منبر التراث
[c1]بين النقد والقدح[/c]لسنا نبالغ إذا قلنا أنّ هناك فرقاً شاسعاً بين النقد والقدح ، فالنقد العلمي يقوم على الاستقراء ، والاستقصاء ، والتفسير ، والشرح ، والتحليل العميق ومن ثم الخروج بنتائج قيمة مستخلصة من المقدمة أو المقدمات ، أمّا القدح فهو الهجوم الأهوج ، الذي غايته الهجوم من أجل الهجوم وليس النقد السليم الذي يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، والغث من الثمين . الحقيقة الذي دفعني إلى هذا الكلام هو الهجوم الشديد على مؤرخنا عبد الله محيرز من قبل أحد الكتاب في صحيفة من الصحف المحلية التي نكن لها كل الاحترام والتقدير الكبيرين .[c1]ضرب من ضروب العبث[/c]فيقول هذا الكاتب بما معناه : “ أنّ عبد الله محيرز وقع في أخطاء تاريخية كبيرة في تاريخ عدن “ . ولقد كان الأجدى والأجدر به أنّ يبين تلك الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها المؤرخ عبد الله محيرز وذلك من خلال الحجة بالحجة ، والدليل بالدليل وبتعبير أخر أن يحلل ويغربل أخطاءه التاريخية تحت مجهر البحث التاريخي ، أمّا أنه يطلق العنان لقلمه بصورة هوجاء ، فيقول أنّ محيرز وقع في أخطاء فادحة في تاريخ ثغر عدن دون أنّ يبين لنا تلك الأخطاء . فهذا الأسلوب بعيد كل البعد عن منهج البحث التاريخي . والجدير ذكره ، أنّ الهدف من منهج البحث التاريخي هو الوصول إلى أقرب نقطة من قلب الحقيقة ، فكان على الكاتب أنّ يستعرض الروايات التاريخية الواحدة تلو الأخرى التي تعارض آراء ، وأفكار محيرز في هذه المسألة التاريخية أو تلك أو التي يمكن أنّ تضيف معلومات جديدة لم يتناولها محيرز من قبل في مؤلفاته . أمّا أن يطلق الكاتب الكلام على عواهنه دون دلائل تقودنا إلى الحقيقة أو الحقائق فذلك يعتبر ضرب من ضروب العبث والخروج عن جادة الصواب .[c1]مؤلفات قيمة[/c]ومن يقرأ بتعمق مؤلفاته التي ألفها في تاريخ ثغر عدن ، وهي العقبة ، صهاريج عدن ، و صيرة ، فعلى سبيل المثال إذا فتحنا صفحات كتاب (( صيرة )) سيشعر المرء أن الأحياء و الشوارع ، والمؤسسات الاقتصادية ، والمواقع العسكرية التي ذكرها تسري في أوصالها الحياة ، وبتعبير أخر لقد نفخ الأستاذ محيرز فيها الروح لتعود إليها الحياة مرة أخرى ، فالمرء يحس أنه يغوص إلى أعماق تلك الفترة التاريخية وينفصل عن واقعه الحالي . وهذا العمل التاريخي يحتاج إلى مؤرخ قدير وماهر يمسك بأدوات البحث التاريخي كالمؤرخ النابغة عبد الله محيرز , ولقد كان دائماً يردد أنّ التراث هو الهوية التاريخية لكل أمة من الأمم أو لكل شعب من الشعوب . وفي كتابه (( صيرة )) يعبر محيرز عن أسفه العميق لما آل إليه حال معالم تاريخ عدن ، قائلاً : “ ولن يخفي على من تصفح هذا الكتاب مبلغ المعالم التاريخية التي اختفت من عدن خلال قرون من الغزو والاحتلال ، وتغيير وجه المدينة في كل جيل “ . ويمضي في حديثه ، قائلاً : “ إنّ هذا الكتاب محاولة إلى إعادة الحياة إلى المواقع الميتة التي كانت يوماً ما تنبض بالحياة : بالقصور ، والمدارس ، والجوامع ، والخانقات ، والقيساريات ، وتعج بالنواخيذ والتجار ، ... والأجناد ، وهو توثيق لما بقى من مآثر قبل أنّ تزول ، وتؤول إلى ما آلت إليه غيرها ، وتصبح نسياً منسياً “ .[c1]حصر وجمع المخطوطات[/c]والحقيقة لقد أجمع المؤرخون المحدثون الكبار ، والباحثون الحاليون أنّ مؤلفات محيرز تعتبر أهم المراجع في تاريخ عدن لا يمكن الاستغناء عنها . ولقد أدرك مؤرخنا عبد الله محيرز تمام الإدراك أنّ البحث التاريخي العلمي يجب بل ويتوجب أن يتكئ قبل كل شيء على مصادر التراث المتمثلة بالمخطوطات ، والوثائق . في سنة 1975م ، قام بجولة في مكتبات أوروبا وأمريكا لحصر وجمع المخطوطات والوثائق التي صورت فيها 800 مخطوط ، وما يربو عن ألف مقال إضافة إلى أرشيف مكتبة الهند عن المراسلات الخاصة بعدن ، والمحميات منذ الاحتلال البريطاني حتى 1905م . وعندما كان مديراً عاماً للمركز اليمني للأبحاث الثقافية في الفترة ما بين 1975 - 1989م ، تمكن أن يؤسس مكتبة تاريخية ضخمة ضمت المؤلفات العربية والأجنبية التي سلطت الأضواء الكاشفة على تاريخ اليمن بصورة عامة وثغر عدن بصورة خاصة ،. ولقد زار الكثير والكثير من الباحثين والمؤرخين العرب ، وغير العرب المركز ، وأعجبوا به أشد الإعجاب لكونه كشف الكثير عن حضارة اليمن عبر مراحل تاريخها المديد .[c1]صرح ثقافي شامخ [/c]وكيفما كان الأمر ، فإن مؤرخنا عبد الله محيرز يمثل لليمن صرح ثقافي شامخ ، لن يستطيع أحد أن يزحزحه عن مكانه الصلب بمجرد الهجوم عليه , وليته كان نقداً مبنياً على أسس علمية صحيحة كل الذي رأيناه هو بعيد كل البعد عن الموضوعية والعلمية . لقد قدرت منظمة التربية والثقافة والعلوم ( اليونسكو ) في الأمم المتحدة دور المؤرخ عبد الله محيرز لما بذله في خدمة تاريخ اليمن والذي هو جزء لا يتجزأ من نسيج التاريخ الإنساني حيث منحته وسام العلوم من الدرجة الأولى ، ووسام الآداب والفنون ، ونظراً لخبرته العميقة في تراث وتاريخ المدن ، فقد عين سنة 1990م ، نائباً لرئيس الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية . ولقد كان له دور كبير بأن لفت نظر منظمة ( اليونسكو ) إلى مدينة شبام بحضرموت ذي الطراز المعماري الفريد في بابه . ومرة أخرى يجب أنّ نفرق بين النقد والقدح ، و العبث ، والبحث التاريخي .