محمد زكريا يعود بنا الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عبد الواحد الشجاع إلى فترة خصبة من فترات تاريخ ثغر عدن المحروس وهي فترة ازدهار الحركة الفكرية الثقافية فيها ، فيطوف بنا في مدارسها الإسلامية وأربطتها الدينية ، ومساجدها العريقة، ومكتباتها العامة والخاصة ــ وكذلك ــ يصور جانبا هاما من حياة ثغر عدن وهي الطرق الصوفية التي كانت منتشرة انتشارا واسعا والتي كانت جزء لا يتجزأ من نسيج حياتها الثقافية والاجتماعية. وذلك من خلال دراسته العميقة والقيمة لكتاب (قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر ) لصاحبه المؤرخ الطيب عبد الله بامخرمة المتوفى سنة ( 944 هـ / 1540 م ) رائد فن التراجم . [c1] لقب بامخرمة[/c]في بداية دراسته ، يوضح الدكتور عبد الرحمن الشجاع اسم الشهرة للمؤلف (( ثغر عدن في قلادة النحر )) , فيرجح اسم ( با مخرمة ) عن الأسماء الأخرى وهي ( مخرمة .. أو ( أبو مخرمة ) . وفي هذا الشأن ، يقول : " ولكن لشهرة ما عرفت بها الأسرة الحضرمية من ألقاب وكنى فنميل إلى اختيار ( با مخرمة ) دون غيره لأنه الأشهر والمتداول . [c1]بيئته العلمية [/c]ويشرح الدكتور عبد الرحمن شجاع الحياة البيئية الذي ولدى وتربى مؤرخنا الطيب عبد الله في حجرها , فوالده الطيب قدم إلى عدن لتلقي العلم على يد علمائها . فدرس على يد الشيخ القاضي جمال الدين محمد بن مسعود باشكيل الانصاري . ويبدو أن هذا الشيخ القاضي جمال توسم في تلميذه هذا النباهة والنبوغ في علوم الدين المختلفة وعلى وجه التحديد في الفقه وأنه سيكون له شأن كبير في ميدان القضاء , فزوجه ابنته . ويعلق الدكتور ( شجاع ) على هذا الزواج بقوله : " ليكون با شكيل جد الطيب من جهة أمه ، فعاش الطيب في أسرة علمية ، فأبوه وأخوه أحمد يعدان من مشايخه ". وتستوقفنا عبارة الدكتور ( شجاع ) حيث يقول ــــ عن والد مؤرخنا الطيب ـــ : " و دخل عدن لطلب العلم " . تلك العبارة تدل دلالة واضحة بأن عدن كانت مزدهرة بالحياة الفكرية ، وزاخرة بالعلماء والفقهاء الكبار ــ حينذاك ــ وأنها كانت أشعاع حضاري جذبت إليها طلاب العلم والعلماء على حد سواء .[c1]والده [/c]ويستعرض الدكتور شجاع حياة والد مؤرخنا الطيب بأنه صار من علماء عدن الكبار , وأنه عرض عليه منصب القضاء ، ولكنه لم يرغب به ، ولكنه يبدو أنه قبله على كره منه من قبل القائمين على الأمر في ثغر عدن وهم بني طاهر وقتئذ . ودليل ذلك أنه توارى عن القضاء والناس أي أنه أعتزل القضاء إلى أن توفى في سنة 903 هـ / 1497 م ) . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور شجاع : " ورغم أن أباه كان قد عين قاضيا على عدن إلا أنه لم يكن راغبا في ذلك ، فهرب من القضاء بل ومن عدن واختفى وكان هذا في بضع وستين وثمانمائة . وظل بعيدا عن القضاء إلى أن توفى أول المحرم سنة 903 هـ / أغسطس 1497 م ". والحقيقة أن تلك القصة عن والد مؤرخنا الطيب عبد الله بامخرمة ، تعطينا فكرة واضحة عن شخصيته بأنه كان زاهدا عن المناصب الكبرى مثل القضاء الذي فر منه وتلك الصفة من أهم صفات العلماء الذين وهبوا حياتهم للعلم . [c1]ميلاده [/c]ويحدثنا الدكتور شجاع عن تاريخ ميلاد مؤرخنا الطيب بامخرمة ، وعن الأحداث التي عاصرها وهي مجيء المماليك ،العثمانيين , وكيف تولوا الخلافة الإسلامية بعد الخلافة العباسية . وفي هذا الشأن يقول : " ولد الطيب عام 870 هـ / 1465م) وهي السنة التي قتل فيها أول أمير من بني طاهر هو الظافر عامر بن طاهر ( ت 870 هـ / 1465م ) بعد حوالي اثنتي عشرة سنة في محاولة لإقامة دولة على أرض بلاد اليمن كلها " . ويضيف قائلا : " ولم يشهد الطيب سقوط الدولة الرسولية ولكن أباه قد شهدها وهي تتهاوى في عدن عام 858 / 1454م بعد مائتين وثلاثين سنة ". [c1]رحلاته العلمية [/c]ولقد شد المؤرخ الطيب عبد الله بامخرمة الرحال إلى عدد من مدن اليمن لطلب العلم وهي حضرموت ، تعز ، زبيد ، وحرض ، ويرجح الدكتور شجاع بأن بامخرمة رحل إلى مكة ليتقلى العلم على يد علمائها . ولفت نظرنا أن عبد الرحمن الشجاع قال في سياق حديث الرحلات العلمية للطيب بامخرمة للمدن الذي نهل منها العلوم والمعارف هي مدينة ( حرض ) وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن تلك المدينة كانت في عصره مزدهرة بالعلم والعلماء . وتلك المسألة تحتاج من الباحثين والمهتمين بالمدن اليمنية التي كانت بمثابة أشعاع حضاري وثقافي البحث والتنقيب عن الأسباب التي جعلت مدينة حرض في يوم من الأيام مدينة العلم والعلماء تشد إليها الرحال من قبل طلاب العلم ومنهم مؤرخنا الطيب بامخرمة . ويقول عبد الرحمن الشجاع من الدلائل التي جعلته يظن أن المؤرخ بامخرمة شد الرحال إلى عدد من مدن اليمن لطلب العلم فيها وذلك من خلال ما ذكره عن مشايخه الكثيرين الذي تلقى عنهم في عدن و حضرموت ، وتعز ، زبيد ، وحرض ، ومكة . وفي هذا الشأن ، يقول الشجاع : " وما ذكر بامخرمة عالما أو فقهيا تلقى عنه إلا وصفه بـــ ( شيخنا ) مما يدل على أنه تلقى عنه " . [c1]مرحلتان في حياته [/c]والحقيقة أن مؤرخنا الطيب عبد الله بامخرمة مر بمرحلتين في حياته العلمية الأولى عندما كان طالبا علم يدرس على يد والده. ورحلته إلى عدد من مدن اليمن المشهورة بالعلم والعلماء حينذاك ــ كما مر بنا سابقا ـــ . وأما المرحلة الثانية وهي عندما صار عالما يلتف حوله طلاب العلم ، ولكننا لم نعرف على وجه اليقين متى أجيز له أن يكون أستاذا يدرس العلوم الدينية والشرعية للطلاب ؟ وما هو المسجد الذي كان يلقي دروسه فيه ؟ . ولكن من المحتمل أن يكون قد تبوء منصة التدريس وهو في شرخ الشباب بسبب ولعه وشغفه بالعلم من ناحية وموهبته الفذة في كتابة التراجم من ناحية ثانية وأنه نبع من أسرة علمية من ناحية ثالثة. " وصار الطيب عالما يتلقى عنه الطلاب الدروس العلمية ، ويجيزهم في الكتب والعلوم التي يتقنها ... " . وأغلب الظن أن مؤرخنا بامخرمة كان متفوقا في الفقه ودليل ذلك أنه تولى منصب القضاء في عدن . ومن المحتمل أن توليته لمنصب القضاء أتاح له لقاء الأمراء ، والحكام ، والأعيان والعلماء ، وأصحاب النفوذ والجاه والسلطان ــ على حسب تعبير عبد الرحمن الشجاع ــــ وأيضا ــ أطلع عن كثب على الحياة الاجتماعية في عدن ، مما ساعده على تأليف ( تاريخ ثغر عدن ) , والكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه ( قلادة النحر ) , وهذان الكتابان يعتبران مصدران هاما ورئيسان في تاريخ عدن. والجدير بالذكر أن كتاب ( تاريخ ثغر عدن ) سلط الأضواء على الحياة الاجتماعية في عدن ، وأما الكتاب الآخر والذي نحن بصدد الحديث عن ( قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر) ترجع أهميته " أنه المرجع الوحيد لتاريخ السنوات القليلة التي تلت سقوط السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري على أيدي المماليك في سنة 923 / 1517 م ، فقد تتبع ـــ بامخرمة ـــ فيه أخبار بقايا الأسرة الطاهرية ـــ آخر الأسر السنية التي حكمت في اليمن ـــ حتى انكمش نفوذها في عدن نفسها قبيل مجيء العثمانيين إلى اليمن ، فألقى بذلك الأضواء اللازمة لتوضيح الاضطرابات التي وقعت هناك نتيجة الحروب التي ثارت بين المماليك والزيديين ، والطاهريين في الفترة من 1517 حتى قبيل مجيء وصول العثمانيين إليه ".[c1]عمالقة عصره [/c]وأقصد بـ ( عمالقة عصره ) العلماء الذين ملئوا الأمصار الإسلامية علما ونورا والذي عاصرهم مؤرخنا بامخرمة في حياته. وفي هذا الصدد ، يقول عبد الرحمن الشجاع : " وكان ( با مخرمة ) في عصر يشاركه فيه العديد من الأنجم العلمية داخل اليمن وخارجها ، كانوا يتعاطون حركة العلوم والمعارف ، فهي حقبة زمنية تميزت بوجود علماء ـــ إن صح التعبير ـــ عنها بأنهم موسوعيون في معظم الأمصار الإسلامية ". ويزيد عبد الرحمن الشجاع في توضيح الصورة ، فيقول : " فلم يكن بعيدا عنه عصر ابن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ / 1448 م ) ، وبدر الدين العيني ( ت 855 هـ / 1451م) . وعاصر ابن تغري بردي ( ت 884 هـ / 1479 م ) ، وشمس الدين السخاوي ( ت 902 هـ / 1497 م ) ، وجلال الدين السيوطي ( ت 911 هـ / 1505 م ) " . ويعلل عبد الرحمن الشجاع حول أسباب ظهور تلك الكواكب الدرية في سماء الأمصار الإسلامية ، قائلا : " وهؤلاء العلماء الذين عاشوا في عصر الطيب يدلنا على وجود نهضة علمية متميزة في دار الإسلام كلها ". [c1]متى صار مؤرخا ؟ [/c]والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة ما هي العوامل التي دفعت بمؤرخنا الطيب باخرمة الخوض في ميدان كتابة التراجم بصفة خاصة وتدوين وتسجيل الأحداث والوقائع التاريخية التي وقعت في عصره بصفة وبعبارة أخرى كيف صار مؤرخا تاريخيا إلى جانب أنه كان عالما أو فقهيا؟ . والحقيقة الذي وصل إلينا من مؤلفاته هم (( قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر )) , وكتاب (( تاريخ ثغر عدن )) . و كتاب (( النسبة إلى المواضع والبلدان )) وهو كتاب يفهم من عنوانه أنه كتابا جغرافيا حيث بحث فيه عن أنساب القبائل العربية في تلك البلدان الذي تحدث عنها . والغريب في الأمر أن الدكتور حسين العمري في كتابه (( المؤرخون اليمنيون في العصر الحديث )) في الحديث عن بامخرمة ومؤلفاته لم يشير إليه من قريب أو بعيد وعندما تحدث الدكتور سيد مصطفى سالم في كتابه (( المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول 1538 ـــ 1635 م )) عن الطيب بامخرمة لم يذكر ـــ كذلك ــ كتابه (( النسبة إلى المواضع والبلدان )) . [c1]مؤلفاته الدينية [/c]والحقيقة أن الطيب عبد الله بامخرمة لم يؤلف في التراجم فحسب ، بل أن له مصنفات " تناولت عدة علوم ، تراوحت مابين الفقه والحديث والتاريخ ... فقد أشار العيدروس والشلي إلى أنه ألف : شرح الصحيح مسلم ، وأسماه رجال مسلم. ولكن مصنفاته في العلوم الدينية لم نعثر عليها حتى نطلع على قدرة الطيب بامخرمة في مجال تأليف الكتب الدينية والشرعية مثلما بز أقرانه في كتابة تراجم الرجال . [c1]بامخرمة وابن الديبع [/c]ويشير عبد الرحمن الشجاع إلى أن الطيب عبد الله بامخرمة استفادة من تراث المؤرخين اليمنيين القدامى الذين سبقوه ــ وكذلك ــ المعاصرين له في كتابته للتاريخ ، ويطرح عددا من الأسماء الذي استقى منهم بامخرمة المؤلفات التاريخية وهم على سبيل المثال لا الحصر : حسين بن صديق الأهدل المتوفى سنة (( 903 هـ / 1497 م ) . وكذلك استقى بامخرمة معلوماته التاريخية عن المؤرخ الكبير ابن الديبع االمتوفى سنة ( 944 هـ / 1537 م ) . وفي هذا الصدد ، يقول الشجاع : " وقد صرح ( يقصد بامخرمة ) بأنه أخذ عن ابن الديبع .. وإن لم يصرح بالكتب التي أخذ عنها إلا أن مقولاته تدل بأنه أطلع على إنتاجه العلمي ورجع إليها " . وأطلع ـــ أيضا ــ الطيب بامخرمة على مصنفات أخرى من الأمصار الإسلامية وعلى وجه الخصوص من مصر , والشام بسبب أنهما كانتا مصدر الثقافة والفكر في الأمصار الإسلامية على الرغم أن الخلافة العثمانية قد حلت محل الخلافة العباسية التي حكمت العالم الإسلامي نحو أكثر من خمسمائة عام , إلا أن الخلافة العثمانية كانت منغمسة في حروب في البلقان بأوربا ولذلك ظلت مصر والشام المركز الإشعاع الحضاري والثقافي لعلماء وفقهاء ، ومؤرخي الأمصار الإسلامية ومنها اليمن . وهنا ربما كان مناسبا أن نورد ما قاله عبد الرحمن الشجاع في تلك المسألة : " ومن الملفت أن دار الإسلام في الحقبة التي عاصرها ( با مخرمة ) يعد المركز العلمي المتميز فيها هو مصر والشام رغم وجود دولة الخلافة العثمانية إلا أن اهتمامها الغالب عليها منصب على الفتوحات في أوربا ... " . [c1]أسباب الازدهار [/c] وفي الواقع أن مؤرخنا بامخرمة تفتحت عينيه في ثغر عدن على ازدهار واسع في الحركة الفكرية والثقافية وذلك بسبب أن بني رسول ، وبني طاهر اهتموا بالحركة بها اهتماما بالغا من خلال المدارس الإسلامية التي أقاموها في طول وعرض ، وارتفاع اليمن علاوة أن العلاقة بين اليمن ومكة ، واليمن ومصر كانتا على علاقة وثيقة . كل هذا أثرى الساحة العلمية في ثغر اليمن عدن إثراء عريضا ، فأثمرت مصنفات علمية وقيمة لعلمائها وفقهائها ومن بينها مصنفات مؤرخنا الطيب بامخرمة التي أشرنا إليها سابقا . [c1]أهمية قلادة النحر [/c]والحقيقة أن كتاب (( قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر )) لمؤرخنا الطيب بامخرمة على تكمن أهميته التاريخية بسبب تناوله فترة خطيرة وحرجة من فترات تاريخ اليمن السياسي أو بالأحرى أحداث جسيمة غيرت مجرى تاريخه حيث ظهر البرتغاليين أمام سواحل وموانئ اليمن ، وأخذ يهددها تهديدا صريحا ، فعمل على حصارها حصارا محكما من ناحية و أطلت الفتن والقلاقل بوجهها البشع على حكم الدولة الطاهرية من ناحية ثانية ، وكان من نتائجها مصرع أعظم سلاطينها وهو السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري في سنة ( 923 هـ / 1517 م ) . ومحاولة دولة المماليك التصدي للبرتغاليين ، ولكن سرعان ما سقطت دولتهم ، وحلت محلها الخلافة العثمانية القوية . كل تلك الأمور الأجسام والأحداث العظام كان مؤرخنا شاهد عيان عليها . ولقد وصف الدكتور سيد مصطفى سالم كتاب (قلادة النحر) ، بقوله : " . وترجع أهمية الكتاب التاريخية إلى أنه المرجع الوحيد لتاريخ السنوات القليلة التي تلت سقوط السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري على أيدي المماليك في سنة 923 هـ ( 1517 م ) ، فقد تتبع فيه أخبار بقايا الأسرة الطاهرية ـــ آخر الأسر السنية التي حكمت في اليمن ـــ حتى أنكمش نفوذها في عدن نفسها قبيل مجيء العثمانيين إلى اليمن ". ويمضي في حديثه قائلا : " فألقى بذلك الأضواء اللازمة لتوضيح الإضطرابات التي وقعت هناك نتيجة الحروب التي ثارت بين المماليك والزيديين والطاهريين في الفترة من 1517 حتى قبيل وصول العثمانيين إليه ". [c1]في ثلاثة مجلدات [/c]وأما الدكتور حسين عبد الله العمري ، يضيف ، قائلا : " بيد أن الأهم من ذلك هو كتابه الكبير (( قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر )) وهو مخطوط في ثلاث مجلدات رجع فيه إلى بعض كتب التراجم اليمنية ، بعد أن لخص فيه كتاب اليافعي المطبوع (( مرآة الجنان )) ، ووصل في جزئه الأخير إلى سنة 927 هـ ". ويتفق مع الدكتور سيد مصطفى حول أهمية الكتاب ، فيقول : " وتأتي أهمية بامخرمة كابن الديبع مما كتباه عن أحداث عصرهما والسنوات الأخيرة قبل مجيء القوات العثمانية لتصبح اليمن تحت السيطرة الفعلية منذ عام 944 هـ / 1537 ...".[c1]مساحة الكتاب الزمنية [/c]ويحدد الدكتور عبد الرحمن الشجاع مساحة الكتاب الزمنية بأنه يبدأ من عصر النبوة إلى أحداث عام ( 927 هـ / 1521 م ) , وأما عن التراجم فقد أحتوى في ثنايا صفحاته عدد محدود من المشاهير . وحول الأحداث الهامة التي احتوها الكتاب أو بعبارة أخرى احتلت مساحة كبيرة منه ، فيقول : " فقد أكتفى بالأحداث، وكلها منصبة على أحداث سياسية وعسكرية تتعلق بالبرتغاليين وردود أفعال الأنظمة الحاكمة المحلية ( ويقصد بني طاهر ، والزيديين ) ، ونظام المماليك في مصر ، ودولة الخلافة العثمانية ". ويزيد عبد الرحمن الشجاع في شرح محتويات الكتاب ، فيقول : " ويلاحظ على ما كتبه المؤلف أنه لم يكن ـــ فيما كتبه من مطلع القرن العاشر ـــ متابعا للأحداث التي تهم خارج عدن ، بل أكتفى بالحديث عن عدن والأحداث المرتبطة بالطاهريين والمماليك والعثمانيين فقط ". وتناول مؤرخنا في كتابه أحداث اجتماعية وقعت في عدن . وفي هذا الصدد ، يقول ( الشجاع ) : " ولم يشر المؤلف إلى حوادث حصلت في عدن غير العسكرية إلا النوازل التي حلت بأهل عدن كالحريق الذي حدث سنة 915 هـ / 1509 م ، أو الغلاء الذي وقع في عدن سنة 924 هـ / 1518 م ". ويشير عبد الرحمن الشجاع إلى مسألة هامة في ثنايا صفحات الكتاب وهي بأن بامخرمة أكمل الأحداث الذي وقف عندها ابن الديبع وهي من منتصف سنة 923 هـ / 1517 م أي عند أحداث مقتل السلطان عامر بن عبد الوهاب حتى سنة 927 هـ / 1521 م . وفي هذا الصدد ، يقول ( الشجاع ) : " وكان قد انتهى من ملخص ما أخذه عن ابن الديبع في منتصف سنة 923 / 1517م منفردا بروايته للأحداث ، وكلها تتعلق بوصول الفرنجة ( البرتغاليين ) إلى شواطئ عدن ، وتدخل أمراء عدن ، وأمراء المماليك في مواجهة البرتغاليين ". وهذا ما دفع الدكتور سيد مصطفى أن يقول عن الكتاب أنه مهم لكونه يسلط الأضواء على الأحدث التي وقعت بعد مقتل السلطان ( عامر ) الطاهري على يد المماليك فضلا عن ذلك أن المؤلف كان شاهد عيان على الأحداث التي وقعت في تلك الفترة . [c1]بامخرمة ومدرسته التاريخية [/c]وفي الواقع أن مؤرخنا الطيب بامخرمة خرج من معطف المدرسة التاريخية الإسلامية مثله مثل مؤرخي عصره , وخاصة فيما كان يكتبه في تراجم الشخصيات المشهورة . وفي هذا الصدد ـــ يوضح لنا الدكتور سيد مصطفى ــــ منهج تلك المدرسة التاريخية الذي سلكها مؤرخنا بامخرمة ، فيقول : " أما بالنسبة للترجمات ذاتها فقد سارت على النحو التقليدي في بعض أجزائها ، من ناحية تتبع تاريخ ميلاد ووفاة كل منهم كلما أمكن ذلك ، ومن ناحية النشأة والعلماء الذين أخذوا عنهم , والوظائف التي تولوها ، والتنقلات التي قاموا بها , وغير ذلك من التفصيلات الخاصة التي تعطي للشخصية ملامحها الذاتية " . [c1]بحر الحقيقة [/c]وهذا ما أكده الدكتور عبد الرحمن الشجاع حول منهج مؤرخنا الطيب عبد الله بامخرمة في كتابة تراجم الشخصيات المشهورة في مؤلفه ( قلادة النحر) ، فيقول : " أما منهج ( با مخرمة ) في اختيار مادته العلمية التي تتعلق بكل ترجمة : تلقيه للعلم .. ومشايخه .. ومن تلقى عنه .. ومؤلفاته .. وعلاقاته بالأمراء وذوي السلطان .. وزهده " . ويضيف قائلا : " وإذا كان من أهل التصوف : فيبين عمن أخذ درجة التصوف الذي وصل إليها ، ويعرض للكرامات والمنامات ... ومن جانب آخر يطلق على المتصوفة أو بعضهم مصطلحات مثل ( أهل الكشف والتمكين ) و ( بحر الحقيقة وموضع الطريقة ) بل في بعض المواضع يذكر الكرامات ويشيد بها ، وصاحبها ويدلل على صدقها بأحاديث نبوية " . والجدير ذكره أن المؤرخين القدامى كانوا ينقلون الأحداث نقلا حرفيا مهما كانت غرابتها أو بمعنى آخر يذكرونها على علاتها , ولا يقفون عندها يمحصونها ويفحصونها ويحللونها وينتقدونها . وعلى نفس ذلك المنهج سار مؤرخنا الطيب بامخرمة في كتابة التراجم . [c1]بامخرمة والمصطلحات الصوفية [/c]وفي الواقع أن الثقافة الصوفية في عصر مؤرخنا بامخرمة كانت لها نفوذ قوي على العلماء والفقهاء ، والمؤرخين على حد سواء ومن بينهم الطيب بامخرمة . وهنا ربما كان مناسبا ، أن نورد ما رواه عبد الرحمن الشجاع أثر الصوفية على منهج وطريق تفكيره وبالتالي على أسلوب كتابته ، فيقول : " ولعل با مخرمة لم يخرج عما ساد وشاع في عصره من تصوف سواء في اليمن أو خارج اليمن . فقد صار الانتساب للتصوف جزءا من شخصية الأمراء والوجهاء والعلماء " . ويمضي في حديثه ، قائلا : " وهذا العموم في انتشار التصوف أثر على مناهج تفكير العلماء ، ومنهم علماء التاريخ مثل بامخرمة فتكثر لديه المصطلحات الصوفية كالحقيقة والشريعة ، والأقطاب ، والأوتاد ، والكرامات والمنامات والكشف والتمكين وغيرها مما يوحي بغلبة الاتجاه الصوفي على كتابته التاريخية " . [c1]ملامح الحركة العلمية [/c]ويتناول الدكتور عبد الرحمن الشجاع في ثنايا صفحات دراسته الحركة العلمية في عصر مؤرخنا الطيب با مخرمة المتمثلة بمقرات التدريس ، الهيئة التدريسية والطلابية ، النظام التعليمي ، وجوانبه منها : أدوات التعليم ، المقررات الدراسية ، الرحلة العلمية ، الإجازة أو الشهادة (التعليم الذاتي ) أو التعليم الحر ـــ حسب مصطلحنا الحديث ـــ ، التصنيف أو النتاج العلمي . [c1]نشوء المكتبات العامة [/c]وفي الواقع الذي لفت نظرنا إلى مظهر هام من مظاهر الحركة العلمية تتمثل بالمكتبات العامة التي كانت منتشرة في كثير من المساجد والأربطة المشهورة في عدن والتي احتوت رفوفها على كتب قيمة ونادرة ونفيسة . والحقيقة لقد أسس الأمراء والحكام العديد من المكتبات العامة في عدن والذين كانوا يزودونها بأمهات الكتب الدينية المتنوعة . وهنا ربما كان مناسبا ، أن نذكر ما رواه عبد الرحمن الشجاع حول نشؤ تلك المكتبات العامة يد الأمراء في عدن ، فيقول : " ومما يضاف إلى أماكن الدرس والتعلم، المكتبات العامة والخاصة ، ومن المؤكد أن المساجد العامة التي هي مقرات علمية كمسجد عدن لا تخلو من مكتبة تحتوي على كتب أوقفت عليها وصارت في متناول يد من يحتاج إليها . وكان بعض الأمراء يشتري كتبا وينسخ منها نسخا يضعها في أماكن متفرقة ومنها المساجد .. وإن لم ينص على مسجد ما بعدن إلا أن العادة جرت على ذلك ، فالظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل الرسولي ( ت 843 / 1438م ) ـــ مثلا ـــ اشترى من مكة كتاب شرح الروضة للزركشي فجعل منه جملة نسخ ، أرسل بواحدة منها إلى عدن للشيخ جمال الدين بن أبي الفضل ( با فضل ) ، ومن مكة أيضا اشترى الظافر عامر بن عبد الوهاب ( ت870 هـ / 1465م) فتح الباري لابن حجر وجعل منه نسخا ، أودع منها نسخة في جامع زبيد، ولعل جامع عدن حظي بمثل ذلك ". ويواصل حديثه عن المكتبات العامة التي تأسست في الرباطات ( الأربطة ) ، فيقول : " أما الرباطات فالأمر أكثر تأكيدا لا احتوائها على مكتبات لأن الرباط يعد مجمعا متكاملا فيه المسجد ( المصلى ) ، وغرف السكن ، ومكان للدراسة ، ومخازن للمؤن وربما مكتبة , وأي ملحقات أخرى ، فالمكتبة لابد أن تكون من مكونات هذا المجمع ، وإن كان قد أنشئ للصوفة إلا أن تلقي العلم كان من مهماته ". [c1]المكتبات الخاصة [/c]ويشير عبد الرحمن الشجاع إلى المكتبات الخاصة لبعض الفقهاء والعلماء ، فعندما تفيض رفوف مكتباتهم بالكتب ، فإنهم يفتحون أبوابها لطلاب العلم ، والراغبين في القراءة والإطلاع . وفي هذا الصدد ، يقول : " وكانت هناك مكتبات خاصة تخص بعض العلماء ، فالفقيه ـــ مثلا ـــ أحمد بن عبد الله بلعس اليافعي كان أحد تلامذة والد با مخرمة ، فلما صار فقيها تجمعت لديه كتب كثيرة تكونت منها مكتبة كان يبذلها لمن يريد إعارتها ، فكأنها صارت مكتبة في متناول من يرغب الانتفاع بما فيها من كتب ولعله " . ويضيف قائلا : " ولا نستبعد وجود شخصيات أخرى لها الاهتمام ذاته ، بالإضافة إلى أن نظام إعارة الكتب ربما كان معمولا به في المكتبات الخاصة والعامة على حد سواء " . [c1]الهـــــــوامش : [/c]_ الدكتور عبد الرحمن الشجاع ؛ دراسة بعنوان قلادة النحرة ندوة علمية بعنوان ( عدن أوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ عام 856هـ وحتى عام 1254هـ ) نظمها مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن للفترة من 27 حتى 28 ديسمبر 2005 م . _ الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول 1538 ـــ 1635 م ، سنة الطبعة 1971 م ، الناشر : الجمعية المصرية للدراسات التاريخية . _ الدكتور حسين عبد الله العمري ؛ المؤرخون اليمنيون في العصر الحديث ، الطبع الأولى 1409 هـ / 1988 م ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ــ لبنان .