منبر التراث
[c1]جندي ذو شرف وبسالة[/c]عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها ، كانت الدولة العلية العثمانية قد انكسرت هي وحليفتها ألمانيا القيصرية في الحرب على يد عدوتهما اللدود بريطانيا. ومن جراء ذلك انسحبت القوات العثمانية المتواجدة في لحج بقيادة علي سعيد باشا . والذي عاش قرابة ثلاث سنوات في لحج استطاع في تلك الأعوام الثلاثة أن يقر الأمن والأمان بين الناس من ناحية وازدهرت الزراعة في عهده حيث قام بتشجيع المزارعين بل أنه جعل جنوده يساعدونهم في حرث الأرض وحفر قنوات الري في وادي تبن ، وتقديم كافة التسهيلات التي يمكن أن تساهم في تحسين وتطوير الزراعة , وكان من بينهم مختصون بالزراعة ساعدوا المزارعين على كيفية الاستفادة من تربتهم الخصبة ؟ وتحسين محصولهم . والحقيقة لقد أجمعت المصادر التاريخية العربية والبريطانية بأن أهالي لحج احترموه وأحبوه " وبفضل نزاهته وشجاعته لم يجرؤ أحد من قادته أو جنوده على التعرض لحرمات أهالي لحج وأموالهم " . ولقد وصفه والي عدن استيورت أنه ( جندي ذو شرف وبسالة) "وقد دخل علي سعيد باشا عدن دخول المنتصرين ، فقد قابلته الجماهير هاتفة له ، وذلك لأنه حارب بيدين نظيفتين . وكان جنديا ممتازا ، وكذلك إداريا من الدرجة الأولى" . [c1]زهرة[/c]وفي تلك السنوات الثلاث الذي أمضاها القائد العسكري علي سعيد باشا في الحوطة تزوج من فتاة ، قيل أنها اسمها ( زهرة ) وكانت في عمر الربيع . وكانت أجمل فتيات لحج . وعلى أية حال ، تروي الروايات الشفوية عنها أنها أحبته حبا عميقا , وملأت حياته بالسعادة والمرح الكبيرين ، ومن فرط سعادتها شعرت أنها تحلق فوق السحاب . ولكن ( زهرة ) أحست في قرارة نفسها أن سعادتها لن تدوم ، وأنه سيأتي يوم يفارقها وتفارقه ولن يأخذها معه إلى استنبول بسبب أنه متزوجا وله عدد من الأبناء والبنات . وأن رحيلها معه يعد من المستحيلات , وعلى أية حال ، عاشت أيامها معه بكل مشاعرها ، وأحست أن حياتها الحقيقية هي بجانبه, وأنها ولدت يوم اقترنت به. وتعلقت بأهداب خيوط الأمل ، لعله يأخذها معه إلى استنبول بتركيا . ولكن الحلم شيء والواقع شيء آخر .[c1]اليوم الحزين[/c]وتمضي الأيام والشهور، والسنوات سريعة كسرعة البرق ، وتعلن الدولة العثمانية انسحابها من اليمن ومن بينها لحج سلطنة العبادل . ولقد كان يوم رحيل زوجها وحبيب عمرها علي سعيد باشا التي أحبته بكل جوارها وأحاسيسها يوما حزينا ومأسويا في حياتها. ولقد شعر القائد علي سعيد باشا عما يدور في خلدها ومشاعرها من خلال عينيها النجلاوين الجميلتين ووجها الرائع الذي يقطر حزنا وأسا . ولقد طلبت منه على استحياء أن يأخذها معه إلى عدن ، ويتركها هناك بعد أن يرحل إلى استنبول , فوافق القائد علي سعيد باشا . [c1]في الشيخ عثمان[/c]وفي منزل متواضع في الشيخ عثمان عاشت ( زهرة ) مع زوجها علي سعيد باشا فترة ليست طويلة . ولكنها كانت أحلى وأروع أيامها. وجاء يوم الرحيل أو قل جاء يوم الوداع الذي لا لقاء فيه والتي كانت تخشاه منذ أن اقترنت بعلي سعيد باشا في لحج . انسابت الدموع الحارة على خديها، كتمت أحزانها في صدرها , الآهات تمزق كيانها ، دارت الأرض من حولها ، تجمدت ملامحها ، انسلت روحها من جسدها ، رفعت عينها الجميلتين على استحياء إلى الوجه الذي أحبته بل قل الذي عشقته ، قبلها علي سعيد باشا على جبينها الصغيرة قبلة عميقة , نزت قطرات من عينيه الزرقاواتين ، ورحل كانت تنظر إليه حتى غيبه باب البيت , وقفت بجانب النافذة لتلقي نظرة الوداع الأخيرة على نعش أيامها الرائعة قبل أن يوارى في الثرى . [c1]بيت الذكريات[/c]دفنت رأسها في حزنها انطوت على نفسها ، لم تخرج من البيت الذي هو كل حياتها بل كل ذكرياتها الوردية الجميلة كان الكثير من الأسر اللحجية يزرونها ، ويواسونها على فراقها للقائد العثماني علي سعيد باشا . ولكن مع تعاقب الأيام ، والشهور ، والسنيين الطويلة . توقف الزوار عن زيارتها ، وخطف الموت والديها ، وأقاربها ، وأحبابها . وكانت الأيام تأكل من جسدها يوما بعد يوم ، وحفر غوائل الزمن على وجهها الصغير أخاديد عميقة , وتآكلت أسنانها، وفقدت بصرها وتمزق شعرها الأسود الطويل الناعم الذي يغار منه الليل من سواده. لقد حملت على كتفيها أكثر من سبعين عاما ، ولكن ذكرياتها مع حبيب العمر ظلت ماثلة حية في كل ذرة من كيانها . الكل رحلوا من الدنيا الفانية. وصارت زهرة ريشة في مهب الريح ، تقاذفتها الأيام القاسية ، طردت من البيت التي كانت تسكنه . فهامت على وجهها من مكان إلى آخر . وفي ذات يوم من أيام الشتاء , عثروا على امرأة عجوز ، قد فارقت الحياة على قارعة الطريق ، وقد تشنج جسدها الضامر , ولكن الغريب في الأمر ، كان على وجهها ابتسامة عريضة ومضيئة كأنما التقت روحها الطاهرة بروح حبيب العمر سعيد علي باشا في الدار الآخرة ؟؟ .