أفكار
في كل مرة تشتد فيها أزمات السودان, كانت غالبية الأحزاب السياسية تنتفض لطرح مبادرات وتتسابق لابتكار تسويات, لكن في الأزمة الراهنة مع المحكمة الجنائية الدولية لم نر اهتماما كبيرا من قبل القوي المعارضة, وكأنها تريد معاقبة النظام علي تجاهله المستمر لها وجري التركيز علي جهود الحكومة السودانية لفتح صفحة جديدة مع درافور ظهرت معالمها أخيرا في اللقاء الذي عقده علي عثمان طه مع مني أركو ميناوي لانعاش اتفاق أبوجا للسلام, لكن يظل الدور الخارجي الأكثر بروزا, فقد أبدت الكثير من الدوائر الإقليمية والدولية استعدادا للمساهمة في إيجاد مخرج, ينزع فتيل الأزمة التي ترتبت علي توجيه اتهامات للرئيس السوداني بارتكاب جرائم حرب في دارفور, وستشهد اجتماعات الجمعية العامة للأمم الحالية لقاءات وحوارات مختلفة لهذا الغرض مما يضفي حيوية علي تحركات جامعة الدول العربية, حيث قرر وزراء خارجيتها في اجتماعهم الأخير تشكيل لجنة من مصر وقطر والسعودية وليبيا الجزائر وسوريا لتولي ترتيب مباحثات سلام في دارفور, وهي اللجنة التي رفضتها مبكرا حركتا تحرير السودان والعدل والمساواة, الأمر الذي وضع أمامها حجرا ثقيلا, قبل أن تبدأ في ممارسة دورها بصورة عملية.لم تكن مبادرة الجامعة العربية أولي المبادرات, بل سبقتها مقترحات ومبادرات فردية وجماعية, بعضها أحرز نجاحا جزئيا والبعض الآخر لقي فشلا كليا, لكن المبادرة العربية تستمد حيويتها من ثلاث زوايا رئيسية.الأولي: وجود توافق عربي وإفريقي علي أهميتها في هذه المرحلة, حيث يواجه السودان واحدا من أكبر التحديات التي ستؤثر حتما علي مستقبله السياسي, وتعمل جهود الوساطة العربية والإفريقية علي حض مجلس الأمن علي استخدام سلطاته, بموجب المادة16 من القانون الأساسي للمحكمة الجنائية لعرقلة اتخاذ إجراءات فعلية لمقاضاة الرئيس عمر البشير, وبالتالي إتاحة الفرصة لنجاح عملية التسوية المتوقعة في دارفور, والثانية, اهتمام بعض الجهات الدولية بتطويق الأزمة مع المحكمة لان نتائج المحاكمة ستكون لها تأثيرات علي مصالحها المتعددة مع السودان, وقد ظهرت خلال الأيام الماضية إشارات فرنسية وبريطانية وصينية, ألمحت إلي رغبة في إيقاف إجراءات المحاكمة, من خلال السعي للتوصل إلي صيغة تضع دارفور علي طريق الحل السياسي الصحيح, وتحفظ للمحكمة ماء الوجه القانوني, والثالثة تعامل النظام السوداني مع المبادرة العربية بايجابية حتي الآن, وسواء كان هذا التعامل يعود لضيق البدائل أو سعيا حقيقيا للتسوية, فهو لايخلو من استعداد لفتح طاقة أمل لإغلاق ملف دارفور.لكن النيات الحسنة لاتكفي لحل أزمة معقدة في حجم دارفور, تحتاج لرؤية محددة للحل وقدرة واضحة لتطبيقه علي الأرض, وهو ما تفتقر إليه المبادرة العربية التي اكتفت بطرح عناوين عريضة, قد يؤدي الدخول في تفاصيلها إلي صدام يعرقل عملها, وحتي تأخرها الذي تحفظ عليه متمردو دارفور يمكن تفسير وفهم أسبابه, علي ضوء التدخلات البطيئة المعروفة في القضايا والأزمات العربية, وتعدد وتنوع اللاعبين واختلاف توجهاتهم وتباين حساباتهم في دارفور, كما أن طرح مبادرة في أزمة تستخدمها بعض القوي مطية لاختبارات إقليمية وتوازنات دولية بحاجة لإدارة عربية واعية وأجندة سياسية ومقومات عملية تسمح لها بالإقناع أو الضغط علي أطرافها الأساسية.يأتي التشكيك في المبادرة العربية, من اتهامها بالتعاطف مع النظام السوداني علي حساب المتمردين, الذي يعانون من تشرذم واضح, يصعب معه معرفة الأوزان السياسية والإمكانات العسكرية لكل فصيل, فضلا عن تعارض التسوية مع المكاسب التي يحصدها هذا الفصيل أو ذاك من وراء حمل السلاح, حتي أصبحت عملية التخاطب مع قيادات مسئولة في دارفور أمرا في غاية الصعوبة وسيظل الحديث عن حلول سياسية بعيد المنال, وتبقي الخيارات العسكرية هي الأكثر حظا, ما لم يتم تقريب المسافات بين الفصائل الدارفورية, كما أن افتقاد عدد من الأوساط السياسية ثقتهم في النظام السوداني, يضاعف من مشكلات التسوية المنتظرة, لذلك من المفيد أن تتولي المبادرة العربية توحيد صفوف الفصائل وبناء الثقة بين الخرطوم والمتمردين, باعتبارها الثقة الجسر الذي يمكن أن تعبر عليه أي مقترحات سياسية.من جهة ثانية, يتسبب تجاهل القوي المحلية الاخري في بعض العراقيل لان التعامل مع دارفور بعيدا عن الإطار الشامل للازمات يفتح الباب لمزيد من التعقيدات ربما تفقد السودان وحدته التاريخية, ناهيك عن الدور السلبي الذي تلعبه بعض منظمات حقوق الإنسان, بالتحريض علي التدخل أو الترويج لما يوصف بأنه انتهاكات, وبدأت بعض المنظمات تسعي لقطع الطريق علي أي مخرج سياسي للرئيس السوداني, بزعم انه سيؤثر علي مصداقية واستقلال المحكمة الجنائية من هنا ينزع التحسن التدريجي لأوضاع حقوق الإنسان في دارفور ورقة من أيدي هذه المنظمات ويساعد علي توفير مناخ جيد لانطلاق المبادرة العربية حتي تصل لأهدافها النهائية.رغم حملات التشكيك والرفض, فإن المبادرة العربية أمامها فرصة لإنقاذ السودان من مصير المحاكمة, تتمثل في غياب المبادرات الأخرى وتزايد الالتفاف حولها, وحصولها علي تأييد من جهات مختلفة, فضلا عن الثقة التي تحظي بها الوساطة القطرية بعد تجربتها اللبنانية, مدعومة من قبل الدول المشاركة معها في اللجنة العربية السداسية, علاوة علي أن هذه المبادرة تؤكد أن هناك عملية سياسية جارية في دارفور تخفف من وطأة بعض التصورات الدولية, وتقلل من قيمة التوجهات العسكرية التي تستثمرها بعض فصائل المتمردين في تحقيق أهداف مادية وسياسية.في تقديري أن نجاح أو فشل الرهان العربي يتوقف علي مدي استعداد الحكومة السودانية وفصائل المتمردين لتقديم تنازلات, تأخذ في اعتبارها حساسية الأزمة وخطورة ما تنطوي عليه من أزمات فرعية, واقتناع القوي الدولية بأهمية تغليب الحلول السياسة علي غيرها من التصرفات الاقصائية, والحرص علي اتخاذ خطوات ايجابية لإيقاف إجراءات المحكمة الجنائية, كذلك ضرورة استثمار المبادرة العربية للأجواء الإفريقية الرافضة لمحاكمة البشير كمدخل لتأكيد حدة الممانعات الإقليمية وفرملة الخطوات العقابية, بالإضافة إلي مشاركة القوي السياسية الفاعلة في حكومة وحدة وطنية تشمل كل الطوائف السودانية, لأن التعويل علي الرهان العربي وحده لإنقاذ السودان سوف يكون محل شك إذا واصلت الإطراف الداخلية دورانها في حلقة مغلقة من التجاذبات السياسية.[c1]* عن / صحيفة (الأهرام) المصرية[/c]