مدينة إب القديمة.. عراقة الماضي وروعة الحاضر
إبراهيم الشعيبي :مدينة إب القديمة الواقعة في قلب المحافظة الخضراء على سفح جبل بعدان في ربوة ترتفع (2000) متر عن مستوى سطح البحر مدينة ساحرة وفاتنة ومن أجمل المدن اليمنية فعندما تلج هذه المدنية الحسناء من احد أبوابها تقرأ بوضوح ماخطه الدهر ولونته العصور وحفظته الأيام وتدرك تماماً انك أمام لوحة ساحرة بأطلالها وبتراثها وأهلها وطابعها القديم.. سيدهشك صدق مودة الناس وبساطة عيشهم بل وستغرم بكل شيء فيها إلى درجة الهيام وحتماً ستحوز على إعجابك وستترك لديك انطباعاً جيداً وتأثيراً ايجابياً وستجبرك على زيارتها مرات عديدة لتستمتع بهوائها النقي وأطعمتها الشعبية ذات المذاق الرائع ولتشتم عبق التاريخ حين تأخذك معالمها الأثرية في رحلة إلى زمن تكفن وهو مازال حياً وستكشف لك حقائق تاريخية تجعلك تجزم بان اليمانيين القدامى رحلوا قبل أوانهم فظلت روائع مجدهم باقية في صدر المكان.[c1]حفنة من لؤلؤ[/c]القادم إلى مدينة إب القديمة من أي اتجاه يراها تزهو وترفل طوال العام في حلة خضراء فطريق الوصول إليها من أي إتجاه كان يمثل ملمحاً من ملامح الجمال الطبيعي وعنصراً سياحياً يؤسس للسياحة في أحلى معانيها فعندما يقصدها الزائر يجد الخضرة عنوان الجمال تغمر الأرض بامتدادها فالطرق المؤدية إلى إب محفوفة جوانبها بالخضرة والطبيعة الخلابة والمناظر الجميلة وقد أوجز وصف ذلك الرحالة العربي أمين الريحاني بقوله “ القادم إلى إب من تعز أو ماويه يراها في السهل وحولها الربىكأنها حفنة من اللؤلؤ على بساط اخضر مفروش وبحيرة جفت مياهها والقادم إليها من صنعاء، ذمار، يريم” يراها قائمه على رأس الجبل، الصخر، في مرج أو كبرج في جزيرة.[c1]شواهد طبيعية وتاريخية[/c]إب اسم لمدينة يمنية (مدينة إب القديمة) سميت باسمها محافظة إب بالكامل واختلفت الآراء في مصدره طبقاً لمعناه حيث يدل الاسم في معاجم اللغة على المكان كثير المرعى الذي لم يزرعه الإنسان مما تأكله الدواب والأنعام أو المكان الذي توجد فيه النباتات والحشائش تنمو اعتماداً على المطر دون تدخل الإنسان بالري و إب بفتح الهمزة هو المكان كثير المرعى حيث ذكر ياقوت لحموي في معجمه إن أسم المدينة هو بفتح الهمزة والتشديد وهي بلدة في اليمن والأب هو الزرع كما جاء في قوله تعالى “ وفاكهة وأبّاً” وقال ابن سفلة: إب بكسر الهمزة مشيراً إلى أن أهل اليمن يلفظونها بالكسر أما ابن منظور في لسان العرب فقد ذهب إلى ماذهب إليه ياقوت وورد في قاموس المنجد أن إب هو العشب والماء وان أب هي مدينة من أغنى المناطق الزراعية في اليمن أما الثعالبي فقد انحاز إلى القول بان اسم إب اشتق من احد أشهر السنة إب (أغسطس) الذي تكثر فيه الأمطار وما ذكر من المعاني السابقة التي تدل على تسمية إب ينسجم وينطبق مع طبيعتها لغزارة الأمطار وتوافر المياه الذي جعل المرعى متوافراً طوال السنة فضلاً عما يزرعه الإنسان ولعل هذه الآراء أرجعت أصل التسمية إلى اشتقاقها من الطبيعة.في حين يرى آخرون أن إسم إب اشتق من التاريخ واعتبروه احد الدلائل والقرائن التي تؤكد عراقة مدينة إب القديمة إلى عصور ما قبل الإسلام حيث يشير عدد من الباحثين والمؤرخين إلى أن هذا الاسم اشتق من اسم احد ملوك الدول اليمنية القديمة والتي كانت تسمي الأماكن بأسمائهم فقد أشار المؤرخ محمد بن يحيى الحداد في كتابه (التاريخ العام لليمن) إلى إنها سميت باسم احد الملوك الحميريين الذين كانت أسماؤهم تبدأ بكلمة إب (إب يشع- أي كرب أسعد) الأمر الذي يرجع عودة اختطاط هذه المدينة إلى عصور ما قبل الإسلام حتى انه لم يعرف من اختطها أو تاريخ إنشائها نظراً لعدم القيام بأي تنقيب يذكر في المدينة أو أي دراسة توضح ذلك وكما هو معلوم ايضاً ان أسماء الملوك اليمنيين المعينيين كانت تبدأ ب أب (ابليقع أب يدع) وكذا القتبانيون ” اب اشم- إب عم- يدع أي غيلان)إلا أن عدداً من المصادر ترجع عودة مدينة إب إلى العصر الحميري مشيرين إلى الآثار القديمة التي مازال بعضها ماثلاً ومنها (دار البيضاء) وهو عبارة عن قصر ضخم تهدم معظمه وسمي بالبيضاء نسبة الى البيضاء بنت شمر يهر عش وقد ذكر إبراهيم المقحفي ذلك كما أكد الرحلة نزيه مؤيد العظيم الذي زار مدينة إب في رحلة استكشافية (عام 1937م) في كتابه رحلته في بلاد العرب السعيدة انه شاهد حينذاك بنايات ضخمة قد تداعت أطرافها وهي من أيام حمير كما شاهد منازل مكتوب على أحجارها وأبوابها ومنافذها كتابات بالخط الحميري وأشار الأستاذ الدكتور محمد مظفر الادرهمي الى ان مدينة إب القديمة تشبه المدن الأثرية المسورة في الشمال الشرقي للجزيرة العربية في مكوناتها ” اربيل وهيت” وعلاوة على ما ذكر فان مدينة إب برزت في العصر الإسلامي كمدينة إسلامية ومازال فيها معالم ماثلة وفي حالة جيدة تعود الى القرن الأول الهجري والعصور المتلاحقة للدويلات.[c1]أسوار تاريخية[/c]تعتبر مدينة إب القديمة من المدن اليمنية المحصنة فقد كان يحيط بها سور شبه دائري مبني من الحجر المنحوت وشهد عدة توسعات نتيجة زحف العمران إلى أن شيد آخر سور من قبل الوزير محسن بن علي الحبشي الحربي في (1120هـ/1708م) وجعل لهذا السور الذي يبلغ طوله حوالي (1450متراً) أربعة مداخل وكان يتخلله عدد من الأبراج بقي منها ثمانية وكان للمدينة أربع بوابات قديمة إلى ان تم بناء بوابة خامسة من قبل الأمير محمد الشهاري المتوفى سنة 1382هـ/1962م واسماه الباب الجديد ولم يعد باقياً سوى باب واحد هو باب الراكزة وبقية المداخل هي الباب الكبير وباب النصر وباب سنبل التي نظراً لأهميتها تم إعادة بنائها على هيئة نماذج رمزية في مواقعها الأصلية.[c1]لوحة فنية تحمل سحر الشرق[/c]يتم الدخول إلى المدينة القديمة عبر هذه الأبواب التي تؤدي الى حارات المدينة البالغ عددها 35 حارة تحمل أسماء مشتقة من المساجد والمدارس العلمية أو الأبواب ومن خلال أزقة (شوارع) ضيقة مرصوفة بالحجارة تربط بين أطراف المدينة ومراكزها الهامة من المساجد والأسواق والميادين والمدارس وتتميز طرقات المدينة بوجود ممرات مسقوفة بواسطة مباني تربط بين منزلين سقوفها مسطحة الشكل ومنها ماله سقف مقي كممر باب الريشة فعندما يتجول الزائر داخل المدينة يجد نفسه امام متاهة جمالية تشكلت من تلك الشوارع والممرات الضيقة الكثير والمتشابهة والمتوزعة بين المباني المتنوعة التي تعكس جمال المدينة وبهاءها لما تحمله من نمط الهندسة المعمارية الحجرية التي تعد مثلاً حياً على فن العمارة السائد في المناطق المرتفعة من اليمن فيشاهد الزائر منظراً رائعاً لاينسى لاحدى المدن الاسلامية التي احتفظت بمبانيها العالية المتجاورة وما تحمله من روائع الفن الهندسي والزخرفي ويتمتع باستنشاق أريج النباتات العطرية المزروعة في أون صغيرة في مشربيات النوافذ وأسطح المنازل كما انه يشتم عبق التاريخ في كل مبنى من منازلها وممراتها ومساجدها ومدارسها التي تزينها القباب والمآذن المرتفعة والأسواق المفعمة بالحركة والنشاط وسواقي المياه المحمولة على عقود نصف دائرية حتى تبدو أمامه لوحة فنية تحمل سحر الشرق وجماله ويخبره كل جزء منها عن تاريخ المدينة عبر مئات السنين.[c1]روائع الفن الهندسي والزخرفي[/c]لقد أخذت الهندسة المعمارية لمنازل المدينة شكل وطابع المنازل البرجية الحجرية المتعارف عليها في المناطق الجبلية وبنيت بأحجار محلية رمادية اللون او وردية من الصخور البركانية التي غالباً ما يلاحظ إنها تفصل البناء وخاصة البرتقالية التي تتميز بسهوله تقطيعها وتشكيلها وتجلب من مواضع محلية وتتميز مباني المدينة بمداخل واسعة لها أبواب حليت بعدد من الإطارات المزخرفة بزخارف خشبية وتحمل أجراساً صنعت بطريقة يدوية بدائية كما أن بعض تلك الأبواب لازالت تؤكد اشتغال اليهود الذين كانوا يقطنون بالمدينة في القدم بالتجارة حيث رسم عليها النجمة السداسية كزينة وقد اعتنى أصحاب المنازل بزخرفة الأبواب والعتبات الخشبية بالزخارف الكتابية كتاريخ البناء والأدعية والأشعار.أما نوافذ المنازل فهي تزداد اتساعاً كلما ارتفع البناء ويغطي ما حولها طبقة من القضاض المزخرف بزخارف هندسية ويعلو فتحات النوافذ فتحة نصف دائرية تسد بألواح من المرمر الرقيقة بقمريات من الجص مزخرفة ومعشقة بالزجاج الملون وتغطى فراغات النوافذ من الواجهات الخارجية بمشربيات (شبابيك) مصنوعة من خشب الخمط كنوع من الزخرفة وهي منمقة وذات إشكال هندسية مختلفة ويوجد فيها فتحات تمكن النساء من رؤية ما يدور في الخارج دون أن يراهن من في الشارع وإضافة إلى ذلك فإنها تستخدم لوضع الأواني الفخارية فيها لتبريد الماء وايضاً لوضع الأواني المزروع بداخلها نباتات زهرية وعطرية صغيرة.[c1]مآثر نالت الإعجاب[/c]تضم مدينة إب دوراً فخمة (قصوراً) تصل إلى أكثر من (38) داراً تتميز بجمال عمارتها واتساع مساحتها وارتفاعها وجميعها تحمل مسميات قديمة أو جديدة ذات دلالة ومن أشهر تلك القصور دار الملك (دار الصنعاني) الذي كان مقراً للحاكم العثماني ودار العز ناج الذي يرجع بناؤه إلى (1312هـ- 1894م) ودار الحمام الذي ينسب بناؤه إلى المهدي بن العباس منتصف القرن الثاني عشر الهجري وكذلك كلاً من دور البيضاء والخان وعقيل (المتوكل) والشجاع والديديدان والواسطة والقلم وغيرها من الدور الموزعة في مختلف حارات المدينة وتحتوي المدينة ايضاً على عدد من السماسر التي كانت تستخدم خانات للمبيت (فنادق قديمة) وأيضاً للتسوق ومنها الخان الأسفل بجوار مدرسة الصبان وهو يتكون من ثلاثة طوابق يتوسطه منور تحيط به غرف السكن وكذلك خان فارس الذي حول اخيراً إلى مدرسة والخان الأعلى الواقع إلى الشمال من السوق القديمة وسمسرة الصنعاني التي تقع خارج سور المدينة الغربي ويعود تاريخ بنائها إلى حوالي (1252هـ/ 1863م) وعدد من السماسر الأخرى التي أشار الرحالة عبدالعزيز الثعالبي حين زار إب في (1924م) إليها بقوله (أن إب تمتاز عن غيرها من البقاع والأعمال اليمنية بوجود أبنية عمودية يلتجئ إليها المسافرون والقوافل) كما أعجب بها من قبله الرحالة كارستوت بينيور عام 1763م وقدم لها وصفاً مع المدينة.ويوجد في مدينة إب حمام بخاري يقع شمال باب النصر وكانت هناك عدد من الحمامات البخارية في أسطح الدور وكان يستخدمها الساكنون فيها فقط وفي مدينة إب يوجد عدد من الأسواق الشعبية كما كان يوجد فيها أسواق متخصصة وعديدة منها سوق سكة النخلة للخياطين والجنابي وسوق المقاوتة واللحام والطعام وسوق القماش وسوق اللحمة (سكة الحلقة) وسوق الملح بالميدان الأعلى وسوق المزاينة (الحلاقين) جوار المدرسة الشمسية وسوق المعطارة والحطب والمدر واللبن بالميدان الأسفل.[c1]مزارات دينية عتيقة[/c]تحتضن مدينة إب القديمة عدداً من المزارات الدينية المتمثلة بالمساجد والمدارس التاريخية العتيقة التي يبلغ عددها أكثر من (30) مسجداً ومدرسة أشهرها الجامع الكبير الذي يعتبر من أقدم مساجد إب واحدى المآثر التي تحمل الطابع الهندسي المعروف في العصر الإسلامي المبكر ويعرف هذا الجامع باسم الجامع العمري نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب الذي أمر ببنائه في القرن الأول الهجري كما تشير إلى ذلك المصادر والأخبار، وقد كشفت الترميمات الجارية حالياً في الجامع عن تعرضه لعدة تجديدات وإضافات وتحسينات خلال الفترة الممتدة من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) وحتى (1335هـ/1916م) كما كشفت عن بعض العناصر المعمارية الجمالية الزخرفيه الجدارية البارزة من الجص والزخارف الجصية بالألوان النباتية ويعتبر هذا الجامع مقصداً سياحياً يؤمه السياح من مختلف البلدان إضافة إلى عدد من المساجد والمدارس العتيقة والقديمة التي تتميز بعناصر معمارية وزخرفيه غاية في الروعة والجمال ويتسم طابعها المعماري بطابع العمارة في المساجد الإسلامية بالعصور الأولى كما تمتاز بسقوفها الخشبية المسطحة والمقسمة إلى مربعات والى عدة مستويات (مضرقات) فيها زخارف محفورة وبارزة ويوجد في المساجد قبة أو عدة قباب وتجمع بعض المساجد السقف والقبة معاً وتتميز بمآذنها الجميلة كما تتشابه المدارس في المدينة مع المدارس الإسلامية كمدارس بني رسول ولا يوجد في المدارس مآذن عدا مدرسة الجلالية العليا التي تعد مآذنها من أجمل مآذن اليمن ومن أشهر تلك المساجد والمدارس: البيحاني والسنة والسنف والحمض وقشمر وعقيل ومدارس بني شقر والاسدية والشمية والنظارية والجلالية الفلى.[c1]شبكة الأنفاق والسواقي المعلقة[/c]كان لمدينة إب نظام مائي متميز يعتمد على توصيل المياه من سفح جبل بعدان ومرتفعات المشنة عبر ساقية قنوات بنيت على شكل عقود متواصلة (قناطر) تتخللها فتحات معقودة تصب في كرة وتوزع المياه الى المدينة بواسطة شبكة من السواقي المعقودة والجدارية مبنية على واجهات المنازل ما تزال أطلالها موجودة وتصب المياه إلى المساجد والمنازل والساقيات المخصصة للسبيل وهي من الأعمال الجبارة الماثلة التي لفتت أنظار واهتمام عدد من الرحالة الذين زاروا المدينة كنيبور سنة 1763م واحمد وصفي سنة 1936 والثعالبي وتمتلك مدينة إب أيضاً شبكة من الأنفاق الأرضية بنيت بالحجارة وتحمل عقوداً نصف دائرية في سقوفها كانت تستخدم ممرات للتنقل في المدينة إلى حاراتها للتموين والإمداد في حالة الأخطار وتستخدم قنوات لتصريف المياه وتضم المدينة عدداً من المدافن القديمة التي كانت تخزن فيها الحبوب وغير ذلك وقد نسب بناء الساقية الى الأمير شجاع الدين النظاري واخيه شمس الدين في القرن العاشر للهجرة.[c1]كنوز أثرية[/c]عندما يقصد الزائر مدينة إب القديمة لا تقتصر مشاهداته على المعالم الموجودة فيها بل يشاهد ما تمتلكه محافظ إب بشكل عام من كنوز أثرية حيث يوجد في الطرف الغربي للمدينة متحف إب الذي يضم عدداً من القطع الأثرية من مختلف المديريات أهمها مجموعة جبل العود المكتشفة في 1998م والتي تعرض أجمل وأندر القطع الأثرية باليمن كما يشاهد قطعاً أثرية تمثل فترات زمنية تمتد من عصر ما قبل التاريخي وحتى العصر الإسلامي ويتمتع ايضاً برؤية المناظر الطبيعية الساحرة الخلابة من على قمة جبل ربي أو منطقة مشورة أو جبل بعدان وغير ذلك من المواقع.