صالح علي البيضانينحن هنا لسنا بصدد الحديث عن الادب الشعبي الذي افرد له رائي اليمن عبدالله البردوني سفرا سرد فيه فنونه في اليمن ، ومكانته المتميزة التي وصلت الى قلوب وعقول العامة من خلال الحكايات الشعبية والحكم وسائر فنون الادب الشعبي كالزوامل والمهاجل والاغاني الشعبية والامثال . والتي اضحت فنوناً مستقله لها مكانتها التي تفوق سائر الفنون الادبية الحديثة من حيث الانتشار والتداول فمن لا يعرف حكم واشعار بن زايد والحميد بن منصور .حيث يشير البردوني الى ان الاهمية والمكانة التي وصلت اليها فنون الادب الشعبي قد جعلتها تنتقل من مرحلة كانت فيها غير مدونة لتصبح اليوم محطا هاماً للتدوين وحتى التدريس في الجامعات بعد ما اسماه البردوني ( الصراع العنيف بين الاكاديميين الشعبيين وبين الرسميين الاكاديميين ) وهو الامر الذي ادى في نهاية المطاف الى تدريس الفنون الشعبية في الجامعات في الستينيات من القرن الفائت .ويشير البردوني في كتابه القيم ( فنون الادب الشعبي في اليمن ) والذي يعد اهم المراجع واقيمها في موضوعه ، يشير رائي اليمن الى القصور في تدوين ( فنون الشعب ) التي ما زال اغلبها بدون تدوين ، مستثنياً جهود الاستاذ / علي محمد عبده التي ظهرت في آخر السبعينات من خلال كتابه ( حكايات واساطير يمنية ) والكتاب كما يصفه البردوني يحتوى على (اثنتي عشرة حكاية من الحكايات المسموعة ) ويستعرض البردوني في هذا السياق نماذج من الحكايات الشعبية مع تقديم رؤيته النقدية النافذة فيها والتي قسمها الى عدة محاور تحدث فيها عن الارض والمرأة والجن والعشق اضافة الى النموذج الانساني في الحكايات الشعبية . السرد مقتربا من الحكاية الشعبية اذا كان الموروث الشعبي عند رائي اليمن ليس موضوع هذا البحث الا انه خير فاتحة لموضوع بحثنا الذي يقترب ويبتعد في ذات الوقت من ( الادب الشعبي ) فهو وان كان يستمد مادته وروحه من الادب الشعبي الا انه يحاول تسليط الضوء على احد الفنون الادبية الحديثة التي نسج البعض الوانها من خامة التراث الشعبي بكل عناصرة الفنية الدافئة التي يحن اليها الكثير من حملة الاقلام ويستحضرونها عند الكتابة الادبية في مختلف صنوف الادب الذي سنقف اليوم عند شكله السردي المتمثل في القصة القصيرة ، والتي تأثرت الى حد كبير بالمورورث الشعبي وعناصرة المختلفة مع تباين واضح من جيل قصصي الى آخر ومن قاص الى آخر في ذات الجيل .عمالقة السرد اليمني والتراث انطلاقاً من السيرة الذاتية لايمكن بأي حال من الاحوال - كما ارى - تقسيم كتاب القصة واهتماماتهم بالموروث الشعبي وجعلهم اياه عنصراً من عناصر البناء القصصي - تقسيما زمنياً فقد تداخلت المراحل الزمنية لكل قاص على حدة فنجد البعض من كتاب القصة قد استخدم عناصر الموروث الشعبي في مرحلة من مراحل تجربته الابداعية اما في بداية تجربته او بعد ذلك وهو الاغلب ، فكلما ذهب اندهاش الشاب المبدع بالتجارب العربية والعالمية التي كانت بداية علاقته بالابداع تأثراً ، زاد ارتباطه ببيئته الخاصة والتي يعد موروثها الشعبي ابرز سماتها ، فالاديب العالمي نجيب محفوظ الذي حصل على جائزة نوبل للاداب كان من اشد الكتاب ارتباطاً بموروث بلده فكتب عن حواري مصر وعاداتها وله مقولة شهيرة مفادها ان ( المحلية هي الطريق الى العالمية ) وليس العكس كما يظن بعض الكتاب الشباب الذين يعتقدون انهم بمجاراتهما للاداب العالمية من حيث الاقتداء بها شكلا ومضمونا يكونون قد سلكوا دربهم نحو الشهرة والعالمية والانفتاح على الاخر الذي لايشده نحو اداب الاخرين الا الرغبة في التعرف على ذلك الاخر الذي مازال مجهولاً بالنسبة اليه .وكما قلنا فقد تداخلت المراحل في التجربة الابداعية الواحدة ، لدى اولئك الذين لمسنا وجود ملامح من الموروث الشعبي في ابداعاتهم السردية .. وهو الامر الذي يمكن تقصيه عند الرواد من كتاب القصة والذين مرت تجاربهم الابداعية الطويلة بمراحل يمكن تلمسها مثل عبدالله سالم باوزير ومحمد احمد عبدالولي وزيد مطيع دماج والذين سنحاول الحديث عن اثر الموروث الشعبي في ابداعاتهم وتأثر ذلك وارتباطه بسيرهم الذاتية من حيث النشأة ومدى الاحتكاك بالبيئة التي احاطت بهم وشكلت الملامح الاولى لوعيهم ونفسياتهم التي انعكست بدورها على ابداعاتهم .واذا حاولنا المرور سريعاً على اثر الموروث الشعبي في ابسط حالاته في ابداعات العمالقة الثلاثة نجد ان هنالك تباينا واضحا يمكن ملاحظته ، وهو امتداد لذات التباين عايشوه في حياتهم فعند شيخ القصاصين / عبدالله سالم باوزير ( 8391 - 4002م ) تدرجت اهتمامات القاص بالموروث الشعبي الذي ظهر على شكل مفردات او حكايات او امثال وغير ذلك ، تدرجت بشكل تصاعدي ففي الحين الذي كانت فيه اعمال باوزير المبكرة واقعة تحت سطوة الاداب العالمية التي انكب على قراءتها خفت الواقع المحلي والبيئة الشعبية في اعماله كما نجد ذلك في ( الرمال الذهبية ) على سبيل المثال لتتصاعد بعد ذلك حتى وصلت ذروتها مع اكتمال نضج الحياة ونضج التجربة عند القاص الكبير والذي التحم بواقعة بشكل كبير ومباشر ابتعد فيه كثيراً عن الترميز الذي ظهر في بداياته الابداعية وهذه السطور لاتختزل بأي حال ان ثمة رحلة تحكي لاحد عمالقة الادب اليمني ، رحلة حافلة بالابداع والعطاء الادبي والانساني ، بدأت من مدينة غيل باوزير بمحافظة حضرموت حيث تشكلت الملامح الاولى لحياة عبدالله سالم باوزير ، الذي التحق بالمعهد الديني بالمدينة قبل ان يقرر فتح نافذة اخرى في وعيه نحو العالم ليشد رحاله الى مدينة عدن التي كانت مركزاً للتنوير وبوابة كبيرة الى العالم .. ففي هذه المدينة بدأت رحلة عبدالله سالم باوزير للتعرف على الحياة الحقيقية التي خاض غمارها باكراً مناضلاً في دروب الحياة وباحثاً عن الحقيقة بين رفوف المكتبات العامة بعدن ، وقد كانت الصدمة الهائلة التي لقيها جراء التعرف على الحياة المدنية ، كفيلة بجعله يتطلع للمزيد ، فخلال فترة قصيرة استطاع ان يعقد الصداقات الحميمة مع ابرز رواد القصة والرواية في العالم من خلال الاطلاع على كنوز الاداب العالمية في مكتبات عدن الزاخرة ، وهو الامر الذي جعل الملكات الادبية المخبوءة فيه تطفو الى السطح وتصقل لتظهر ابداعاً مكتوباً يحمل في طياته الخصوصية اليمنية والموروث اليمني الذي بدأ خافتاً كما قلنا ولكنه تصاعد مع تصاعد نضجه الابداعي ، وقد كانت اول قصة تم نشرها له بصحيفة ( الطليعة ) بالمكلا في ديسمبر من العام 1691م وهو لايزال في الثالثة والعشرين من العمر ، وتواصلت ريادة باوزير الادبية بعد ذلك ليكون صاحب ثالث مجموعة قصصية يمنية صدرت طبعتها الاولى في العام 5691م ( الرمال الذهبية ) والتي اتت بعد مجموعتي صالح الدحان واحمد محفوظ عمر كتاب ( اصدر صالح الدحان مجموعة - انت شيوعي ) عدن دار البعث 6591م واصدر احمد محفوظ عمر مجموعته الاولى : (الانذار الممزق ) ، عدن مطبعة الجماهير 0691م . وعلى الرغم من تأثر باوزير بالقراءات الاولى وانتقاله الى المجتمع (العدني ) الذي كان أكثر انفتاحا على العالم وثقافاته واكثر ( مدنية ) من مدينته الام ( غيل باوزير ) الا ن ذلك لم يمنع من وجود بعض النصوص التي بدأ تأثرها بالموروث الشعبي من خلال معالجة بعض تلك الموروثات السلبية وبما ان القاص الراحل قد كتب قصصه الاولى في مطلع الستينيات من القرن الفائت فقد كان يشاهد تفشي العديد من الموروثات الاجتماعية السيئة التي ساهم الجهل في تفاقمها ففي قصة ( المبروك ) يتحدث عن الدجل الذي يمارس ضد الناس البسطاء ، وايمان الناس به ، فقد استطاع ذلك الشخص الذي اطلق عليه البسطاء اسم ( المبروك ) ان يخدعهم ببركته الزائفة التي تناقل الناس احاديثها واعاجيبها عن قدرته الخارقة على الشفاء ومعالجة الامراض وطرد العفاريت . حتى ترك البسطاء من اهل القرية منازلهم ذات يوم بحجة ان العفاريت قد سيطرت عليها كما قال لهم ( المبروك ) المزعوم ، الذي طلب مبلغاً مالياً من كل واحد منهم لرشوة العفاريت لمغادرة القرية ، غير ان اهل القرية العاجزين عن دفع هذا المبلغ هم الذين يضطرون لمغادرة منازلهم في نهاية المطاف .. ليأتي الخلاص على يد ( سعيد ) الذي اتي من الخارج ليتحدى اساطير المبروك ويفضحها في نهاية المطاف .وعلى ذات المنوال يتطرق باوزير في قصة ( شجرة الشيطان ) لزراعة ( التنمباك ) . اما عند القاص الكبير / محمد احمد عبدالولي ( 0491 - 3791م ) فإن الوضع قد يختلف فالخط الذي اتبعه عبدالولي في التعامل مع الموروث الشعبي ( كمصطلع وحكاية ومثل ) وهو الجانب الذي نبحث عن ملامحه في هذه الوريقات ، نقول ان هذا الخط سار موازيا لتجربة عبدالولي الابداعية اي انه لم يطرأ عليه الكثير من التحول صعوداً او هبوطاً وربما يعود ذلك للتأثير الكبير الذي خلفته الثقافة الافريقية في عقل وابداع عبدالولي فنجد انجذابه الخافت للثقافة الشعبية والموروث الشعبي عائد في الاساس للحنين الذي طالما كتب عنه في روح المهاجرين خارج الوطن ، فحنين عبدالولي في قصصه للموروث الشعبي هو امتداد لحالة الحنين لدى المهاجر اليمني لكل شيء في وطنه . وقد حاول عبدالولي نقل البعض من حالات ذلك الحنين ورصعها بالبعض من مفردات الموروث الشعبي وان بدأ ساخراً عند بعضها ، غير مقتنع بالاخر ، وكأنه يحاول ان يذكر بما قد يراه حالة الاغتراب والنكران التي عاشها هو شخصاً كنموذج للكثير من الحالات التي ذهبت ولم تعد وان عادت ( صدرت مجموعته الاولى - الارض ياسلمى ) سنة 6691م بيروت دار الادب والثانية ( شيء اسمه الحنين ) القاهرة مطبعة دار الهنا نشر دار الحديثة للطباعة والنشر بتعز نهاية 27) . ولو رجعنا لسيرة عبدالولي ربما وجدنا المبرر لتراجع دور الموروث الشعبي في اعماله نظراً لابتعاده الطويل والمرير احيانا عن الوطن فقد ولد سنة 0491م من أب يمني وام حبشية نشأ في اديس ابابا ودرس في مدرسة الجالية اليمنية بأديس ابابا ، ثم عاد الى اليمن سنة 4591م وتزوج في العام نفسه سافر سنة 5591م للدراسة ، ودرس في الازهر الشريف وفي مدرسة المعادي الثانوية طرد من مصر سنة 9591م بتهمة الشيوعية سافر الى موسكو ودرس في معهد جوركي للآداب عاد الى اليمن بعد قيام ثورة 62 سبتمبر 2691م اشتغل في عدة مناصب في مكتب رئيس الجمهورية ثم قائم بأعمال سفارات الجمهورية اليمنية في موسكو وبرلين ومقديشو واخيراً مديراً عاماً لشركة الطيران اليمنية استقال من الوظائف الحكومية وافتتح دارا للنشر بتعز - سجن سنة 8691م لمدة عام ثم 2791م لمدة ثمانية اشهر مات محترقاً في حادثة الطائرة التي سقطت في 03/4/3791م . اما عند الوقوف عند تجربة المبدع الكبير / زيد مطيع دماج ( 3491 - 0002م ) فإننا ان جاز القول نجد انفسنا في منزلة بين منزلتي باوزير وعبدالولي ، فإذا كان دماج قد بدأ الاكثر التصاقا بالموروث الشعبي ، فإنه في ذات الوقت قد سار على ذات الخط تقريباً من حيث تأثره بالموروث الشعبي الذي نجده في ( طاهش الحوبان ) و (الراهينة ) كما نجده في سائر اعماله الابداعية ، وان جاز لي التفسير كما فسرت من قبل فإن التأثير الكبير لعناصر الموروث الشعبي في اعمال دماج ربما يعود لعاملين هامين في حياته الشخصية والابداعية ، فمن الناحية الشخصية فقد كانت البيئة التي احاطت بزيد مطيع دماج اكثر خصوبة من حيث تأثرها بالتراث الشعبي ، فهي لم تتأثر كثيراً بعوامل المدنية كما هو في حالة باوزير الذي سافرا مبكراً الى ( عدن ) مبتعداً عن ( غيل باوزير ) البيئة الخصبة بالتراث الذي عاد باوزير ليجتر منه بعد ذلك .اما في حالة عبدالولي فقد اشرنا للتأثر الكبير الذي قاد مسيرته الابداعية جراء الهجرة الافريقية وما رافقها من عوامل نفسية وثقافية اثرت في شخصيته ومن ثم في ابداعه .وفي اطلالة سريعة على السيرة الذاتية لدماج نجد انه تلقى تعليمه الاولى في المعلامة ( الكتاب ) مع اقرانه في القرية فحفظ القرآن الكريم وبعد ذلك تولى والده عملية تعليمه وتثقيفه من مكتبته الخاصة فقرأ كتب الادب والتاريخ والسياسة وكان من اهمها ( روايات الاسلام ) لجرجى زيدان ، ليلتحق بعد ذلك بالمدرسة الاحمدية في تعز ويحصل فيها على الشهادة الابتدائية سنة 7591م . وقد اسهمت تلك المرحلة في تشبع دماج بالتراث الشعبي فكتب اهم اعماله ( الرهينة ) من واقع تأثره بظلال قلعة ( القاهرة ) في مدينة تعز الحالمة .اما العامل الثاني وهو الابداعي الذي وثق من علاقة دماج ببيئته الشعبية وانعكاس ذلك على اعماله المختلفة فهو ان دماج ربما يكون قد بدأ الكتابة الابداعية بالشكل المعروف في فترة متقدمة من عمره على عكس باوزير وعبدالولي اللذان بدأ كل منهما الكتابة في فترة ربما تكون مبكرة بالنسبة لدماج .. ( نشر باوزير اول نصوصه وهو في الثالثة والعشرين من العمر وبدأ عبدالولي كتابة القصة وهو مايزال في المرحلة الاعدادية بينما نشر دماج اول اعماله وهو في العقد الثالث ) وربما ذلك مايفسر حالة النضج والتقارب من حيث الشكل والمضمون والمستوى الابداعي في معظم اعمال زيد مطيع دماج وهو ماقد نسميه الانصهار الابداعي الذي صهر التجربة الابداعية في قالب واحد نتيجة العوامل المحيطة بهذا القالب الذي لم يتأثر كثيراً بتقلبات العمر ومراحلة ، وتغيرات التجارب والخبرات التي تمر بمراحل مختلفة عن سابقاتها وعن التي تليها . ويقول الدكتور عبدالعزيز المقالح في هذا الشأن : ( لم يكن زيد يكتب الا بعد اختزان واستبطان تتمكن التجربة خلالهما من امتلاك تكوينها وحينما تصل ذروتها يعكف عليها ليضعها على الورق ) . ويمكن ان نشير في هذا المقام الى الآراء النقدية اثارتها المجموعة القصصية الاولى لدماج ( طاهش الحوبان - 3791م ) والتي قال النقاد ان ابرز السمات الموضوعية في هذه المجموعة تمثلت فيمايلي اولاً : المحلية . ثانياً : الريفية . ثالثاً : الثورية . والمحلية والريفية بطبيعة الحال امتداد للموروث الشعبي الذي تشرب منه دماج طوال حياته . وعند مانتحدث عن رواد السرد ويكون محور حديثنا عن مكانه الموروث الشعبي في ابداعاتهم فإنه يجب كذلك ان لا نغفل بعض الاسماء ان لم نستطع اعطائها حقها مثل باصديق وسعيد عولقي وميفع عبدالرحمن ومحمد مثنى واحمد محفوظ عمر وصالح باعامر وعبدالرحمن عبدالخالق وغيرهم .
|
ثقافة
ملامح الموروث الشعبيفي القصة اليمنية 1 - 2
أخبار متعلقة