منير محمد أحمدالمتصفح للديوان يجد أن بين يديه عملاً ليس سهلاً لشاعر يمخر عباب اللغة العربية الرصينة ليختار من دررها ما يمكنه من رسم لوحة شعرية يصور فيها حياة ذلك السامق في ميدان الشعر العربي : ( أبو الطيب المتنبي)..إنها قراءة لسيرته بأسلوب جديد، ليس ذلك الأسلوب الذي يتبعه المؤرخون؛ إنه أسلوب الشاعر هاني الصلوي ذلك المتألق في سماء الإبداع..ويأتي الديوان في (136) صفحة من القطع الصغير، وبطباعة أنيقة عن دار جنون للنشر والتوزيع التابع لأروقة جنون الثقافية (www.gn0o0n.com( في طبعته الأولى 2008م.. والديوان عبارة عن مجموعة ليالٍ رسم فيها الشاعر هاني الصلوي معاناة الشاعر المتنبي في شقيها السياسي والعاطفي.. وعدد تلك الليالي : ثلاث عشرة ليلة يسبقها (إبهام) وهو عنوان يشد القارئ ويجعله أكثر تركيزاً مع كل كلمة ترد في ذلك الديوان، ولم يكن هدف الشاعر تصعيب الأمر بذلك الإبهام، بل على العكس فقد تدفقت اللغة الشعرية للشاعر في تلك المقدمة فاستطاع أن يستوعب كل تلك الليالي في نسق عربي رصين.. وقد ابتدأها بالتعريف بخولة التي ارتسم اسمها في مكنون المتنبي حتى انعكس ذلك على نفسية كل مطلع على سيرته العاطفية المحبوسة.. فخولة هي الأخت الأولى لسيف الدولة (المعمم) التي عشقها المتنبي بل وتتيم بها ولكن بصمت، دون أن يقدر على البوح بمكنونه تجاهها حتى بعد أن فارقت الحياة.. فهي وإن فارقت الحياة إلا أنها حية في قلبه، ومخلدة في كلماته إلى الأبد، وما الديوان الذي بين أيدينا إلا دليل على ذلك.. إنها ثلاث عشرة ليلة من ليالي المتنبي الأول ( أبو الطيب) مزجت بليالي المتنبي الأخير (هاني) حتى اختلطت فيها مشاعر المحبين واتحدت لوعة المشتاقين، واتصلت حلب بتعز.. وصنعاء بالكوفة، وأروى بخولة.. وأول تلك الليالي تحمل عنوان : ( أي ماء أنت) وهي الليلة الأخيرة بحلب.. تصور مشهد المحب يراقب احتضار حبيبته، وهو مكتوف اليدين لا يستطيع حتى زيارتها أو البوح بمكنون حبه لها، فلعله لو استطاع أن يبوح بمكنون حبه المتدفق من كل خلايا جسمه لوجدت فيه الحبيبة شفاء من كل سقم.. ولكنه أمام ذلك الحرمان فضل اللجوء إلى ربه يسبح في بحر الأمنيات مع من لا تخفى عليه خافية: (يارب.. هل أصحو على طلل بنافذتي تقادم؟!.. هل ستبعثها نداء في عروقي إن صحوتُ وقد قضت.. تقدست كلماتك..)ثم يتحدث النص ( أي ماء أنت) يحكي مشهد الدفن.. وهو يراقب من قريب دفن روحه الطاهر وسره الظاهر.. (نارٌ.. كأنك لم تعد صباً باعينهم.. تحملق في التراب.. يدس سرك في جيوب الأرض...). وفي الليلة الثانية يرقب شاعرنا ذلك العاشق المكلوم وهو يخرج من حلب.. أرض الحبيبة الغائبة.. التي كانت تشق طريقها بين ضلوعه فتستقر في سويداء القلب.. وكان يجد في ذلك الحب؛ الطريق المشروع للسلطة.. فكأنه قد فقد الحب والجاه في لحظة واحدة، ولم يجد بداً من الرحيل باتجاه مصر.. فخرج منها ينتزع قدميه انتزاعاً من فوق ثراها، ولا يزال يناجي ربه فيقول: ( يارب.. هل ستنوح هاتيك البلاد على المفارق...) ويعنون شاعرنا لتلك الليلة بعنوان: ( تُسيِّج المأساة عمرك).. فيتحدث عن رحلة ذلك القلب المنكسر داخل الصحراء التي من ترامي أطرفها يشك هل ستوصله إلى مصر : ( هذه الغبراء.. تحملني إلى الفسطاط حقاً؟!).وتأتي الليلة الثالثة بعد دخوله مصراً، يحكي ضياع حلمه الذي (أضحى رماداً) في تولي منصب قيادي، وفقده الأمل بعد أن خدع بكافور الذي لم يف بوعوده (فيض، وصدى ).. لقد انكشف له الأمر أن كافوراً لم يرد منه سوى أن يمدحه، ولكن مع هذا فإنه يجد الخير من يد (فاتك بن أبي الخيرات) في منطقة حلوان: ( تقمصني ضياع الكون، يذكر فاتك بالخير... يا... كافور).. وفي خضم الموقف - موقف معاتبة كافور- لم ينس المتنبي (خولته) وعيشته في حلب كأنه ملكاً.. فالقلب هناك: (قلبي عند من رحلوا.. سلوا ذاك الخصي [كافور].. أقمتُ في حلب مليكاً...) إنها المقارنة بين وضعه في حلب ووضعه في مصر : ( كيف يا مصر الضحى [المتنبي نفسه](أضحى رمادا في جفونك).أذكى تفاصيل البلاد. ذلك هو عنوان الليلة الرابعة.. وهي الليلة الأخيرة بمصر.. فقد أدرك أن الثناء على من لا يستحق؛ عيب.. والمقصود بذلك مدحه كافوراً.. ( آه يمزقني الثناء على التنابل...) فقد وجد أن سيف الدولة أهون عنده من كافور.. فخرج من مصر ليلة العيد وهو يهجو كافورا ويتمنى مقابلة سيف الدولة [المعمم] رغم مساوئه؛ فهو على الأقل فيه من ريح الحبيبة.. (خولة ارتحلت.. وفي صدق المعمم بعض ريح الذاهبين عن المكان...) ومضى يخاطب مصرا عن تلك الحبيبة التي اتخذت الموت بعلاً، فصار يتمنى الموت لكي يلحق بها.. إنه وفاء المحب العاشق لمن أحب وعشق : ( سروا يامصر واختارت “بعيل الموت” ياموت اقترب.. آن الخروج... هو الخروج..)الليلة الخامسة قضاها في طريقه إلى فارس مروراً بمحاذاة حلب.. ( قرب انكسارك عاشقاً حلت ركابك.. قربَ عامرة بخولة بالضريح ال.. كنت حلت..) لقد (استهدى ببرد الأمس) فصار يهيم بحلب وكأنها معشوقته.. ولم لا ؟ وهي تخبئ في رحمها، حبه المفقود، منذ أن غادرها حزيناً.. فما زال يسير.. فيهتدي بدفء القريب [سيف الدولة].. فتراه يصف حياته المليئة بالرحلات حتى صارت كل الطرق التي يسلكها من فرط حبه تنبض بالعشق، وكأن الرياح تخط مناقبه كعاشق مخلص: (نابض بالعشق ذاك السبيل، من رسمت مناقبه الرياح...)وفي طريقه إلى فارس؛ شده الحنين إلى جدته في الكوفة [جدته لأمة، وهي التي ربته] فوصل بغداد وأرسل رسالة لجدته يخبرها بقرب وصوله إليها، ولكنها من فرط فرحتها بالخبر ماتت فور سماعه.. فحزن عليها حزنا عميقاً.. فصور شاعرنا ذلك الموقف بكلمات رائعة: ( يا هل ترى من دونها تحيا؟؟ أم انسكب المودع من مشارفه؟ أخافك موتها ؟ سارت بذكرك...) ( مات مسرةً قلبُ الحبيبة، طرتَ تبحثُ عنك في نسخ الرواة.. على امتداد حنانها الأزلي...)أما الليلة السابعة فهي ليلة مفترضة بالكوفة ( زغب القناديل الحطام).. فقد كان حقيقة ببغداد إلا أن خياله قضى ليلة في الكوفة يتذكر جدته التي وافاها الأجل: ( قم ما تيسر في رنين الشهقة الأولى، تقومكَ رعشةٌ، خيِّرتُ بين برودها والسيل، فاخترت القيامة راحلاً...) إنه لم ينس -في خضم ذلك- حبه للبداوة وبناتها الساحرات بالفطرة، ولكنه يرى أن (خولته) رغم حضريتها قد جمعت حُسْن كل حَسَن: (حسن الحضارة ليس مجلوباً، هناك سطعنَ خولةَ، والسُّرى وطنٌ لفعلةَ استلذُ الموتَ في زغب القناديل الحطام..)ثم تأتي الليلة الثامنة بعنوان: ( تطلب الأهواز من حلب).. وهي ليلة بفارس.. ( فارس تمضي إليك.. ومن سواك بفارسٍ أمسى المليك؟ فارس ستؤم نبضك... تطلب الأهواز من حلب، فغادر، قد علمت ويجهلون..) إنه يحكي فكرة الولاية المعشعشة في رأس المتنبي، والتي لا يرى أنها ستبدأ إلا من حلب..أما الليلة الأخيرة قبل الموت فقد كانت بعنوان: ( إنّ غداً أريجك).. فهو يصور خروجه من فارس، من عند عضد الدولة الذي أكرمه كثيراً؛ متجهاً نحو حلب التي يرى فيها حلميه: المدفون والمأمول.. الحب والولاية.. (ما الذي يصهل في أوردتي منذ النهاية... لم تكن تعرف شيئاً، لم تكن تدرك شيئاً، كما تشظيتَ فأيقظت البداية...).. وفي منطقة قريبة من (العاقول) أحاطت به جموع الغدر؛ لقد قاده شعره إلى الهاوية، فهاهو فاتِك الأسدي يترصد به ليقتله، فيصور شاعرنا ذلك الموقف: ( ها أنت وحدك لائذ بالفقر تطلبك الأسنة.. ليس إلا.. الموت فاتحة القصيدة، قم لأجلك في بهاء الموت...) وفاتِك الأسدي غير فاتِك صاحب حلوان الذي أكرمه.. إنه فاتك الأسدي؛ ابن أخت ضبة الذي هجاه المتنبي.. (فاتِك الخيرات فاتَك.. فاتِك الآتي؛ تجمره الشماتة.. أم ضبة نصفها في الحان، والآتي انتصابٌ في طريقك...). والليلة العاشرة هي ليلة مؤجلة من ليالي المتنبي بعد خولة، أو هي بالأصح للمتنبي الجديد؛ يربط فيها بين (حلب) و(تعز) برابط الحب المتدفق رغم العوائق.. إنها ليلة ليلاء عاشها شاعرنا في زمن يظهر ما لا يبطن، ويبوح بغير ما يضمر.. ( هم ثلة حملوا المناشير العريقة في عروق السدر، كل خرائب المازوت صبوا...) في ذلك الوضع الكئيب يجد الشاعر نفسه عصياً متألقاً وشامخاً شموخ غزة في زمن الذل العربي.. ( فما مقامي بالرصيف، بقلب نخل الشط، إلا واحدُ الشعرِ، رب الحرفِ، أحفظني مليكاً عن متون الكبرياء...) ويجد الشاعر أن لا حدود لطموحاته، ولا سبيل لوقف سيلها المتدفق، وإن حاولوا عبثاً؛ فإنهم لا محالة خاسرون..( خرَّ موكبهم أمام الشاعر المسكون بالكلمات، إني أشتهي طول البلاد.. يضيق بي وقتي، وأزمات الخليقة في يدي...)ومثل سابقتها، هذه الليلة ( ليلة في صنعاء) بعنوان: جَرَحَتْ جبالاً.. فهي ليلة مؤجلة من ليالي المتنبي، أو لعلها من ليالي شاعرنا الحالي وغيره من الشعراء الذين لم ينصفهم النقاد لأنهم لم يصلوا إلى فهم حقيقي لمعنى قصائدهم التي ترجمت مواقف ومشاعر وحنين وشوق نادراً ما يوفق الناقد لإدراكها.. (مالي وللنقاد يحتكرون نبضي في مقاصلهم.. يشجون القصيدة في الصميم.. لعلهم خبروا الصحارى.. جفّ ضرع الشعر مذ مسته أهدابٌ لهم جَرَحتْ جِبالا...) ومهما تجنى الخصوم على المتنبي فإن الوساطة بينهم وبينه ليست سوى: ( تبدوا {الوساطة} نصرة للشامتين، وفي {الإبانة} بعض ما اقترف الخليُّ بكبرياء الأمس، بالنبع المجلجل في الدماء..) ويقصد بالوساطة : كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي الجرجاني.. كما يقصد بالإبانة: كتاب الإبانة عن سرقات المتنبي للعميدي.. وقبل الختام تأتي على المتنبي ليلة وهو في السجن - في البادية تحديدا- وهي ليلة متقدمة جدا وجدت بين أوراق أبي الطيب بعد مقتله. ( هذا الجدار أحب من خبث الغنائم، ليس في السجن المهانة.. كلها سجن بلادي... لن نميل مع الرياح.. أيدرك الوالي فتىً ولدَ الضحى في راحتيه المستحيل ببابه...) إنه الشموخ رغم المحنة.. وإيمان بالرسالة رغم القيود.. وحكمة في اتخاذ المواقف... (علة وضعُ المُدى في موضع الكلماتِ.. وضع السيف أهون من دبيب المتخمين بريفنا...).وفي الختام كانت الليلة الثالثة عشرة خارج الوزن والبحر والزمن والقافية.. وبمعنى آخر: ليلة خارج نطاق القيود المعهودة، إنها ليلة تلبي تلك الرغبة الجامحة لدى المتنبي ليكون ما أرد أن يكون... (جل هذا الكائن الليلي، طالعَ جمعهم صدق المحيا... ما حالنا لو لم أبارك هؤلاء القوم... لو لا نفحةٌ سبقت؟!)..وعوداً على بدء فإن الشاعر لم ينس أن يشير منذ البداية إلى أن المتنبي قد حمل مصرعه معه منذ أن فكر أن يكون شاعراً، فقد كان شأنه شأن كثير من الشعراء الذين قتلهم شعرهم:( طارَ من حنجرتي لا يعي، حاملاً سمر الليالي معي، فارَ في أعطافه موعدٌ، لم أزل أحمله {مصرعي}).هذه هي تلك الليالي الثلاث عشرة التي تضمنها الديوان.. عرضها الشاعر بأسلوب جديد ورائع.. جمع فيها بين الأصالة والمعاصرة، بين المنحة والمحنة، بين الحب والبغض، بين الألم والأمل، فجاء عملاً رائعاً من شاب تألق في سماء الشعر منذ نعومة أظافرة.. وهذا الديوان هو الثاني للشاعر / هاني جازم الصلوي بعد ديوانه الأول المسمى: ( على ضفةٍ في خيالِ المغني) والذي صدر عن وزارة الثقافة والسياحة في العام 2004م.. والشاعر هاني الصلوي من مواليد عام 1980 في عزلة الأشعوب مديرية الصلو بمحافظة تعز، ويعمل معيداً بجامعة تعز، وحاصل على بكالوريوس لغة عربية، ويقوم بإعداد رسالة الماجستير في جامعة القاهرة.. وهو عضو اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وعضو الرابطة اليمنية للثقافة والفنون (طيف).. نشرت له العديد من القصائد والمقالات النقدية في كثير من الصحف والمجلات العربية واليمنية..