قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
محمد زكريا « لا بد من صنعاء وإنّ طال السفر » هذه المقولة أو العبارة يظن الكثير من الناس وإنّ لم يكن الغالبية منهم أنها تعود إلى الإمام الشافعي المتوفى سنة ( 204 هـ / 820 م ) . حقيقة أنّ الإمام الشافعي تولى القضاء في صنعاء في فترة من فترات عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد المتوفى ( 193هـ / 809 م ) ولكنه في الواقع لم يقل تلك العبارة من قريب أو بعيد. والجدير بالذكر أنّ هذه المقولة أو العبارة تعود إلى العصر الجاهلي أي ما قبل الإسلام . فقد قالتها العرب حيث كانت قوافل قريش ترحل من مكة إلى صنعاء في الشتاء , وفي الصيف تيمم وجهها صوب الشـــــام . وتلك الرحلة ذكرها القرآن الكريم وهي رحلة الشتاء والصيف في سورة قريش آية ( 2 ) . ونستدل من ذلك أنّ صنعاء مدينة موغلة في القدم , مدينة مشهورة ومعروفة لدى العرب في جزيرة العرب منذ زمن بعيد , وكان اسمها في الجاهلية ( أزال ) . وقيل أنّ التاريخ لم يشهد مولدها . ويقال إنّ سام بن نوح هو الذي أسّسهـــــــا . [c1]فريدة في مظهرها [/c]وبنظرة عالم متخصص في علم الآثار يصف الدكتور أحمد فخري مدينة صنعاء القديمة وصفاّ علميًا عميقا ًً حيث زارها لأول مرة سنة 1947م بأنها مدينة تتميز عن كافة مدن الشرق الأخرى ، فهي مازالت محافظة على أصالتها ، ورونقها ، وجمالها الذي يأخذ العين أخذاً ، مدينة تخلب الألباب لا يستطيع المرء الإنفكاك من شباكها السحرية غير المرئية . وعندما يتجول المرء في أزقتها ، وطرقاتها ، يحس إحساساً غربياً أنه أنفصل عن عالمه وأنه يعود إلى زمن العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية المتألقة ، فيقول : “ لا توجد في مدن الشرق مدينة تشبه صنعاء لنقارنها بها ، فهي فريدة في موقعها ، وفريدة في طراز بنائها ،و فريدة في أسوارها ، وفريدة في مظهرها الشرقي الخالص الذي يجعل السائر في طرقاتها يحس بأنه انتقل بضع مئات من السنين ، فتصور نفسه في بغداد أو في غيرها من مدن الحضارة الإسلامية “ . ويمضي أحمد فخري في وصف المدينة ، فيقول : “ وتتصل صنعاء من ناحية الشرق بجبل نقم وتعداد سكانها لا يقل عن 60000 ، وطول المدينة كلها من الشرق إلى الغرب لا يقل عن خمسة كيلو مترات أمّا عرضها فلا يزيدعلى كيلو مترين . وسمك السور يختلف باختلاف الأحياء أمّا عرضه فلا يزيد على مترين وتارة لا يقل عن أربعة أمتار . ويوجد في كل 50 مترًا تقريبًا جزء مستدير بارز في السور إلى الخارج ويسمونه النوبة ومجموع عدد هذه الحصون الصغيرة 128 حصنا ً “ . [c1]صنعـــــاء في عيون ألمانية[/c] والحقيقة أن من خلال وصف المهندس كرستن نيبور الألماني لمدينة صنعاء التي زارها في سنة 1763 م يعطيننا صورة أو صورا واضحة عمّا كانت عليها المدينة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أو بعبارة أخرى أنّ حديثه عن المدينة سيكون بمثابة توثيق حي ومهم عن حياتها الاجتماعية المتمثلة بطرازها المعماري المرتبط بحياة الناس ارتباطا ً وثيقا ً وشائجًا في تلك الفترة ، فالمهندس نيبور يصف موقع المدينة ، ويشير إلى أهم مساجدها ، ويروي عن سورها وأبوابها المشهورة التي تزينها , ويتكلم عن منطقة بئر العزب وهي حديثة عن مدينة صنعاء العتيقة وفيها قرية أو منطقة يسكنها اليهود تسمى قاع اليهود . ونقتطف أهم ما جاء في وصف نيبور لصنعاء ، فيقول : “ تقع مدينة صنعاء عند أقدام جبل نقم الذي لا تزال توجد عند سفحه بقايا قصر قديم ، يقول اليمنيون إنه كان قد بناه سام بن نوح ، وفي الجانب الغربي من المدينة يوجد نهر صغير . وعلى ضفافه يقع بستان المتوكل الذي أنشأه الإمام المتوكل ( * ) “ ويسترسل في حديثه ، فيقول : “ وقد بنى فيه ( أي البستان ) الإمام المهدي العباس قصرًا جميلا ً ، وبستان المتوكل محاط بسور ترابي ، يتصل طرفه بسور المدينة وعليه أبراج كثيرة . وفي جانب المدينة المواجه لجبل نقم توجد قلعة ، يؤكد اليمنيون أنها بنيت على تل غمدان ، ولها سور متصل طرفاه أيضا ً بسور المدينة “ . [c1]أبوابــــها العتيــــــقة [/c]ويمضي ( نيبور ) في وصف سور صنعاء العتيق عمّا كان عليه في النصف الثاني من القرن عشر الثامن عشر الميلادي ( 1763 م ) ، فيقول : “ ويحيط بمدينة صنعاء سور يفصلها عن القلعة ، كما يفصلها عن بستان المتوكل . ولمدينة صنعاء أربعة أبواب كبيرة وهي : 1 ــ باب اليمن . 2 ــ باب السبح . 3 ــ باب شعوب . 4 ــ باب إستران Bab East ran . وهذا الأخير ينفذ إلى القلعة ، ولكنه لم يعد يفتح منذ سنوات عديدة . وبالإضافة إلى الأربعة أبواب الكبيرة هناك ثلاثة أبواب صغيرة ، وهي : 1 ـــ باب شرارة . 2 ـــ باب حديد Hadid . 3 ـــ باب فجير Fogair . وينقل الدكتور أحمد قايد الصيادي عن نيبور وصف جوامع مدينة صنعاء ، وعن الحدائق الغناء التي كانت تحف المدينة فيقول “ وتبدو مدينة صنعاء مدينة مأهولة بالسكان بشكل كبير ولكنها مع ذلك ليست مزدحمة المباني ، إذ تتخللها كثير من الحدائق . وقد أحصى نيبور عدد المنارات ( مآذن الجوامع ) فوجدها تسع إلى عشر منارات . ويقع الجامع الكبير في منتصف المدينة وله منارتان ( مئذنتان ) . أمّا المساجد الأخرى ، فقد قيل لنيبور أنّ أسماءها هي : المدرسة ، صلاح الدين ، الطواشي ، البكيرية ، ومسجد آخر داخل القلعة . . . وقد بني بعض هذه المساجد من قبل الأتراك ( أي في عصر الفتح العثماني الأول لليمن سنة 945 هـ / 1538م ) ، وبنى الإمام المهدي عباس مسجدًا فخمًا غنياً بالمياه التي ينتفع بها الإنسان والحيوان . وشيد بجانب المسجد مبنى صغيراً جهز فيه قبرًا له “ . [c1]حياتها الاجتماعية[/c] قلنا سابقا ً : إنّ الرحال كرستن نيبور استطاع بأمانة ودقة عميقين أنّ يصور الحياة الاجتماعية التي عاشها سكان صنعاء وذلك من خلال وصف الطرز المعمارية في صنعاء المرتبطة ارتباطًاًً وثيقاً وشائجا ً بحياة الناس، فهو يتحدث عن الحمامات العديدة التي كانت تملأ المدينة ، وعن القصور والدور المبنية بالحجارة المنحوتة ، وكذا المبنية بالطين المتعلقة بالشرائح السكانية المتوسطة الحال , ويشير نيبور إلى مسألة مهمة تتعلق بارتباط البناء بالمناخ أو بعبارة أخرى انعكاس المناخ على طرز البناء وتشكيله . وفيما يلي نص ما ذكره المهندس الألماني نيبور عن طراز صنعاء المعماري المرتبط بحياة سكان صنعاء الاجتماعي . فيقول : « ويوجد في مدينة صنعاء حوالي اثني عشر حمامًا عامًا . كما تنتصب مجموعة من القصور الفخمة، كقصر بستان السلطان ودار النصر ودار فتح Fatch Dar، وقد بنيت جميعها من قبل الإمام المهدي عباس . إضافة إلى قصر الإمام المنصور وإلى العديد من البيوت الكبيرة التابعة لأفراد أسرة الإمام ، ولأعيان صنعاء . وهذه الدور والقصور مبنية بالحجارة المنحوتة أو بالياجور . وهناك بيوت كثيرة مبنية باللبّن . ولنوافذ البيوت مصاريع ، تظل مفتوحة في الطقس الجيد ، وتغلق عندما يكون الطقس رديئاًً . [c1]القمريـــــات [/c]ويذكر نيبور أهم الملامح التي تميز طرز العمارة الصنعانية اليمنية الأصيلة إن لم يكن على الإطلاق جميعاً ً وهي القمريات ، فيصف القمريات، فيقول : ينفذ الضوء عبر كوة صغيرة مدورة ، تقع فوق النافذة ، وقد سدت بقطعة سميكة من زجاج ماريا ، ينفذ الضوء من خلالها ، وفي بعض بيوت الأعيان وضع زجاج بعضه ملون جلب من البندقية . ومثلما أعجب المهندس الألماني بالقمريات اليمنية ، أعجبتها أيضًا الدكتور الفرنسية كلودي فايان التي زارت صنعاء اليمن سنة 1951م أي بعد قرابة أكثر من قرن ونصف القرن من رحلته إلى صنعاء ، فتصفها ، قائلة : “ والزخرفة الرئيسية في بيوت صنعاء هي النوافذ الواسعة العالية . فلا يمكن لأحد أنّ يتصور المدينة دون أنّ يفهم هذه النوافذ . إنها تتكون من جزءين : الجزء الأسفل وهو النافذة بمعنى الكلمة ولها عدة مصاريع خشبية ، والجزء العلوي وهو عقد من الزجاج الملون الثابت الذي لا يفتح ، ومن أسلوب صناعته ونوعه يعرف الإنسان تاريخ البناء . وقد عرف اليمنيون كيف يصنعون هذه العقود الزجاجية؟ . وكيف يتفادون تراكم الغبار والرمال عليها ؟ . ورسموا عليها زخارف عديدة بالزجاج الملون الذي يعكس أشعة الشمس “ . وتضيف ، قائلة : “ وكما أنّ جمال البيوت الخارجي يكمن في النوافذ ، فإنّ النوافذ أيضًا تتجلى بالأناقة والبهاء في الداخل . . . وتنفذ من العقود الزجاجية أنوار بهيجة مفرحة تعكس على الجدران البيضاء “ .[c1]قلعــــة صنعـــــاء[/c]ويشير نيبور إلى قلعة صنعاء والتي ضمت عددٍاً من القصور الخاصة بأمراء الأسرة الحاكمة ( القاسمية التي حكمت اليمن ابتداء من سنة ( 1635 وحتى 1849 م ) والواقعة على تل غمدان, وتوجد في تلك القلعة دار لسك النقود ، وسجون ، وفي أحد الأدوار العليا في القلعة توجد مدافع . ومن المحتمل أنّ تكون قلعة صنعاء ثكنة عسكرية للإمام ، ومقرا للشئون الإدارية للدولة . فيصفها ، قائلا ً : “ وتقع قلعة صنعاء على تل غمدان الشهير وبداخلها قصران : أحدهما يسمى دار الذهب Dar Eddahhb. ويذكر أحمد الصيادي أنّ نيبور شاهد في قلعة صنعاء “ أطلالا ً لمبان قديمة . . . ويسكن في المدينة في القلعة عددٍ من أفراد أسرة الإمام . كما يوجد فيها دار لسك النقود , وسجون ، ذات حجرات مختلفة الأحجام وفي أعلى موقع القلعة توجد جربة المدافع ، أي حظيرة المدافع ، وفيها عدد من المدافع . كما يوجد عدد آخر من المدافع موزعة على ثلاثة أبواب من أبواب المدينة ، وهي باب اليمن ، وباب السبح ، وباب شعوب “ .[c1]بئــــر العـــزب[/c]وبالقرب من مدينة صنعاء العتيقة تطفو ، مدينة أو قل قرية تسمى بئر العزب وهي من المناطق أو الأحياء الحديثة التي ظهرت بعد صنعاء القديمة بزمن بعيد ، وفيها توجد قرية أو منطقة تسمى ( قاع اليهود ) يسكنها اليهود اليمنيون وفي هذا الصدد ، يقول نيبور : “ وفي غرب مدينة صنعاء توجد قرية أو ضاحية بئر العزب ، وفيها جامع كبير وله منارة ( مئذنة ) . وتقع بيوت بئر العزب متناثرة على مسيل صغير . وبالقرب من بئر العزب توجد قرية كبيرة تسمى قاع اليهود يسكنها اليهود , وإلى الشمال من صنعاء تقع منطقة الروضة . . . وتكثر فيها الحدائق . وعادة ما يشبهها العرب بمنطقة دمشــــق “ . [c1]أســــواق صنــــعاء[/c]ويصف المهندس ( نيبور ) أسواق صنعاء بأنها كانت تموج بالسلع والبضائع من كل لون وصنف ، فيقول : “ وفي سوق صنعاء . . . توجد مطارح كبيرة للقوافل ، وسمسرة Simsera لمبيت التجار ، والمسافرين ، وأماكن تباع فيها الأخشاب والحطب ، والحديد والعنب ، والحبوب والزبدة والملح ، ظهور البائعات من النساء بكثرة في سوق الخبز “ . ويلفت نظر نيبور فئات المهن والصناع أو الحرف المختلفة والمتنوعة في سوق صنعاء فكل مهنة لها اختصاصاتها أشبه بالنقابات المهنية . وفي هذا الصدد ، يقول : “ . . . يشاهد المرء في سوق صنعاء النجارين والحدادين والإسكافيين والسراجين ( صانعي سروج الخيل ) ، ومجلدي الكتب والكتبة الذين يكتبون العرائض . . . “ . ويتحدث نيبور بالتفصيل عن أنواع السلع والبضائع المعروضة الواردة من بلاد فارس، تركيا ، والهند على صنعاء من ناحية يتحدث عن مكان خاص في السوق يتم فيه تبديل الملابس القديمة ، فيقول : “ ويوجد في صنعاء أيضاًً سوق يستطيع المرء أنّ يستبدل فيه ملابسه القديمة ، بملابس جديدة . كما يوجد تجار يبيعون بضائع هندية وفارسية وتركية وغيرها . كما تباع البهارات والأدوية والقات وأنواع الفواكه المجففة الطازجة التي تتوفر بكميات كبيرة ، مثل العنبروت والمشمش والفرسك والتين وغيرها من الفواكه “ .[c1]سوق الوراقين[/c] ونقف عند المهنة الذي ذكرها نيبور قبل قليل وهي مهنة ( تجليد كتب المخطوطات وزخرفها ) ونستدل من ذلك علىأنّ صنعاء كان بها سوق الوراقين وهي سوق عامرة بالكتب القيمة والنفيسة حيث يأتي إليها الكتاب والأدباء من كل مكان سواء من داخل اليمن أو خارجها لاقتنائها , وقيل أن العديد من الأمراء والملوك والسلاطين ، كانوا يبعثون الأدباء والشعراء للبحث والتنقيب عن المخطوطات اليمنية المهمة والنادرة في مختلف فروع العلوم والمعرفة. وكان في هذا السوق أيضاً النساخ الذين ينسخون المخطوطات والذين كانوا يتميزون بخطهم الجميل . وتذكر المراجع التاريخية أنّ النساخ اليمنيين تفننوا في كتابة خط حروف القرآن الكريم و زخرفته ، وكذلك كانوا يتقنون فن زخرفة غلاف الكتب والتي عادة ما تكتب بماء الذهب . ونستخلص من ذلك أنّ صنعاء كانت تحفل بالحياة الثقافية في تلك الفترة التاريخية وعلى وجه التحديد في ( القرن 18م ) ( القرن 12هـ ) . والحقيقة أنّ حرفة أو صناعة تجليد الكتب وزخرفتها , كانت مشهورة ومعروفة في صنعاء منذ زمن بعيد تعود إلى عصر الخلافة العباسية الزاهي . وهذا ما أكده الدكتور محمد ماهر حمادة ، قائلا ً بما معناه : “ إنّ أهل صنعاء كانوا مهرة في تجليد المخطوطات وزخرفتها بصورة تدعو إلى الإعجاب “ . وتطرق نيبور إلى صناعة الأسلحة في اليمن ، وقد لفت نظره أنّ صناعة السيوف التي كانت تشتهر بها اليمن ، قد تلاشت أو بعبارة أخرى باتت من الأسلحة الكمالية أو النادرة بعد أنّ حلت محلها البنادق أبو فتيلة ، ويبدو أنّ البنادق دخلت اليمن عبر الحكم العثماني الأول لليمن سنة 1538م . ويذكر نيبور الصناعات التقليدية التي اشتهر بها اليمنيون وهي صناعة الجنابي والسكاكين . ويشير نيبور إلى أن اليمنيين “ بدؤوا منذ سنوات قليلة يصنعون بنادق بأنفسهم ولكن نوعيتها لا تزال رديئة “ . [c1]صنعاء ومظاهر الأعياد [/c]وينقل المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع عادات وتقاليد أهل صنعاء في العيد أو الأعياد الإسلامية ( عيد الفِطر ، وعيد الأضحى ) ، وكيف كانت المدينة تتزين في تلك الأعياد والمناسبات الدينية عن المؤرخ الرازي المتوفى سنة ( 460 هـ / 1068 م ) في كتابه ( تاريخ صنعاء ) ، فيقول : “ فكان إذا كان يُوم الأضحى أو الفِطر أمروا ( أي التجار والأغنياء ) عبيدهم وإماءهم ، فكنس كلُ رجل منهم ساحة بابَ داره ورشوها بالماء ، فيصير الموضع كله نظيفا ً مرشوشا ً بالماء ، ويبسطون حضر السامان (الخيزُران) ويجعلون على كل باب وفنائه تلك الحُصُر المعروفة بحُصُر السامان ولزلالي ( البسط ) الرومي والطرطوسي والأرمني من الأحمر وغيره من الأرجوان ويطرحون الريحان وغيره من الأزهار الطيبة والأنوار العبقة ، ويرشونها بالماورد الكثير والكافور ويجعلون المقاطر الصفر ( المَجَامِر) الكبيرة بين تلك الأفنية ، ويطرحون عليها من العُود الرّطب وغيره من الند المُتعالي في ثمنه وصنعته ، فيبخرون الموضع كله مع المُصلى من صلاة الفجر إلى انصراف الإمام والناس من صلاة العيد “ . ويضيف مؤرخنا إسماعيل الأكوع ، فيقول : “ ويجعلون على كل بابٍ من تلك الأبواب (كِيزان) الماء الجدد ، قد بُرد ليشرب الناس “ . [c1]مع ابن بطــــوطــــة[/c] وفي عهد السلطان الملك المجاهد علي بن المؤيد بن داود الرسولي المتوفى سنة ( 764 هـ / 1363م ) وطأت قدما الرحال المشهور ابن بطوطة المتوفى ( 779هـ / 1377م ) صنعاء ، قادمًا من تعز العاصمة السياسية للدولة الرسولية التي حكمت اليمن قرابة 226 عامًا . ولقد شهدت اليمن بصورة عامة ازدهارًا كبيرًا ً في عهد الدولة الرسولية . وعلي أية حال ، يصف ابن بطوطة صنعاء منذ قرابة ستمائة سنة ، قائلا : “ وهي قاعدة بلاد اليمن الأولى . مدينة كبيرة حسنة العمارة ، بناؤها بالآجر والجص ، كثيرة الأشجار والفواكه والزرع ، معتدلة الهواء طيبة الماء . . . والمدينة مفروشة كلها . فإذا نزل المطر غسل جميع أزقتها وأنفاقها . وجامع صنعاء من أحسن الجوامع ، وفيه قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام “ . ونستخلص من ذلك أنّ صنعاء ، كانت في عهد حكم الدولة الرسولية مزدهرة ازدهارًا واسعًا ودليل ذلك أنّ أهل صنعاء ، كانوا يسكنون الدور البديعة الشكل المبينة بالآجر والجص ، وكانت صنعاء أيضًا مليئة بالأشجار الكثيفة ، والفواكه العديدة ، وأنّ المدينة كانت تتميز بالتنظيم والنظافة ودليل ذلك أنّ المطر إذا هطل على صنعاء غسل جميع أزقتها وأنفاقها . ويذكر ابن بطوطة أهم معلم من معالم صنعاء واليمن بصورة عامة ، وإنّ لم يكن أهمها على الإطلاق وهو جامع صنعاء أو جامع صنعاء الكبير والذي بناه فروة بن مسيك المرادي * في عهد رسول الله * . وفي رواية أخرى ، تقول أنّ من قام ببناء الجامع هو الصحابي الجليل وبر بن يخنس الأنصاري بأمر من رسول الله * . [c1]المدينة المقدسة[/c] وفي سنة 1931 م ، تسلل الرحال الألماني هانز هولفريتز خلسة عن عيون جنود الإمام إلى داخل اليمن أو البلاد المحرمة ـــ على حد تعبيره ــــ وفي تلك الرحلة تم القبض عليه بسبب دخوله اليمن من الباب الخلفي أو بعبارة أخرى لم يستأذن الإمام بدخولها بصورة شرعية أو رسمية ، بعد أنّ دخلها بصورة شرعية ورسمية سنة 1930م ، ولكنه كان في تلك الرحلة الأولى مراقبا ً بصورة شديدة ، وقد سمح له فقط في الإقامة والتجول في صنعاء فقط . وعلى أية حال ، في الرحلة الثانية غير الشرعية أو غير الرسمية ، فقد تم القبض عليه ، وصدرت الأوامر بترحيله من مأرب إلى صنعاء . وبعد رحلة شاقة وصعبة ابتداء بصحراء مأرب ومرورًا بسهول وأودية تهامة ، وانتهاء بالمناطق الشمالية الجبلية ، بجبالها العالية الشاهقة التي تلامس وجه السماء ، لاحت في الأفق صنعاء بجمالها الأخاذ الذي يخلب العقول والقلوب معا ً ، فيصفها ، قائلا ً : “ وعندما وصلنا جبل نقم في الصباح التالي ، واستدرنا حول المنعطف ، وجدنا أنفسنا ، وقد تخلصنا من المنظر الذي كنا نراه طيلة اليومين الماضيين ، وأبصرنا أمامنا من الناحية الأخرى مدينة صنعاء المقدسة , وقد امتدت أمامنا تحت أقدامنا . وقد أسميتها بالمقدسة لأنها تضم ثمانية وأربعين مسجدًا ، وتسعة وثلاثين كنيسا ً لليهود وأثني عشر حماما ً عاما ً لنحو من خمسين ألفا ً من البشر “ . ويمضي في حديثه ، قائلا ً : “ وإذا ما تطلع الإنسان إلى المدينة من مكان بعيد ، بدت له وكأنها عنكبوت هائل . هبط من السفوح نحو الوادي ، وانتشر نسيجه تحت رأسه الذي يقع في المنحدر . وبدت البيوت المتراصة التي استحمت جدرانها تحت أشعة الشمس المحرقة ، كأنها مجموعة من الصخور العمودية البيضاء ، المؤدية إلى قصر ذي أربع طبقات ، عبر سلسلة من القطاعات التي ترتفع تدريجيًا إلى أنّ تصل قمم منائر (مآذن ) المساجد ، وكلها تعلوها قمم من الجبال ، ذات الأشكال الغريبة “ . [c1]بين صنعاء وباريس[/c] وتصف كلودي فايان الطبيبة الفرنسية صنعاء القادمة إليها في سنة 1951م من باريس مدينة النور والعلوم والمعرفة ، والضوضاء ، والصخب , والبهرجة ، والعمران الحديثة الباهرة وصفا ًغاية في الروعة لمدينة صنعاء الضاربة جذورها في أعماق فجر التاريخ الإنساني والذي ولدى وتربى التاريخ على حجرها تدل على عاطفة جياشة من الطبيبة الفرنسية تجاه المدينة العتيقة ، فضربت بالحياة الحديثة في بلادها عرض الحائط ، واستلقت في أحضان جمال صنعاء الأصيل المدينة الخارقة ـــ على حد تعبيرها ـــ . وهذا ما دفع الشاعر الشهيد رائد الحركة الوطنية محمد محمود الزبيري أنّ يثني عليها ثناءًا كبيرًا بسبب قدومها من قلب النور إلى مجاهل الجهل والتخلف والظلم في عهد حكم أسرة آل حميد الدين التي حكمت اليمن ردحا ً من الزمن , ، فيقول : “ قرأت الكتاب ـ( كنتُ طبيبة في اليمن )عدة مرات والحق أني ما قرأته إلا ّوبهرتني فيه النزعة الإنسانية المترفقة الودود ، واستمر إعجابي وتجدد كلما جددت قراءة الكتاب . إنسانة خلقت وعاشت في أوروبا وانبثقت روحها من دنيا القرن العشرين ترجع فجأة عشرة قرون إلى الوراء وتعيش فترة في دنيا تلك القرون فلا تنفر ولا تستكبر ولا تستوحش وإنما تتسامى وتنصهر في لهب من الألم والعطف والرحمة “ .[c1]المدينــــة الخارقــــــة[/c]وعندما صافحت كلودي فايان الطبيبة الفرنسية عيناها لأول مرة صنعاء ، عشقتها من أول وهلة ولم تستطع الفكاك من شباكها السحرية غير المرئية ، فتصفها ، وقد ملأت كل وجدانها ومشاعرها ، فتقول : “ إنّ صنعاء مدينة خارقة للعادة حين يُنظر إليها من الجو . فهي مزدحمة محصورة داخل أسوارها ، ولكنها في نظر المسافر الذي قطع الجبال سعيا ً إليها ، خلابة رائعة. فقد قضى أيامًا لم ير خلالها إلا ّ قرى صغيرة بائسة معلقة على قمم المنحدرات الصخرية وأكواخا ً تعسة تنم عن حياة بدائية وأقل من بدائية ثم فجأة يرى أمامه مدينة ضخمة سكانها ستون ألفا ً . في موقع رحب على سهل فسيح ولها كل مظاهر العاصمة الكبيرة ، مدينة لها عماراتها الشاهقة المتلاصقة الفخمة المغطاة بالزخرفة والنقوش البيضاء وتعلوها المنارات العديدة . . إنّ هذا التناقض يأخذ باللب لكأن هذا المجموع المعماري المتناسق بهذا المعنى وهذه الوفرة برز بفعل السحر في إطار يكاد يكون كله من المعدن ، إنّ هذه هي الأصالة العميقة لصنعاء وهي التي كونت مجدها منذ أزمان طويلة في جنوب الجزيرة العربية “ . [c1]بــــاب اليمـــــن والأسطورة[/c]وفي موضع آخر تتحدث كلودي فايان عن أشهر معالم صنعاء وهو باب اليمن الذي تروي عنه أسطورة ، فتقول : “ أسوار من الطين كثيفة وعالية ، تحيط المدينة من كل جانب ، أبواب تقفل في الليل ، والباب الرئيسي هو باب اليمن الذي يفتح إلى الجنوب والذي يجب أنّ يدخل منه الأجانب . تلك قاعدة متبعة بدقة تفسرها خرافة قديمة . . فقد كان في عقد الباب طلسم أو حجاب للحماية ، فإذا أجتازه العدو أو الثعبان السام خر لتوه صعقا ً . . ولكن الباب العربي القديم ، قد حل محله للأسف باب تركي . . . صنع حديثا ً ، وقد اختفى الطلسم . . فليحفظ هذه المدينة . . . “ .[c1]أبراج المدينة[/c]وتلتقط عدسة الطبيبة الفرنسية صورة أو صوراً عن أقدم حي من مدينة صنعاء القديمة العتيقة والذي يحفها أسوار وأبراج ، وتخترقها ستة أبواب ، فتقول : “ أمّا المدينة القديمة فهي أقدم أقسام صنعاء وأكثرها اتساعا الذي يلحظ الإنسان في قمته خيال حصن قام على أطلال قصر سام بن نوح ، أبي الساميين جميعا ً. . إنّ أسوار المدينة ترتفع عشرة أمتار وتعلوها طريق دائرية ، ويعززها مائة وثمانية عشر برجا ً . وفي هذه الأسوار أبواب ستة ففي الشرق باب القصر ، وفي الشمال باب شعوب ، وباب الشقاديف ، وفي الغرب جهة حي بئر العزب باب السباح ، وفي الجنوب باب اليمن ، وباب خزيمة “ . [c1]مساجـــد صنعـــــاء[/c]ويلفت نظر كلودي فايان مساجد صنعاء الرائعة الشكل بمآذنها الشامخة الصاعدة نحو السماء. وقد وصفت الجامع الكبير بشيء من التفصيل إلى جانب عددٍ من الجوامع الأخرى التي تطفو على وجه المدينة. وفي هذا السياق ، تقول : « والجامع الكبير يرجع عهده إلى القرن السابع / القرن الأول الهجري وهو واحد من أكرم مساجد الإسلام .( أي الجامع الكبير ) وهو بناء مربع ضخم مكوّن من رواق مسقوف حول بهو في وسطه بناء شبيه ولكنه فارغ ، وهو على العموم ليس فاخرا ، وأعمدته خشنة ، وأرضه مفروشة بسجاد من الصوف الأبيض والأسود ، وله تسعة أبواب . . . « . وعن المساجد الأخرى التي تزين مدينة صنعاء فتقول : « وفي صنعاء نحو أربعين مسجدا ، بينها خمسة عشر مسجدا ، مناراتها ( مآذنها ) جميلة جدا، وأحدث هذه المساجد ما بني منذ أقل من مائتي سنة ، وهى تركية فيها قبة رئيسية محاطة في بعض الأحيان بقباب صغيرة أما المساجد الأكثر قدمًا فهي تلك التي ترجع إلى القرن الحادي عشر / القرن الخامس الهجري وهي بناء يمني خالص ، ومناراتها سميكة اسطوانية الشكل على قاعدة مزدوجة ذات ثمانية أضلاع ، ثم مربعة وهي مزخرفة كالبيوت من أعلاها إلى أسفلها بالقرميد النيئ المصبوغ باللون الأبيض ، والزخرفة في الغالب نقوش دينية وآيات من القرآن « . وتشير كلودي فايان إلى مواقع المساجد في صنعاء والتي تكون الأسواق بجانبها وهي على طراز تخطيط أسواق المدينة الإسلامية . وفي هذا الصدد ، تقول : « وتقع المساجد في الغالب في أماكن خلوية مفتوحة وبعضها تكون في مناطق الحركة والانتعاش كمناطق بيع الحطب وأخشاب البناء التي تأتي بها الجمال كل صباح من أماكن بعيدة وتبيعها في نفس اليوم وأسواق الحيوانات التي يبيعون فيها الأبقار والجمال ، وهناك أسواق مسقوفة تخصص لبيع البُن أو الزبيب كل صنف في موسمه » . ويلفت النظر أنّ وصف المهندس الألماني كرستن نيبور لمدينة صنعاء سنة 1763م ، والرحال الألماني هانز هولفريتز في 1931م ، أو الطبيبة الفرنسية كلودي فايان في عام 1951م ومن قبلهم عالم الآثار الدكتور أحمد فخري الذي زار صنعاء سنة 1947م . لم تتغير صورتها أو صورها ولم تمتد إليها أيادي التبديل والتغيير فظلت المدينة العتيقة محافظة على تراثها وتاريخها الأصيل ، رغم من مرور الأيام والشهور والسنون الطويلة . [c1]“ عن ساكنـــي صنعـــاء “[/c] ويتغنى الشاعر اليمني عبد الرحمن الآنسي بجمال ورواء صنعاء الرائع, وقد أنبهر بحسنها الفاتن وبهائها المشرق ، فيقول : عن ســـــاكني صنعاء حديثك هات وافوج النســـــيم[c1] *** [/c]وخـــــــــــفف المســـــعى وقف كي يفهم القلب الكليــــم [c1] *** [/c]هل عَهـــــــــــدُنـــــا يُرعى وهل يرعى العُهود إلاّ الكريم “ [c1]الهوامـــش : [/c]الدكتور أحمد فخري ، مراجعة وتحقيق : الدكتور عبد الحليم نور الدين ؛ اليمن ماضيها وحاضرها ، الطبعة الأولى 1378 هـ / 1957م ،المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع ـــ صنعاء ـــ .الدكتور أحمد قايد الصايدي ؛ المادة التاريخية في كتابات نيبور عن اليمن، الطبعة الأولى 1410هـ / 1990م ، دار الفكر المعاصر ـــ بيروت ــــ لبنان ــــ .( * ) الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم تولى الإمامة بعد وفاة أخيه محمد بن القاسم عام 1504 هـ / 1644م ، واستمر فيها حتى وفاته عام 1087هـ / 1676م .الدكتور محمد ماهر حمادة ؛ المكتبات في الإسلام ، الطبعة الثاني 1398 هـ / 1978م ، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر ـــ بيروت ـــ لبنان ـــ . رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار . دار الشرق العربي ـــ بيروت ـــ لبنان ـــ .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أعراف وتقاليد حكّام اليمن في العصر الإسلامي ، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغرب الإسلامي ـــ بيروت ـــ لبنان ــــ . هانز هولفريتز . تعريب : خير حــــمّاد ؛ اليمن من الباب الخلفي ، الطبعة الثالثة 1985م ، المكتبة اليمنية للنشر والتوزيع ـــ صنعاء ـــ .كلوُدي فايان . تعريب : الدكتور محسن أحمد العيني ؛ كُنت طبيبة في اليمن، الطبعة الثالثة 1985م . منشورات المدينة ـــ بيروت ـــ لبنان ــــ .العلامة القاضي محمد بن أحمد الحجري اليماني . تحقيق وتصحيح ومراجعة: إسماعيل بن علي الأكوع ؛ مجموع بلدان اليمن وقبائلها ، المجلد الثاني ( الجزء الثالث ) الطبعة الأولى 1404هـ / 1984م . منشورات وزارة الإعلام والثقافة ـــ صنعاء ـــ .ولمزيد من الإطلاع على تراث وتاريخ صنعاء القديمة أقرأ كتاب تاريخ مدينة صنعاء للرازي ، تحقيق ودراسة : الدكتور حسين بن عبد الله العمري . دار الفكر المعاصر ـــ بيروت ـــ لبنان ـــ .