القاهرة/ 14 أكتوبر / السيد العيسوي:( ذاكرة الخيال المبجل ) عنوان فذ لأرض فذة أما العنوان فهو عنوان كتاب للكاتب والأديب العراقي كريم محمد حسين الذي يصنف ضمن (أدب الرحلات). أما الأرض فهي أرض الهند، أرض الأساطير والحكايات التي تطل بعينيها من وراء ستار الشرق الشفيف لتوقظ أطياف ( ذاكرة الخيال المبجل ) عبر الزمان والمكان . الأرض التي أنجبت شجرة الشرق العملاقة والخالدة .. الوارفة الظلال على الإنسانية جميعاً : (رابندرانات طاغور ) شاعر العذابات الإنسانية الكبرى، وسادن أسرار معبد الروح في الكلمة الشاعرة ، والذي يصنع - أيضاً- للقارئ (ذاكرة الخيال المبجل ) في كل قصائده العظيمة .يحمل الكاتب على وجهه غربة العراق الحزين ، ذلك الرحالة الذي يحمل عذابات الشرق وأوجاعه - بالنيابة عن كل رحالة فينا لا يجد وطنا خارج الزمان والمكان- ويحط عصا ترحاله في أرض الهند. (الهند ) تلك الكلمة التي تترادف والسحر .. يجوس خلال الديار والأحلام .. يعبر حدود النفوس بأسلاكها الشائكة .. يستنشق رائحة التاريخ .. يستكشف مذاق الجغرافيا ويطهوه لنا في كلمات ، هي شعر دون أن تكونه، فحين يتجول من منطقة سحرية إلى أخرى حتي يصل إلى قصر (لال محل ) الذي شهد قصة حب مأساوية ، يقول - وقد دخلته وقت الغروب - : ( كأني أجوب أرض الأحلام ، وأبدأ من نقطة الصدى، وأتحرر أكثر ، ويصبح جسمي خفيفا لأتسلل وأسبر غور قصة حب أبدية..) وحين يتجول بين الأماكن يلحظ ماتحمله من عناصر دينية وثقافية وعاطفية وتاريخية، وكأنه يريد أن يقدم لنا عبر كلماته بصمة الزمان والمكان. كما أنه يلمس أعماق شخصياته وهو يحمل عمق الروح التواقة إلى الغوص والتحدي الذي هو إكسير الكتابة والإبداع.[c1]طقوس الجحيم [/c]ولأن الهند أرض غريبة مهيبة تحمل آلاف الديانات من كل شكل ولون، يحرص على أن يمر على جماعة من العباد، ويتأملهم وهم يعبرون ( طقوس الجحيم ) ويرى كيف تؤدي العبادات إلى التركيز، والسمو، وتحرير الروح من أثقال المادة التي تشدها ، ثم التحليق ملء عوالم سامية من النضوج الفكري والتهذيب الروحي، والحصول على قدرة التفاهم مع الأبعد .. هكذا تهطل الميتافيزيقا على الأرواح مطراً من نور حين نصلب الجفون ويتم الاندماج مع الكون، ليصبح الإنسان جزءاً من الكون ، بينما يحتوي الكون بداخله. يعود الكاتب من الميتافيزيقا إلى الواقع ، وينتقل من مكان إلى مكان ممتطياً صهوة خيالاته المجنونة ، حاملاً في حقيبته الروحية الخبر اليقين من هنا وهناك . وهو إذ يفعل هذا يزلزله ( الخيال المبجل) ويسير تتدافعه الأحلام ، حلم يذهب به إلى حلم ، إلى حلم آخر ، إلى أن يتحصن ضد الواقع . هكذا تفعل به ثنائية العقل والخيال. وهو يذهب إلى الأماكن التي تجعله ينبش وينظر في بئر التاريخ الموغل . فهو إذا يركز على (قلعة ساهي بابا) ذلك المعبد الذي عايش اختبارات الزمان، يركز على رموز الحضارة الفكرية من المشاهد التي يمر عليها ، ويمعن في تأمل الأماكن التي مازالت تقاوم لطمات الزمن الصافعة .[c1]أساطير المسكن السماوي[/c] وهو يرصد أساطير القوم- بما أن الهند أرض أساطير وخيالات لاحصر لها - فهذا المكان أي (كيلاش ) هو المسكن السماوي لآلهة بعض القوم . كما أن جبل كيلاش يتجسد لهم في صورة هي أقرب إلى صورة الوحش الفردي النافر في شكل صلب، حتى إن المتأمل لينحني احتراماً للقمة الفضية التي تلمع مع رونق ولمعية الانبعاث الروحاني في ذلك المسكن السماوي . وأسفل كل هذه الدهشة الأسطورية دهشة أخري هي بحيرة (ماندوفا) أو البحيرة المقدسة التي تستلفت النظر والتأمل أسف الجبل . أما الليل المقمر في هذا المكان فيثير الدهشة إلى حد الغضب في هذه البقعة الغضوب ، حيث يخيل للقوم انبعاث أصوات من كل مكان . وجوار كل هذا هناك مساحة في التكوين الأسطوري للذهن للأتباع الذين حضروا إلى الأرض على خيل لها أجنحة، بعد الهبوط الأخير. جو أسطوري صرف يسكن في مخيلة القوم ، وينطق به الشكل الجغرافي للمكان ، ويأخذ صبغة دينية . هكذا يعبر الكاتب خرائب الزمن ليصل ، ونصل معه ، إلى تلك البقع الروحية. [c1]التواصل بين الحضارات [/c]وكما يتكلم الكاتب عن جذور الجغرافيا لهذا المكان ، يتكلم عن نوع أعمق من الجذور وأشد أصالة،هو الذي يجعل للأرض قيمة .. نعني الجذور البشرية ، حيث يتكلم عن بعض الشخصيات بوصفها قوة انسانية عظمي ، وطاقة خلود كامنة في كل ذرة من تراب الوطن .. تقود إلى المستقبل. ومن بين هؤلاء يركز على ( غاندي ) الذي استمد ( روح التعايش السلمي) من أرضه ومن مجموعة العقائد والأديان التي ظهرت من قرون بعيدة في الهند . وهكذا يثبت أن الهند أرض عبقرية مطواعة، جعلها غاندي ملجأ لكل أديان العالم ، فوجد الإسلام له مكانة متميزة، وأصبح الديانة الثانية من حيث عدد الأتباع .. غير أنهم اندمجوا جميعاً في بوتقة الحضارة..وكأن الكاتب يقع ، ونقع معه - بشكل غير مباشر - على نموذج واقعي يجسد مبدأ استقطب كثيراً من النقاشات منذ أمد ، وشغل أذهان المفكرين، نعني مبدأ ( التواصل بين الجضارات ) والتعايش السلمي بين الثقافات المتعددة . ويشير إلى أنها فكرة ( تقديس الحياة ) لدي الجميع هكذا نصل إلى حق الاختلاف والتعايش بطريقة سلمية . ولعل القارئ لاينسى - في هذا الصدد - كلمة غاندي الشهيرة كالنبراس : (أريد أن تهب على بيتي ثقافات كل الأمم ، بكل ما أمكن من حرية، ولكني أنكر على كل منها أن تقتلعني من أقدامي) وهي كلمة تعكس مبدأ راسخاً بين كل الحضارات بما فيها حضارتنا العربية الإسلامية (الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولىبها)..وهكذا يفتح غاندي الطريق الواسع ( للأخوة الإنسانية ) بأسمى ما فيها من معانٍ وقيم.غير أن المشكلة التي تختبئ خلف قشرة الحضارة الحالية هي الذئب الراقد في الإنسان الذي يدعي الحضارة الحديثة في العصر الحديث.وبهذا يبحث الكاتب عن الشخصيات التي توسع أفق التاريخ الروحاني.[c1]فلسفة الألم [/c]ولاينسى الكاتب أن يعرج على بعض فلسفات القوم - والتي تشهد خليطاً هائلاً من الأفكار - ومنها تلك النظرة الخاصة للألم- بصرف النظر عن موقفنا منها - فالألم عامل واحد ووحيد شامل يفسركل شيء· هذه الحياة ألم ..لاشيء فيها غير العذاب والأوجاع ، الولادة ألم ، العلاقات مع الغير ألم ، لأننا نرتبط بمن لانحب ، أو نفترق عمن نحب.تحقيق الرغبات قد ينتهي إلى الألم ، وعدم تحقيقها كذلك. هذه هي العناصر التي تتكون منها الآلام.ولهذا سبب وعلاج ، فسبب الألم هو الجهل ، لأنه هو الذي يولد الرغبة ، وبهذا تتولد الآلام كلما تولدت الرغبات . أما التغلب على الألم فيكون بالتغلب على الجهل ، فالتغلب على الجهل يؤدي إلى التغلب على الرهبة ، ومتحرر هو من يقهر شهواته ويزيل رغباته ، وانتهاج هذا الطريق يقود إلى المعرفة التي تدخل الإنسان في الراحة ، بالتركيز على فكرة وحيدة تنفي ماعداها ،لعل هذا يؤدي إلى انفصال المادة عن النفس التي تسمو عندما تكون قد وصلت إلى ذروة التأمل ، حيث تفقد النفس وعيها بذاتها بهذا الشكل لتتم عملية الإنقاذ ، وتنطفيء شهوات النفس كما تنطفيء شعل النار ، ولأجل هذا فالسلام (لعله السلام مع النفس والعقل) هو الحياة الواحدة والخالدة، هو الراحة الأبدية · ولاشك أنها فلسفة تأخذ خيوطاً عالمية عديدة لا مجال لتفصيلها.ويرصد الكاتب الإيقاعات البصرية لهذه المدينة حيث الترتيب المستجد باستمرار للماضي والحاضر ، وحيث كل مدينة تغرق في تناقضاتها ، وحيث الأماكن التي تبدو مثل المقابر : أسماء فقط ، وأسوار محطمة ، وجدارن تعيش بعد نسيان من دفنوا فيها منذ وقت طويل.هكذا يلغي الإنسان في بعض الأماكن..وحيث يلتقط الشعراء من كل هذا خراب الماضي ليجعلوا منه مادة المستقل· إنه خليط الماضي والحاضر يتجلي محترقاً في يد الأجيال.وعبر فجوات الزمن العميقة.هكذا يبدو الإيقاع اليومي لبعض المدن.ثم يتحدث عن بعض الرياضات الشهيرة كاليوغا ، والتي تترجم إلى معني الربط والسيطرة والتحكم · ويعرضها من منظورها الأرقي ، في ضوء أن التمارين الجسدية ليس لها قيمة - ضمن هذا المنظور- إلا بمقدار ما تعطي للفكر.وهذا يعني أن الرياضة - في حقيقتها - ليست مجرد لهو ، وإنما لها بعد روحي وفكري عميق لمن يؤمن بها ويمارسها على وجه خاص.منهج اليوغا يعلم الإنسان كيف ينقطع عن العالم الخارجي بوساطة تمرين يسمى تمرين ( أمانة ا لحواس ) بعدها يأتي دور ممارسة التأمل الذي يحرر النفس من وجودها.( ألسنا - جميعا ً - في حاجة إلى الرياضة - أي رياضة - كحاجتنا إلى الطعام والشراب؟!)[c1]تأمل حمار# وفي واحد من أمتع الفصول يتقمص الكاتب شخصية (حمار) وهو يغار من ( الحمير ) الأخرى، لأنها ترى نفسها أفضل منه ، بينما هو يراها لاتفقه شيئاً ! ، وهو يشكو من المهام المتواصلة التي تناط به، إنه يعمل باستمرار ، يظل يعمل ليل نهار ، فلا استراحة ولا أجازة ...حتى يوم ( الجمعة ) لا أجازة فيه.أي حياة هذه ؟! وكما يتبرم من الحمير الأخرى المغرورة يتبرم -على وجه خاص- من صاحبه الذي يستخدمه في حمل الأثقال وجر العربات، وهو أيضاً لايفقه شيئاً.كما أنه قاسي القلب ، ولايسمع - أبداً - كلمة حب منه تخفف عنه عناء اليوم.وكل ما يفعله هذا الرجل الخبيث أنه يغضب عليه ويشتمه بملء فيه.ولكنه حين يبيعه يغير موقفه منه : يربت على ظهره ، ويصفه بشتى الأوصاف وبأنه يمتاز بمؤهلات كثيرة ، وينتمي إلى سلالة نبيلة وأصيلة.وفي أثر هذا يقول هذا الحمار إن كل ما يتمناه أن يكون له سيد جديد..يقدر قدراته، ويقضي معه أيامه بهدوء.وهناك..في الغربة..يلاحظ وجود عدة حمير ، هم زملاء وطنه السابق ، كلهم بؤساء مثله ، لكنهم يتظاهرون بأنهم في خدمة سيد نبيل..من أجل.. لقمة العيش.وفي لحظة تأمل - وهو يرتع- يقارن بين حاضره الآن المليء بالقيود ، وماضيه الحر المنطلق حينما كان جحشاً صغيراً في أيام الصبا يمتطيه كل صغار المدينة من الصباح وحتى أوائل منتصف الليل.وينتهي إلى لحظة تأمل أخيرة مليئة بالمرارة وكأنه يرثي نفسه ولم يعد يملك سوى الذكريات ، وكأن ذاكرته قطار ينساب في ذاكرة الزمن ، يجر عرباته المتثاقلة المحملة بالتكثيف السريع للحياة. هكذا يشعر الكاتب في غربته، وحسناً فعل ، وليس هذا منفصلا عن الموضوع ، فإنسان العصر الحديث - في ترحاله وتجواله - يجد في نفسه هذا الكيان المقهور ليل نهار وسط كيانات أقل كفاءة منه ، ولكنها تصل أسرع وتأخذ أكثر ، وهو إذ يفعل ذلك تقوم على أكتافه الحضارة المعاصرة حين يحمل لبنائها آلاف أحجار البناء دون أن يذكره أحد بشيء ، وفي نفس الوقت يقدم الكاتب إسقاطه الخاص في هذه الغربة بوصفهرحالة غير منقطع الجذور عن وطنه الأم. وأثناء كل هذا يطعم الكاتب كتابه ببعض الحكم والأمثال التي ترسخ في الذاكرة ، لتصنع- في المقابل - ذاكرة الحقيقة المبجلة.من ذلك : ( لكل صعود نزول فجواد السباق الذي كان أنفه دائما في السماء أصبح ينهزم مرة بعد مرة ) ومثل : (إذا وجدت الفرصة فإنها آخر فرصة ، وإن ضيعتها فلن تجد أية فرصة أبداً) وإذا كانت الأولى تدعو إلى كبح جماح الغرور ، فإن الثانية - في المقابل - لاتضع للطموح حدوداً · وهي ثنائية لايقدر عليها إلا أولو العزم..بهذا الشكل نركب وراء الكاتب صهوة قلمه ونحن مسكونون بقدسية الحقيقة وذاكرة الخيال المبجل.
أخبار متعلقة