[c1]د. وحيد عبد المجيد :[/c]لا يكفي المرض النفسي أو التخلف العقلي لتفسير الازدياد المستمر في عدد النساء اللواتي ينفذن عمليات انتحارية في العراق. ربما كان قبول هذا التفسير الذي اعتمدته السلطات الأمنية العراقية وكرره أكثر من مسؤول فيها، جائزاً حين كانت هذه الظاهرة في بدايتها العام الماضي. ففي ذلك العام لم يزد عدد الهجمات التي نفذتها نساء انتحاريات على ثماني عمليات.وهذا عدد صغير يسهل تفسيره، أو بالأحرى تبريره بطريقة تحيل المشكلة إلى الحالة العقلية أو النفسية للمرأة التي تقدم على العمل الانتحاري، بدلاً من فحص وتحليل دوافعها في الواقع.لكن عندما تضاعف هذا العدد لأكثر من خمس مرات خلال الشهور الثمانية الأولى في العام الجاري، يصبح الأمر في حاجة إلى تفسير أكثر عمقاً. ويتيح ضبط فتاة يوم 24 أغسطس الماضي، قبل تنفيذها عملية انتحارية، فرصة لفهم ظاهرة تتنامى اعتماداً على حالة واقعية هي الأولى من نوعها. ففي الحالات السابقة بدا الأمر كما لو أننا إزاء أشباح، إذ لم يُعرف عنهن سوى إقدامهن على تفجير أنفسهن، من دون إشارة إلى هويتهن وظروف وملابسات انتحارهن، وإن كانت البيئة الاجتماعية السياسية في محافظة ديالي التي تعتبر المفرخ الأساسي لهذه الظاهرة، قد أعطت مؤشرات على ذلك.ولهذا تعتبر المدعوة «رانيا مطلك العنبكي» هي الحالة الأولى التي لا يُدفن سرها مع الأشلاء التي تتطاير إبان تنفيذ العملية الانتحارية. وتؤكد المعلومات التي أدلت بها وسمحت السلطات العراقية بنشرها أننا إزاء ظاهرة جديدة حقاً آخذة في التشكل في ثنايا الواقع العراقي الاجتماعي السياسي الديني، وأن حديث المرض النفسي والتخلف العقلي هو نوع من التفسير الخرافي لها أو الاستثنائي في أفضل الأحوال، مثله مثل ما قاله مسؤول أمني في محافظة ديالي وهو أن «رانيا كانت تتجه لتنفيذ العملية الانتحارية بتأثير مخدر»!.فهذا كلام يتعارض مع جوهر ما أفادت به الفتاة وسمحت السلطات العراقية بنشره، وهو أنها تنتمي إلى عائلة وثيقة الصلة بتنظيم «القاعدة». فقد قُتل والدها قبل حوالي عام ونصف العام أثناء تنفيذه عملية انتحارية في منطقة أبو صيدا. أما والدتها وخالتها فتقومان بتجنيد الانتحاريات في وسط بعقوبة.وهذه حالة واضحة تماماً يسبق التنفيذ فيها تخطيط وإعداد وتدبير في بيئة اجتماعية مغلقة على نحو يجعل من السهل شحن المرشحة للقيام بعملية انتحارية.وتدل المعلومات المتوفرة عن العمليات التي نفذتها انتحاريات على أنهن فعلن ذلك بإرادة كاملة، على نحو يفيد أنهن كن على اقتناع بما أقدمن عليه. وقد ظهر عدد من النساء اللواتي تعتبرن «مشاريع انتحاريات» في شريط مصور تم توزيعه في العراق العام الماضي، ليقلن إنهن يدافعن عن الإسلام وحرمته ويرفضن الوقوف مكتوفات الأيدي تاركات الشباب والكهول يدافعون عن الوطن.وفي إحدى هذه العمليات التي وقعت في 17 فبراير الماضي بحي الكرازة وسط بغداد، أظهرت الانتحارية قدرة عالية على المناورة عندما فرت من جنود اشتبهوا بها قرب نقطة تفتيش، وفجرت نفسها على الفور في متجر صغير مما أدى إلى تواضع «الحصيلة» حيث اقتصرت على ثلاثة قتلى وأربعة مصابين.وهذا يكفي لإسقاط التفسير الذي يذهب إلى ربط العمليات الانتحارية النسائية بمرض عقلي أو نفسي. فمؤدى هذا التفسير أن النساء الانتحاريات يتعرضن للتغرير بهن، وهو ما لا ينسجم مع ملابسات العمليات الجاري تنفيذها منذ العام الماضي بالطريقة نفسها تقريباً، وهي ارتداء حزام ناسف، بينما اقتصر الأسلوب الذي يمكن أن يدل على وجود تغرير، وهو التفجير بنظام التحكم عن بعد، على عمليتين نُفذتا بالتزامن في الأول من فبراير الماضي. وكانت إحداهما في السوق الرئيسية للطيور والحيوانات قرب وسط العاصمة، والأخرى في سوق شعبية في ضاحية بغداد الجديدة.وفي هذا النوع من العمليات التي يحدث فيها التفجير عن بعد، يجوز افتراض أن المرأة هي مجرد أداة تنفيذ وليست منفذة عن وعي وإدراك واقتناع، وأنها قد تكون مضطربة عقلياً أو نفسيا على نحو يسمح باستخدامها على هذا النحو.غير أن الطابع الغالب على عمليات التفجير النسائية ليس كذلك، وإن كان القائلون بفكرة أن الانتحاريات يتعرضن للتغرير بهن يدفعون بأنه يصعب إثبات حدوث التفجير عن بعد لأن الانفجار الهائل الذي يحدث يؤدي إلى تدمير كل التفاصيل المرتبطة بالجهاز الذي يُفجِّر الحزام الناسف مما يحول دون التيقن مما إذا كانت الانتحارية هي التي ضغطت على زر الجهاز بنفسها، أم أن هذا حدث عن بُعد.غير أن هذا الدفع يفتقد إلى دليل يسنده، ولا يكفي بالتالي للتشكيك في خطورة ظاهرة المرأة الانتحارية أو «حريم القاعدة»، وخصوصاً حين يتبين أن هناك نساء مخططات لهذه العمليات الانتحارية أيضاً.ولم تكن سعاد ووجدان الخزرجي (والدة وخالة رانيا التي ضُبطت قبل تنفيذ عملية انتحارية) هما أول امرأتين يُكشف النقاب عن دورهما في تجنيد انتحاريات والتخطيط لعمليات تقوم المجندات بتنفيذها. فقد ثبت أن بعض المعتقلات قمن بتجنيد انتحاريات في داخل أحد السجون على الأقل، وأن المجندات نفذن عمليات بعد التحاقهن بالتنظيم فور إطلاق سراحهن.وتوفر الظروف البائسة في العراق للقائمات بالتجنيد فرصاً كبيرة للنجاح عندما يركزن على فتيات وسيدات بسيطات يعانين فقراً مدقعاً أو قُتل أزواجهن وأبناؤهن وترغبن في الانتقام والقصاص. وتصبح المهمة أسهل حين تكون المستهدفة فقيرة بائسة ومكلومة في الوقت نفسه لفقد الابن أو الزوج، الأمر الذي يجعلها في حالة يأس كامل. ويؤدي ذلك إلى زيادة استعدادها للتأثر بالضغوط، خصوصاً وأن البيئة الاجتماعية التقليدية في المناطق الريفية بمحافظة ديالي التي جاء منها معظمهن تجعل النساء تابعات لا يتمتعن بأي حقوق.ويضاف إلى ذلك ما ترتب على توطن «تنظيم القاعدة» في هذه المحافظة منذ طرده من الأنبار عام 2004. وقد اتجه التنظيم إلى تشجيع انخراط نسائه وكل من يمكن تجنيدهن في «الجهاد» بعد الضربات القاسية التي تعرض لها وفقد فيها الكثير من أعضائه وكوادره الرجال الذين بات صعباً تعويضهم بعد أن انقلبت عليه الكثير من العشائر السُنِّية على نحو حرمه من المتطوعين والملاذ الآمن. ولعل هذا يفيد في تفسير إقدام انتحاريات على تفجير أنفسهن في أهداف ذات صلة بالصراع المذهبي الذي خاضه تنظيم «القاعدة» أيضاً في العراق ضد الشيعة الذين يُطلق عليهم «الرافضة». فقد كانت «القاعدة»، وما زالت، هي وحدها التي ناصبت الشيعة في العراق العداء العلني واستهدفتهم جهاراً نهاراً.ومن أكثر هجمات الانتحاريات إغراقاً في المذهبية، وأشدها إيلاماً في الوقت نفسه، تلك التي قامت بها ثلاث منهن في حي الكرازة في 18 يوليو الماضي، حين هاجمن مسيرة للشيعة المتوجهين سيراً على الأقدام إلى مدينة الكاظمية شمال بغداد لإحياء ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم، مما أدى إلى مقتل 25 شخصاً وإصابة أكثر من مائة. ولم تمض ثلاثة أسابيع حتى نفذت انتحاريتان أخريان عمليتين في 14 أغسطس في بلدة الإسكندرية بكربلاء ضد زوار قدموا إليها لإحياء ذكرى ميلاد الإمام المهدي، وهو الإمام الثاني عشر لدى الشيعة، مما أدى إلى مقتل 22 وجرح 73 شخصاً.وهكذا ترتبط ظاهرة الانتحاريات العراقيات بظروف اجتماعية سياسية يمكن إدراكها وفهم أبعادها دون حاجة إلى الكشف على حالتهن العقلية والنفسية، مثلهن في ذلك مثل نساء أقدمن على الانتحار العقائدي السياسي قبلهن في مناطق أخرى من العالم مثل الشيشان. فقد قامت الانتحاريات بدور بالغ الأهمية في المعركة ضد القوات الروسية، ورأينا صورهن التي تظهرن فيها ملثمات بالأسود لا تظهر منهن سوى أعينهن في عمليات غير انتحارية أيضاً مثل عملية احتجاز الرهائن في مدرسة للأطفال في بيسلان قبل أربع سنوات.ويجمع بين الانتحاريات العراقيات والشيشانيات أن التنظيمات التي تحتاج إلى مشاركتهن وتعتمد عليهن لا تحفل بهن فيبقين مجرد أرقام لا أسماء لهن، بخلاف مثيلاتهن في صفوف ثوار التاميل في سري لانكا، واللاتي حققن معدلات قياسية في العمليات الانتحارية لا يمكن أن يباريهن فيها غيرهن، ونفذت انتحاريات نسبة تتراوح بين 30 و40 في المائة منها.[c1]*عن/ صحيفة «الاتحاد» الإماراتية[/c]
|
اتجاهات
«حريم القاعدة» الانتحاريات: لماذا وكيف ؟
أخبار متعلقة