولندية المنسلخة من شجرة الإمبراطورية النمساوية في أواخر القرن الـ (16) الميلادي.وغني عن القول أن ذلك المعطى جاء لترسيخ البناء المتين لظاهرة صناعة الدول التي اتخذت لها خلال القرون الماضية أشكال وخرائط وفضاءات سياسية وسيادية مختلفة عكست مبدأ القوة والغلبة والهيمنة للقوى الصاعدة إلى نادي العظمة.!! ووفقاً لتلك الحقيقة الجيوبوليتكية فإن القرن الـ (16) أعطى لكل من البرتغال وأسبانيا الحق في تقاسم العالم فيما بينهما بموجب معاهدة أبرمت بين الطرفين في عام 1494م أهم بند فيها هو استثناء أوروبا من التقاسم .!!أما الجديد الذي جاء به القرن الـ (17) فقد تمثل بارتسام حالة من التحدي والصراع على مناطق النفوذ بين هولندا وأسبانيا على ضفتي أوروبا وفضاء الهند الشرقية والعالم.بينما كان القرن الـ (18) في حالة اشتباك بين بريطانيا وفرنسا تحت سقف المعارك الضارية والحروب البارودية التي امتدت إلى أراضي العالم الجديد أمريكا.. وتجلى القرن (19) في جملة من عمليات التكالب الاستعماري الأوروبي المتعدد الأقطاب على اقتسام القارة الأفريقية والآسيوية ومناطق أخرى في العالم.. وينظر إلى معاهدة فرساي في عام 1919م بأنها تشكل ذروة الاندفاع الاستعماري الأوروبي المتعطش لإسالة الدماء ولفرض الهيمنة في أي بقعة في الأرض.. وبدوره القانون الدولي الذي تم صياغة بنوده قبل نحو قرنين من الزمن على أساس ضمان سيادة الدول وسلامة أراضيها.. لم يستطع ثني تلك القوى عن تنفيذ أهدافها ومخططاتها الاستعمارية في العالم.وظل القانون الدولي والنظام الدولي مفردتين مرتبطتين بمصالح وأهداف القوى الدولية الكبرى غير قادرتين على نزع الأقنعة وفضح المبررات التي ذهبت إلى تسويقها في ذاكرة التاريخ من أجل السيطرة على أراضي الآخرين, الأمر الذي أدى إلى إفراغ ذلك القانون والنظام من محتواهما..!!وفي ظاهرة صناعة الدول التي اتخذت من العواصم والحدود مرتكزاً لها إلى جانب الأرض والسيادة لكي تعبر من خلالهما إلى فضاء الترسيم لخارطة العلاقات الدولية ولكي تجسد من نافذتها معنى الحضور لذاتها الوطنية في المكان والزمان.!!الحدود من حيث أنها جاءت في البداية مزيج لخلق الأسواق الممهورة بمعدلات متفاوتة من الضرائب الجمركية.. والتي أصبحت مع مرور الوقت من أهم القضايا التي تشغل بال الدول.. وغدت من السمات المميزة لعالم اليوم.. وفكرة الحدود بشكلها الطبيعي ترجع إلى فرنسا.. أما فكرة الحدود القومية فإنها ترجع إلى المانيا كرد فعل على سياسة فرنسا التوسعية في القرن الـ (18).وإجمالاً فإن الحدود تشكلها وتمليها سياسة القوة..!! أما العواصم : فإنها ظهرت كحاجة لتمثيل مختلف الدول لتستوعب التطورات التي شهدتها الحياة السياسية والاقتصادية كوعاء حامل للنشاط السياسي بين الدول.. ومركز لإدارة شؤون الدول الداخلية والخارجية.. ومركز لجمع المعلومات وتبادلها والحصول عليها والتعرف على طبيعة القرارات والسياسات التي تتخذها الدول.. وإلى ذلك النشاط والبداية.ترجع ولادة الدبلوماسية كرافعة للعلاقات بين الدول التي اخذت ترسل مبعوثيها ومندوبيها إلى الدول الأخرى في هيئة تمثيل متبادل بين العواصم والمدن المختلفة.العواصم التي أصبحت مع تقدم الوقت بمثابة رموز الدول بما تمثله وتعكسه من طراز معماري وسمات حضارية وثقافية وجمالية.وإذا كانت صناعة الدول قد لعبت في المراحل الأولى من ظهورها دور إيجابياً كدافعة للتطور.. فإن ذلك الدور سرعان ما تحول إلى نزعة تدميرية للإنسانية في مرحلة تاريخية من تطورها - خرجت من معطف البعد السيادي للدولة القومية ذلك الدور الذي ارتبط بنزوع إلى الهيمنة الدولية وبحروب طاحنة وصراعات دامية ومواجهات صاخبة بين القوى العالمية.. حولت الذاكرة الإنسانية إلى مستودع للآلام وأضحى التاريخ من جرائها أطلال وخرائب وأشلاء ودموع ودمار.. وما أن يسدل الستار على حقبة بارودية حتى تشتعل أخرى بأسلحة أكثر فاتكاً ودموية.. ويكفي التذكير بأن تلك الحروب أغرقت أوروبا بويلاتها زمناً طويلاً, وفرضت عليها لارتهان لعصور الظلام قروناً عدة قبل أن تبحر بأشرعة الاستكشافات الجغرافية وتدير عجلة الثورة الصناعية وترفع راية الاستعمار في سماء العالم الخارجي.حيث شهدت الساحة الدولية منذ انعقاد مؤتمر فيينا عام 1815م الذي وضع نهاية لحقبة الحروب النابليونية وحتى نهاية حقبة الحرب الباردة في أواخر القرن الماضي أكثر من (360) حرب كارثية.. وإذا كانت البدايات الأولى لظهور النظام الدولي تعود إلى مؤتمر فيينا التي خرجت من معطفه تلك الحروب الاستعمارية.النظام الدولي الذي ارتسمت ملامحه في سماء العالم بعد حوالي قرن كامل - من تلك البداية - في هيئة “عصبة الأمم” بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها.. الذي الهدف من قيامها وضع “نظام دولي” لحفظ السلام والأمن العالمي يمنع وقوع كوارث جديدة في حياة البشرية.. فإن ذلك النظام الدولي سرعان ما سقط تحت أقدام النزعة القومية التدميرية التي اكتوت أوروبا والعالم بجحيمها.. وهكذا اقترن “الفضاء السيادي” للدولة القومية الرأسمالية بجملة من الصراعات الدولية بين القوى الاستعمارية التي أغرقت أوروبا والعالم بفائض الموت والدمار ودفعت ثمن لذلك سقوط أكثر من (24) مليون شخص قتلى وجرحى بنيران الحروب العالمية الأولى والثانية في القرن الماضي.. ليس إلا..!!ومن نافذة تلك الحروب تقدمت أوروبا هذه المرة ومعها أمريكا إلى إرساء نظام عالمي جديد وتحديداً الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.. حملت مظلته “هيئة الأمم المتحدة” وتم بموجبه إعطاء يد طولى لتلك الدول في القرار العالمي واقتسام العالم فيما بينهما.. النظام الذي كان يهدف في جوهره إلى خلق مناخ من الاستقرار والتعايش العالمي خادم لأهداف ومصالح الدول المنتصرة في الحرب.ولأن ذلك النظام العالمي الذي تعود أبوته إلى عقلية استعمارية محاربة على الدوام.. ولد من رحم الأزمة العالمية التي تفجرت في سماء أوروبا في حمم بارودية أكثر من مرة.. فسرعان ما ظهرت إلى العلن جملة من المخاوف والتباينات والخلافات بين الأطراف المنتصرة في المعركة.. التي توزعت بين الهم الاقتصادي الأمريكي.. وبين الحفاظ على عظمة ومكانة بريطانيا العالمية.. وبين تأمين فضاء أوروبا الشرقية أمام المد السوفيتي العقائدي الشيوعي..!! وتمحور ذلك الاختلاف بأشكال ومخاوف متباينة ومتبادلة بين الأطراف الثلاثة مناهضة للهيمنة الأمريكية والامبريالية البريطانية والشيوعية السوفيتية.. وبعد أقل من عامين من دخول أطراف النظام العالمي تحت مظلة الاستقطاب.. تفجرت حرب عالمية ثالثة في سماء العالم ولكنها اتسمت بالبرودة انقسم العالم بين قطبيها الشرقي والغربي.. وتحولت أوروبا إلى حديقة خلفية بين قطبي المعركة التي استمرت مجرياتها ووقائعها أكثر من خمسين عام وانتهت بانهيار قطب الشرق وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالزعامة الأحادية للنظام العالمي.. وفي غمرة الاندفاع إلى تلك الحرب شهد البيت الأممي عمليات تصديق على ولادة العديد من الدول التي خرجت من تحت سقف الاستعمار إلى فضاء الاستقلال الوطني ووصل عدد أعضاء الأسرة الدولية المنظوية تحت راية الأمم المتحدة أكثر من (192) دولة ذات سيادة.وهكذا فإن حقبة الحرب الباردة حملت لواء السيادة للدولة الوطنية من ناحية وسلبتها الكثير من سلطاتها المحلية من ناحية أخرى.. لصالح المظالم العالمي الجديد ولصالح الشركات المتعددة الجنسيات التي جاءت لتكرس فضاء كونياً لمصالحها الحيوية الغى المسافات والحواجز والقيود من طريقه.. بما في ذلك المقومات السيادية للدولة.اليوم وبعد مرور أكثر من أربعة قرون على ظهور الدول حافلة بالأحداث والمتغيرات والتبدلات المهمة في التاريخ الإنساني.ها نحن نقف أمام مفترق طرق.. وها هي الدول تقف أمام جيل من التحديات التي تطالب الدول بتقديم نفسها قرباناً على مذبح زمن اليوم العالمي العاصف بالتطورات العابرة للقارات والأكوان.. حرى بنا القول بأن الدول إذا لم تسارع إلى مواكبة واستيعاب هذه الحقائق المعلوماتية الضوئية والانفتاح على فضاءات التقدم العلمي وجديد إنجازات الثورات العلمية فسوف تكون مهددة بالزوال.. إلى مزبلة التاريخ..!!
|
ءات
سفر المشهد الجيوبوليتيكي العالمي من الظلمات إلى الضوء
أخبار متعلقة