الذكرى 68 لميلاده
استهل أحمد قاسم حياته العملية كمدرس للموسيقى في مدارس الحكومة التابعة لإدارة معارف المستعمرة عدن، في مطلع الستينات من القرن العشرين.. دون أن ينفي ذلك إرهاصاته الأولى في عالم الغناء كمطرب ناشئ نافس بفنه كبار مطربي عصره،.. فكان ينتقل بين مدارس عدن بسيارته الرينو المكشوفة، حاملاً للنشء أساسيات الموسيقى، آملاً نشر الوعي وتحفيز الحس الموسيقي وإرساء النواة الأولى من العازفين المؤهلين،.. وقد اثمرت هذه البداية لاحقاً، بإنشاء المعهد الموسيقي..ولعله من الطريف أن نذكر رائعته الصباحية »أنشودة الصباح« التي طالما رددها جيل الستينات :مرحباً بالصباح بالشروق الجميلبالحمام الفصاح في صبور الهديلوك وكوفي رياض الهناء في الصباح الجميلمرحباً مرحباً مرحباً بالصباحكذلك أنشودته :طلق الهواء، رحب الفضاء،لنا حياة في الصباح والمساء.نقضي بها أيامنا، نرسي بها دعامنا، عالية حتى السماء.حيث كان فناننا الكبير أحمد قاسم يختار من كل مدرسة مجموعة من التلاميذ، من أصحاب الأصوات الجميلة، يتقدمهم قائد منهم لأداء تلك الأناشيد في حفلات المدارس. وافتتاحيات ملاعب الأطفال، وأداء أنشودة مرحباً بالصباح، في الطابور الصباحي، في كل مدرسة. فكان ذلك تقليداً جميلاً، ما زال في ذاكرة جيل الستينات حتى اليوم.لقد فرض أحمد قاسم نفسه مجدداً على الذوق العدني السائد آنذاك، وكان يتحمل الانتكاسات ومرارتها بصبر وجلد لا مثيل لهما، كما كان لجراءته غير المعهودة، فضل كبير في إظهار موهبته والتعريف بعبقريته الموسيقية.وقد استطاع بكل الجرأة أن يفرض نفسه على ساحة الغناء المصرية، وسمح له فنانو مصر العربية، بالإشتراك معهم في حفلات أقاموها، خلال شهر واحد فقط من تواجده لديهم. كما قال الأستاذ محمد مرشد ناجي في كتابه أغانينا الشعبية، في حين عجز غيره عن تحقيق ذلك، ممن قضوا في مصر سنوات طويلة.ولجرأة أحمد قاسم علاقة بفرقته الأولى، التي ارتبط ظهوره بها حين أسسها وأطلق عليها (فرقة أحمد قاسم التجديدية) إن ما يلفت الإنتباه فيما أطلقه ابن قاسم من اسم على فرقته أشياء كثيرة فلعله أول فنان في عدن يطلق اسمه على فرقة موسيقية، في فترة عاصرت قيام الندوات الضخمة كندوة الموسيقى العدنية وغيرها من المؤسسات الغنائية.أما صفة التجديدية، فهي تدلل دون شك إلى تطلع هذا الفنان الناشئ إلى الغد البعيد، ممتلئاً بالآمال والطموحات لرفع شأن الموسيقى في بلادنا، تلك الآمال التي نذر حياته لها. ولم يجعل فنه موسيقاه وسيلة للثراء، وما أسهل ذلك عليه إن أراده.كيف لا؟ وهو نسر اليمن وصقر سمائها الغنائيةالمحلق، إذا كانت الطيور الصغيرة والعصافير، قد وصلت إلى ذلك الثراء بأجنحتها الضعيفة وخربشاتها الصغيرة.لقد اكتسب أحمد قاسم من خلال وجوده ضارباً (الدربوجة) برفقة الفنان يحيى مكي الكثير من القدرات. واختزنت أذناه كما اختزنت مهجته ولوامحه كثيراً من الأنغام والمعزوفات الجميلة، التي شكلت فيما بعد حقيقة الوجد القاسمي إن صح التعبير، خاصة وأن يحيى مكي لم يكن موسيقياً عادياً، وإلا ما احتاج المرشدي في كتابة أغانينا الشعبية أن يطلق عليه صفة »رائد الروح الموسيقية في بلادنا« وحين تطرق المرشدي إلى يحيى مكي كان يريد أن يقول إن مكي لم يكن مهتماً بتطوير الغناء المحلي والأغنية المحلية على وجه الخصوص، في إشارة فأطفق إلى دور تلامذته الذين خالفوا أستاذهم النظر إلى ضرورة تجديد ذلك الغناء، وفي تقديرنا أن تلاميذ مكي وفي الطليعة منهم أحمد قاسم كانوا أول من حمل راية التجديد.ولذلك يصفه المرشدي في نفس الكتاب بأنه كان »فناناً من الطراز الحديث، أبى أن يكون له المسرح اللائق به وبفرقته« على الرغم من أن المعجبين بألحانه كانوا قليلاً والوصف هنا لأحمد قاسم.وفي ذلك تأكيد قاطع أن ابن قاسم كان في مجال الغناء والموسيقى وخاصة في عدن إن لم فقل اليمن، يقف في طليعة هؤلاء المجددين بل وفي الصدارة منهم.ولكن قل المعجبون بفنه وموسيقاه بادئ الأمر، فقد كان الرجل دارساً للموسيقى وعلى ولان شامة بقواعدها وأصولها، كما هو على فهم تام بما يقدم لجمهوره ومعجبيه، لذلك لم يتبرم في البداية من (إعراض الجمهور عنه) لأنه كان يدرك - عكس غيره ممن لم يبلغوا في علم الموسيقى مبلغه - إن ذلك شيئاً طبيعياً، وقد قابلته كثير من الشعوب بالإعراض والنفور في مختلف مراحل التاريخ ولكن الجديد يثبت أقدامه بقوة وثقة في نهاية المطاف، ومن هنا كان أحمد قاسم شأنه شأن كل المبدعين، الذين احسوا بدافع عبقريتهم إلى ضرورة تجديد موسيقى شعوبهم، والزمن كفيل بفرض تجديدهم البديع في واقع الحياة، من خلال تآلف ذلك الواقع شيئاً فشيئاً مع تلك الجده التي يفرضها أولئك المبدعون.ومن هنا فرض أحمد قاسم نفسه كمجدد للأغنية على الذوق العدني.على أن هذه العبقرية لم يكن من الممكن أن نسمح لأنفسنا بإطلاقها عليه بمعزل عن دراسات الرجل، وأخذه علم الموسيقى من أصوله، ولأن الرجل كان ملماً بمجاله ومنغمساً فيه، لذلك لم يجعل من أسلوب في تجديد الأغنية العدنية عديم الصلة بجذور التراث، فكان السامع تبعاً لذلك يلمس في تجديده معاني الأصالة الضاربة باعماقها بعيداً في وجدان هذا الشعب وتاريخه وحضارته. وللتدليل على ذلك أغانيه.. عدن عدن ياريت عدن مسير يوم.. من العدين يالله بريح جلاب.. يا مركب البندر.فقد كان الرجل منتمياً إلى شعبه وإلى أرضه،ولا غبار عليه إن تأثر بموسيقى مصر وغيرها ولكن كان صاحب مدرسة فريدة من نوعها، تنبع من اليمن وتصب فيه، وإذا كان الغرب قد أخذوا السلم الموسيقى العربي الذي كان سائداً في القرون الوسطى، وأقاموا سلمهم المعدل على أساسه، فلماذا لم يوجه إليهم الاتهام بذلك؟! ولماذا لم تكن موسيقاهم عربية؟ إن احتكاك الحضارات بعضها في بعض قد أدى إلى تداخل كثير من العلوم والمعارف، وبخاصة في مجال الموسيقى، بحيث لا يستطيع المرء أن يجد موسيقى نقية خالصة لأي شعب من الشعوب، وهذا القول لا ينفي أن تداخل المؤشرات لم يكن بقادر على طمس أية هوية موسيقية لأي شعب من الشعوب أيضاً. وتبعاً لهذا فإننا نرفض بحزم أن تكون مزايا هذا الموسيقار الراحل، وفوائده العظيمة في مجال الموسيقى مثالباً عليه، لدى بعض المتعصبين لمفاهيم (المحلية) بشكل متقوقع. ذلك التعصب الناشئ في حقيقة الأمر عن عجزهم عن التحليق فيما وراء هذا الأفق لأمر ما يتعلق بحقيقتهم لا غير.كون أحمد قاسم كان في حقيقة الأمر هرماً لا يعلو عليه هرم في مجال تجديد الموسيقى اليمنية والتراث اليمني وبخاصة العدني منه، فهو لم يكتف بتعدد إيقاعات ألحانه المتنوعة بألوان الإيقاعات اليمنية الأصيلة كاللحجي والحضرمي واليافعي، بل لقد كان لبعض ألحانه تناغم جميل مع الإيقاع المصري، كما رفض السكون والثبات اعتماداً منه على مقامات معينة كما هو الحال لدى البعض، لذلك تجده يثب من أغنية إلى أخرى، قافزاً من مقام إلى آخر، أشبه ما يكون باليعسوب في روضة المقامات، بل لقد اشرك أكثر من مقام في بعض أغانيه وهو ما يعرف في علم الموسيقى بالتحويل، حيث يخرج الفنان من مقام الأغنية الأصلي إلى مقام آخر فرعي، ثم لا يلبث أن يعود إلى المقام الأصلي، الي بدأت به الأغنية وكما كان لطفي مجدداً في الكلمة الغنائية. فقد كان ابن قاسم رائد تجديد موسيقى تلك الكلمة، ولذلك يبدو من الصعب الفصل بينهما، فقد وجد كل منهماضآلته في الآخر، ولم يكن بغريب علينا أن يكون لأحمد قاسم النصيب الأوفر من كلمات لطفي. ومنها على سبيل المثال : في جنونك، يا عيباه، أنت ولا أحد سواك، مش عيب عليك هكذا، في الليل اغني لك، قلبه سأل قلبي، صدفة التقينا، المزهر الحزين.كما غنى أحمد قاسم لأمته ووطنه أجمل وأعذب الأناشيد ومنها على سبيل المثال :»صرخة المجد التليد« أنشودة بمناسبة انتصارات مصرفي العدوان الثلاثي، وصيحة استقلال شطرنا الجنوبي قدم أحمد قاسم رائعته الأنشودة على أرضنا بعد طول الكفاح تجلى الصباح لأول مرة. وهما من كلمات لطفي أمان.كما لا ننسى نشيده الثوري الفذ لعبدالله هادي سبيت.بلادي ولئن سال فيك الدم ففي ذلك الشرف الأعظمكما غنى سبتمبر بقيام الثورة الأم في شطرنا الشمالي.يا شعب اليمن الأكبر يا مالك جمهورية.كلمات »حمود نعمان« وأجدني أقول أن من رحمة القدر بنا وبأحمد قاسم أنه كان دارساً للموسيقى متفوقاً في مجالها، ولو أن صفتي الجرأة والعناد اللتين عرفتا عنه كانتا بمعزل عن أساس أحمد قاسم العلمي فلا يكون بمقدور خيالنا أن يتصور أي سلك موسيقي يأخذنا إليه هذا العبقري العظيم!!