[c1]محمد علي شمس الدين[/c]لصنعاء سبعة أبواب قديمة.. بصيغة أدق، لصنعاء سبع بوابات قديمة. فالباب للمنزل، والبوابة للسور وللمدينة.. لكنْ، لكلمة الباب معنى رمزي ليس للبوابة.. معنى يكاد يكون روحياً.. وهو عند بعض الفرق الإسلامية يحمل معنى دينياً عالياً. لذلك نستطيع أن نضيف اليوم لبوابات صنعاء القديمة، باباً جديداً وحديثاً، وهو باب للثقافة والشعر.. ونستطيع أن نشير مباشرة إلى عبدالعزيز المقالح، الشاعر، ورئيس جامعة صنعاء سابقاً والصديق الثقافي لعشرات الشعراء والأدباء والمفكرين والباحثين، العرب والأجانب، ممن فتح لهم الرجل باباً إلى اليمن، اسمه باب الثقافة، وهو باب، على الأرجح، أكثر حساسية وأهمية من بوابات الحجر... على ما لها في صنعاء، من هيبة تاريخية، وعبق قديم. إن صدور مختارات شعرية لعبدالعزيز المقالح، من خلال مشروع «كتاب في جريدة» الذي تشرف عليه وتصدره منظمة «اليونسكو» (من خلال العدد 88 كانون الأول 2005)، مع رسوم لأحمد الحجري، هو فتح الباب الثامن لليمن (ولصنعاء اختصاراً) مزيناً بقصائده، المنشورة في المجموعات الشعرية للمقالح، منذ العام 1961م (رسالة إلى سيف بن ذي يزن) حتى آخر مجموعاته الشعرية: كتاب القرية، وصنعاء، والأصدقاء، في العامين 2004، و2005م. المختارات الشعرية، على وجه الحصر، جاءت مأخوذة من المجموعات الشعرية التالية: «بلقيس وقصائد لمياه الأحزان»، «كتاب القرية»، «كتاب صنعاء»،و «أبجدية الروح»، «الكتابة بسيف الثائر على بن الفضل»، «عودة وضّاح اليمن»، «هوامش يمانية على تغريبة ابن زريق البغدادي»، «رسالة إلى سيف بن ذي يزن»، «لابد من صنعاء»، «تأملات». يلاحظ حضور صنعاء واليمن ومأرب وبلقيس ووضّاح اليمن وسائر مفردات المكان والزمان اليمانيين في شعر المقالح. والمكان اليماني كما الزمان اليماني اليوم، كلاهما قديم.. يقول في كتاب القرية «بيوتها الحجرية المطلية النوافذ بالنورة/ طين تراوده شهوة العزلة وحنين الابتكار»... ويذكر أن صنعاء مدينة التفّ جسدها بالحرير تارة وبالرماد تارة» أما جبل نُقم المشرف على صنعاء، ويفضل الشاعر أن يسميه «غيمان» فإنه يغازل أنقاض التاريخ ويتوق إلى تغيير اسمه. غالباً ما يذكر المقالح كلمة «الروح» في أشعاره.. فصنعاء «عاصمة الروح» وأبجدية أشعاره، «أبجدية الروح»... وهو شاعر ذو شجن. «هل تسمعني بكاء القطارات إذا ما أتى الليل؟» وصاحب عشق يبثه لذاته ولمدينته، تارة بوجد المتصوّف، وطوراً بحنين البعيد عن معشوقه (حتى ولو كان مقيماً في حضنه)... والشاعر أيضاً صاحب تأمل وأسئلة، غالباً ما تئن في الليل أو في «ليل الليل» كما يقول... وهو بالضرورة إنشادي غنائي، حتى في تأمله الهادئ... فتأتي قصائده على صورة همس مع الذات وحوار جواني مع الأشياء والأسماء «سأعترف الأن أني خدعت العصافير/ أني هجوت الحدائق/ اني اختصمت مع الشمس/ أني اتخذت طريقي إلى البحر منفرداً وانتظرت الزمان الجميل»... وحين ينسحب إلى ملاذ ما، في الاسم أو في المعنى، فانسحابه جميل ونبضه أسيان «إلهي/ تسللت ذات مساء شديد الظلام إلى منطق الطير»... «أي إلى منطق طير مزيد الدين العطار النيسابوري - كما يقول الشاعر في «أبجدية الروح» - وهذا اللجوء، لا يتم في غالب قصائد المقالح من دون حس يتداخل فيه اليأس بالأمل، كتداخل الليل والنهار، والمرارة بنقيضها: «يستوي مخلب الذئب والكفّ كفّ الصديق الذي حملته جفوني وكنت له الريش والأفق... كيف استوت، آهٍ، تفاحتي والحجر؟». فالحزن كما النقش في أشعار المقالح، حزن يماني... يقول «أورقت الكآبة» ويقول مخاطباً مأرب «سيدتي ليس ذنبي: تصالح في قتلي النفط والرمل». قصائد عبدالعزيز المقالح لينة قليلة التعقيد على عمق آسر، وكما تشعر نحو صاحبها بمودة كهذا تشعر نحوها بالمودة نفسها. وهي تضرب في حداثة هادئة، لكن ليس على بعد بعيد من الأصول والايقاعات. إنه جسر للحداثة الشعرية في اليمن... وعلى هذا الجسر تنتقل الأجيال. كان قد ابتكر في مداخلاته النقدية، تعبيراً للقصيدة الحديثة التي يكتبها شعراء شباب هناك، فسماها «القصيدة الأجدّ»... وهكذا فكيف لك بزيارة أشعار الشاعر، ولا تزور المكان القديم الجميل السعيد والحزين معاً، اليمن؟... فمن الصعب الكلام على يمن الحاضر، من دون أن يفتح التاريخ علينا الباب... فيدخل ويجلس معنا في المجلس أو المقيل»، ويصعد فيملأ فضاء المكان، «هنا بلاد حاضرها موصول بماضيها كحبل الوريد، وأسطورتها تشارك في صنع حاضرها.. بلاد لا يمكن للشاعر أن يتلافاها». وحين سبق لي وزرت تلك البلاد السعيدة، وكتبت عنها، كنت واحداً من عشرات المشدودين إليها بخيط السحر، ولم أكن أقلّ شوقاً للقاء بلقيس من الملك سليمان بن داوود نفسه. فهل كان يدور في خَلَد بلقيس حين دفنت عينيها السوداوين الجميلتين في الصحراء، قرب معبد «ألمقا» - إله القمر - في العبادة القديمة، غير بعيد عن قصرها في تخوم مأرب، أنّ عينيها ستزهران يوماً ما في دفاتر الشعراء؟ وأن سلالات كثيرة من العشاق والمفتونين بسحر التاريخ، سوف يلوون نحوها أعناقهم، كل يوم، كما تلوي الظباء أعناقها حين تشم رياح الصحراء...؟. هل كانت تعلم بلقيس أن المقالح سيكتب لها الآن، وهناك، قصائد عشق وهو طريح فوق نار العشق، وأنه سيكتب لها على ظهر الحصى، فتورق الحجارة....؟ مع قصائد المقالح، وفي صنعاء ومأرب، والحجة، وحضرموت، أدور على مسافة الأزمنة والأمكنة مع الناس بقاماتهم الهزيلة ووجوههم السمراء، يتدافعون في الشوارع والأزقة والأسواق كما يتدافعون في ذاكرة تعود لأكثر من قرنين من الزمان. يكون اليمني عادة حاسر الرأس أو يلبس عمامة صغيرة زيدية، يضع في وسطه خنجراً معقوفاً، ولابد دائماً من انتفاخ قليل في زاوية الفم. إنه القات. يعبر عبدالعزيز المقالح في أشعاره على القات. يكتب في قصيدة بعنوان «الخروج من دوائر الساعة السليمانية»: «.. باحثاً في الماء عن وجهي/ عن حروف القات/ عن شجيرات الخيال/ أين تختفي خيلي؟.... يمضغون خضرة الأيام/ يشربون ماء العمر/ أين ضوء الحلم والبراءة؟» في أحاديثنا مع عبدالعزيز المقالح، كان يقول لي إن المقيل وجلسات القات في اليمن، كانت ندوات أدبية وفكرية وسياسية.. تناقش فيها حول النبتة الخضراء، شتى الشؤون الفكرية والسياسية والأدبية. قال إن الثورة صنعت في هذه المقيلات (جمع مقيل)... والفتاوى الشرعية نفسها تجيز مضع القات باعتدال. وهناك أشعار في مديح القات وأوراقه الخضراوات «كاليواقيت»... حسناً... لنعبر ذلك إلى صور اليمني في شعر المقالح. إنه يعيش في زمن زراعي لا ريب فيه... إنه محب مضياف عريق، تكاد تشم من ثيابه كما في الأسواق والمنازل روائح القرون الماضية: البن والبهارات، الفلفل والمسك، والحناء والطيب. المنازل خفيضة الارتفاع، قديمة، مزركشة بحجارة صغيرة، وشرفات مشربة بألوان عديدة تتقابل حول أزقة ضيقة: هذا هو معمار صنعاء. لا تظهر لنا صنعاء بمثل هذه التفاصيل في شعر المقالح. إنه ينظر إليها في الشعر على أنها «عاصمة الروح»... ولكن، لابد لنا من تفاصيل المدينة... فحين تخرج من المقيل، وتطلق طرفك في أفق المدينة، ترى صنعاء عالية وفسيحة: المآذن كثيرة والمنازل غفيرة، والأذان يعلو في آناء الليل وأطراف النهار. قريباً منها، يحرسها جبل على شكل جبلين صغيرين: يسمونه جبل النهدين. وفي البعيد الجبال والرمال... ومأرب مأربان: القديمة بسدها وآثارها الباقية مثلما يقول الشاعر العربي «كباقي الوشم في ظاهر اليد».. والسد الجديد مكان القديم، مؤسس على الأسس الهندسية نفسها لمهندسي الماضي العظيم... حيث، هنا، يتجاور الماضي الذي لم يمض تماماً والحاضر الذي لم يحضر تماماً.. عبدالعزيز المقالح يقطف الرمز والدلالة من بلاده... حاضرها والتأريخ... الأماكن والأسماء... وما أكثرها وأغناها في مدينة لابد منها (وإن طال الشعر).
|
ثقافة
الشاعر عبدالعزيز المقالح .. في ( كتاب في جريدة)
أخبار متعلقة