قراءة أنطباعية عن رواية " حرب الخشب""
لقد أرادت الكاتبة "هند هيثم" في رواية "حرب الخشب" ان تقول لمتلقي الرواية وقارئها ـ اياً كان مستواه ـ اشياء كثيرة ذات أهمية ، بيد أن أهم ما دونته في روايتها تصوير معاناة مجتمعاتنا إزاء احدى أهم معوقات تقدمها الحضاري وهو التخلف الذي تتقهقر بسببه الاوطان والمجتمعات بحكم الإرث الاجتماعي السيء والعادات البالية التي سادت ومازالت تسود هذه المجتمعات والمتمثلة بأبشعها وهو ظاهرة الثأر .لسنا مع أديب يتخذ لنفسه دائماً موقفاً فكرياً ضد مجتمعه ، ومن هنا فقط تأتي الفرصة لان نقول ان الاديب يؤثر في مجتمعه ، وانه يعيش في مجتمعه ، ولكنه لاينتج أدبه إلا في الحالة التي تستقل فيها ذاته عن هذا المجتمع ، فيتخذ موقفاً فكرياً خاصاً به ..الناقد / محمود وبعيداً عن أية مواقف سياسية أو شعارات طنانة سعت هند هيثم إلى تشكيل روايتها "حرب الخشب" فنياً في مائة وست صفحات "106" من القطع الصغير قسمتها في متوالية رقمية من الرقم واحد "1" إلى الرقم ستة عشر "16" بحيث صور كل قسم مشهداً سردياً قائماً بذاته يعبر عن مرحلة عمرية تصاعدية نمت وتنمو فيها شخوص الرواية وتحديداً بطل الرواية الرئيس وهو كذلك راوي احداثها وفصول وقائعها ، وبالتالي فان تلك المشاهد قد مثلت فضاءً سردياً صغيراً يفضي بدوره إلى فضاء تال يبين تتابع السرد من خلال تعبير لغوي رفيع تمثلت فيه الكاتبة عين الكاميرا السينمائية وهي ترصد وتدقق في تفاصيل المشهد "اللقطة" فكان اثر الصورة البلاغية لديها جلياً من خلال "سيناريو" سردي متكامل اللقطات حسبت له كل مقومات النجاح .تذهب كثير من الكتابات السردية المعاصرة في اليمن إلى مجاراة اساليب السرد في الغرب .. ونجحت اسماء بذاتها في الخروج باشكال سردية متوائمة مع تلك الاتجاهات وقطعت شوطاً لابأس به في تطوير أسلوب القص التقليدي الذي سار عليه الأول أمثال دماج وأحمد محفوظ عمر ومحمد صالح حيدرة ومحمد عبدالولي والذين يعدهم الدارسون قد تمردوا في نتاجاتهم الابداعية السردية على من سبقهم وهذا دليل حي على جدلية الأدب وديناميكيته "فالكتاب لايتكررون" وانهم هم أفراد متميزون وكذلك الاسلوب خاصية فردية متميزة حسب اشارة الدكتور عزالدين اسماعيل .أما الدكتور غالي شكري فيقول : " فان الهاربين إلى الامام من فقراء الموهبة في بلادنا ينتحلون " منشور المسميات الغربية لتحويل الأدب إلى لعبة شكلية فارغة .. وهي لعبة لا علاقة لها بالرؤية الحقيقية أو التجريد الفني الاصيل ، وإنما هي كتزييف النقود واللوحات العظيمة ، وليدة الغش والاضطراب الشامل في مجتمع تنهار أسسه الوطنية ومكوناته الجوهرية .وفي ضوء ما تقدم فإننا نلاحظ في الجهة الاخرى المقابلة ثمة كتابات اخرى مغايرة جاءت لاحقاً وخاضت معركة التحديث الأدبي في اساليب فن القصة والرواية بعضها نجح في تطوير سرديته واكثرها راوحت نتاجاتها الادبية لانها اعتمدت افساد الذائقة الادبية الخلاقة لاتباعها الغموض والتهويم بحجة الرمزية زد في نتاجاتهم سطحية الفكرة .أوقول بامانة كثير من هؤلاء فرضتهم ظروف لاعلاقة لها بالعملية الابداعية لا من قريب ولا من بعيد ، وايضاً غياب النقد الأدبي الحقيقي وحضور النفاق بفاعلية في اوساطهم.اما بالنسبة للروائية "هند هيثم " في روايتها الموسومة بـ "حرب الخشب" فإنها قد وفقت اولاً بدرجة رئيسة في رسم ملامح شخصيات روايتها من صميم الواقع وبلغة أدبية سهلة وجميلة.كما أنها تمكنت من طرح احدى أهم قضايا المجتمع اليمني من حيث درجة خطورتها وهي الثأر .لقد جعلت الكاتبة وبذكاء من هذه القضية ظاهرة اجتماعية لابد من مواجهتها ومعالجة اسبابها والتي سبق وان تناولتها كثير من الكتابات باساليب اخرى وتكاد تكون ثانوية ، أما هنا فهي قضية محورية جعلتها الكاتبة محط اهتمام راوي الحدث وبطلها الرئيس الذي فقدت عائلته الكبيرة عدداً من ابنائها الابرار في معركة الثأر المستمرة مع عائلة اخرى بسبب خلافات مستديمة على ملكية قطعة أرض محل تنازع الطرفين ، ومعها ومع الراوي والبطل نلمس ذلك الصراع التناحري الذي ينعكس على نفسيات وعزائم الجميع وفي مقدمتهم الجيل المثقف والتي نجحت الكاتبة في اقناعنا فكرياً بأن، نصل معها ومع بطلها إلى الادانة المباشرة لهذه الظاهرة الخطيرة والتي اضحت تهدد السلم الاجتماعي للاوطان وقبل كل شيء تهدد أمنها وأمانها .وفقت الكاتبة "هند هيثم" في اختيار عنوان روايتها الموسوم بـ "حرب الخشب" والذي نلحظ أنه يتكون من مفردتين لا جامع لهما إلا تأويل الكاتبة نفسها والتي جعلت منهما تحملان ايحاءً ادبياً وقتياً عميق الدلالة الاجتماعية .واني اراها قد نجحت بهذا العنوان ومنذ اللحظة الاولى إلى شد قارئها للغوص عميقاً في اعماق الرواية والاجابة عن كثير من الاسئلة التي بسطتها روايتها قيد المضمون.وقديماً قالت العرب في مأثور القول " الكتاب من عنوانه .. وان ما يجعل الكتاب تحفة فنية ليس هو حوادث المغامرة الاساسية لكنه التعبير عنها الموصوف وصفاً ممتازاً) .وباطلالة سريعة على الوصف والحوار في رواية "حرب الخشب" نجدها في تداخل بديع حسن كثيراً من جماليات الخطاب السردي الذي مثل شخصية الكاتبة وفكرها ، كما أنه جاء في تداخل لغوي انيق تلازم مع اسلوبها في التعبير والحوار ولادلل على هذا أورد هذا المقطع السردي حسب تسلسله الرقمي ـ 2 ـ من الرواية في الصفحة التاسعة (وقف عبدالله امام المرأة يمشط شعره ـ ابتسم لنفسه مستعرضاً اسنانه البيضاء المنتظمة هذا دليل صحة جيدة ، والآن ماذا يا عبدالله الوسيم .. نكش شعره قليلاً ، تسريحة على الموضة ، لم يعجبه الشكل ، عاد إلى المشط وفرق شعره من الوسط ثم من الجانبين ، لم يستقر على التسريحة التي سيظهر بها اليوم وكان يتباهى بشعره الجميل الأسود ، وبوسامته لكنه كان يتباهى اكثر بذكائه الشديد واجتهاده ).عند مراجعة ذلك المقطع السردي تبرز لنا تقنية عالية الجودة لا اغالي اذا قلت بأنها ترقى إلى تقنيات كبار كتاب القصة والرواية الاجلاء الذين اجادوا وكانت بصماتهم غير مخفية في تطور السرد الحديث .لقد نجحت الكاتبة كمبدعة في توليف فني فريد لاكثر من عنصر في مقطع سردي صغير جداً وليس ذلك فحسب بل أنها اوصلت ما تريد تصويره وعن شخصية "عبدالله" احد ضحايا "حرب الخشب " للمتلقي في تعابير موجزة ولكنها غنية بالتعريف عن تلك الشخصية .اما الميزة الجمالية الأهم التي ينبغي عدم اغفالها وهي لصالح الكاتبة ، وروايتها استخدامها في نسيج كتابتها السردية اضافة إلى عنصري الوصف والحوار هو ذلك التنوع في استخدام الضمائر ضمن نسقها السردي الذي لا غبار عليه والانتقال بالحكي من ضمير المتكلم أنا راوي الحكاية وبطلها إلى الضمير الغائب، يعد هذا من المحسنات البلاغية والنحوية المستحسنة عند كتابة نص ابداعي يتميز عن سواه بالامكانية والقدرة .وقد توهم بعض كتاب القصة ان اسلوبها لايحتاج إلى لمسة بلاغية في التعبير وراوا ان للقصة بلاغتها الخاصة حيث تصور حياة متخيلة لمجموعة من الشخصيات لكن اسلوب القصة في تقديري يجب ان يجمع بين الفائدة القصصية في الدلالة على تطور الحدث وحركة الشخصية ـ وبين القيمة الجمالية للعبارة القصصية ، سواء في السرد أو الحوار .