كتاب (محمد عابد الجابري)
نهله عبدالله دارت قبل سنوات مناقشة حامية حول (نقد العقل العربي) كتاب الدكتور (محمد عابد الجابري) وكانت هذه المناقشة بين الكتاب والنقاد ورجالات الأدب والصحافة والتاريخ والدارسين، لأن الكتاب يطرح أكثر من قضية تستحق التوقف والنقاش.ورأيي هو أن القراءة والجدل وإجراء المزيد من الحوار لتكوين العقل العربي هو الموضوع الذي يجب أن يناقش عن طريق أمرين أساسيين:-أولهما طبيعة موضوع المعالجة وثانيهما مكانة المؤلف في مجال الأبحاث المتعلقة بقضايا الفكر العربي.وهو الأمر الأكثر اشتعالاً في المنطقة العربية.وقد يكون من المفيد أن نبحث في أهمية الكتاب :-إلى جانب الاهتمام الكبير الذي يبديه الكاتب العربي (محمد عابد الجابري) بمصير مكونات العقل العربي إلا أنه يشكل جزءاً من نقد الفكر العربي الذي يحظى بتأييد مطلق في الكتاب، فإن هذا الاهتمام ينبع أيضاً من أمرين أساسيين أولهما:-طبيعة الموضوع الذي يتصدى لمعالجته وثانيهما الموقع الذي يحتله المؤلف في مجال الأبحاث المتعلقة بقضايا الفكر العربي، خصوصاً وإن هذه الرؤية العامة يحاول الكتاب تفسيرها بنقد مكونات العقل والفكر العربيين أمام ركام المدح الفارغ والإسقاطات المتغربة.وإذا سلمنا بأن أهمية هذا الكتاب لا تلغي مسألة نقده وذلك بسبب الفكرة التي تطرح أكثر من قضية مثيرة تستحق التوقف والجدل، إلا أن هذا الجدل أريد له أن لا يخرج عن إلقاء المزيد من الحوار خاصة وأن الباحثين في هذا المجال يعرفون جيداً عدم رضى كثير من الأطراف نقد مواضيع هي من صلب صنع القمع وقد يجر هذا الحوار إلى ما يهدد أمن الآلية القمعيةعندنا.وكذلك تخشى هذه الأطراف أن يؤدي هذا الجدل إلى (نقد العقل العربي) وهو الأمر الذي تلوح بوادر الخلاف حوله بين الحين والآخر ثم تتراجع إلى نقطة من المخاوف التي تنتقد عقل الحاكم والذي يعتبر مسألة نقده عملاً عدوانياً موجهاً ضد الأمة.وكأنه لم تعد هناك ضرورة على ما يبدو للنقد كخدمة إعلامية أو بديلاً مغرياً من المديح، أو التعالي على الفكر كرد فعل قبلي.يقول الجابري في مقدمة الكتاب :-إن موضوعه (كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة، لأن نقد العقل جزءاً أساسياً وأولي من كل مشروع للنهضة، ولكن نهضتنا الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى).ويبقى السؤال الجوهري هو عن أية نهضة يتحدث المؤلف ومواردنا كلها لا توفر الإكتفاء الذاتي من الغذاء، بل ظروفنا الزراعية خاصة تجبرنا على الإنخراط بتبعية الدول الغربية، أطنان من الغلال واللحوم والألبان نستوردها بوفرة وبشروط مغرية بل ويرسل الخبراء والمستشارين بأعداد ضخمة بهدف إقامة العلاقات والحفاظ على (برستيج) التبعية بغطاء التدريب والتطبيق.وليست الصورة أفضل بكثير من الميدان الصناعي فقد تزايدت الأدلة على أن الأبحاث الفوقية والناتج الرعوي قد أنتهى عهدها إضافة إلى اتباع سياسة تهديم البنى التقليدية مثل القضاء على الحرف، التعليم الكتابي لصالح التعليم المستورد فأصبحت الصناعة غير قادرة على منافسة الصناعات الأوروبية والعالمية.كل هذه الأمور أدت إلى نتائج وخيمة شكلاً ومضموناً لأن العصا السحرية التي تمسك بمفتاح النهضة المطلوبة فشلت كل توقعاتها ولهذا السبب بدائلها معاقة،. ولم يعد لديها أمل في تحقيق التفوق الصناعي، في ظل تلبية حاجات قطاعات الخدمات والاستيراد الكمالي، وخدمة صيانة المستورد، والإدارة القمعية. فأي نهضة عن طريق التخريب والتهريب والتبعية واحتمال وقوع الحرب بدلاً من أبعادها في أكثر من موقع، فلسطين، لبنان، السودان، والآن سوريا وإيران!؟..هناك نظرية على قدر من الصحة تقول :- إنه مع تعاظم التفكك المجتمعي قبلياً واثنياً وطائفياً ومذهبياً يعبر ذلك عن انعكاس لتفكك الاقتصاد، وقد أصبح هذا الأمر واضحاً للغاية في أرقام ديوننا الحالية وهل يقبل التغني بأمجادنا وحضارتنا والبقاء على اطلالنا أن يسدد من خلاله هذه الديون التي تزايدت أرقامها على مجموع عدد الغنائيات والبكائيات؟إضافة إلى وجود مشكلات ومعضلات داخلية خطيرة تتمثل بسوء استخدام طراز الأبنية الصارخة وإتباع الموضة والاستعراضات العسكرية وشراء الأسلحة إلى درجة عجزت فيها المستشفيات عن تأمين العلاج الطبي اللازم لإنقاذ ضحايا الحروب والنزاع المسلح وإنتشار المخدرات بأضعاف ما صودر منها إلى جانب ما يتم تصريفه إلى المدنيين وبشكل فعال.والمشاكل العامة التي تواجهنا الآن في تفشي الإجرام والهيرويين والتجسس والاتهامات القذرة، والانتقاص من سمعة الديانات.فهل تتضمن هذه النهضة شروط وجودها الصارخ والفاضح باعتبارها (تقدماً) لا يعني على المدى الطويل أي شيء آخر سوى التخلف في مستنقع التبعية؟إذن من غير المرجح أن ينطلق القول في نقد العقل العربي منذ مائة سنة والأحداث التي تدور في بلادنا العربية لا تحتاج إلى مزيد من التوضيح، كما ليس من الصعب أن يجد المرء أمثلة أخرى للتدليل على ذلك بشأن الواقع الذي لا يعبر عن أي نهضة ووطأة معضلاتها الكثيرة قد تنسف قدراً كبيراً من النهضة التي يعتمد عليها إعلامنا..لهذا السبب من الضروري أن تسبق هذه النهضة شروطها التاريخية وأقصد بالطبع سيادة العقلانية ودحر التعامل القمعي مع الشعوب والتغني بالديمقراطية من دون وجود أقنية لحرياتها.ثانياً أن طبيعة الإنطلاق من القاعدة النقدية ينبغي أن تكون قادرة على المواجهة مع الآخر من واقع يستمد قوته من ثقافته وحضارته - بالملموس وبالقدر الذي يساعدنا على البقاء في الحياة بكرامة من دون تبعية أو إمتهان - من ضعف النزاعات والزيادات السكانية والفقر وعدم الاستقرار الداخلي. أما ورطة النقد الممغنط بالأثر الثقافي الأوروبي فقد ظهرت على السطح فقط وبشكل مركز وواضح لأنها ورطة أوروبية، فأوروبا اخضعت واباحت كل شيء للنقد وهي اتجاهات عربياً لا يجرؤ على المطالبة بتطبيقها ثانياً احتمالاتها غير مضمونة، إضافة إلى وجود خلافات واختلالات عميقة في السياق التاريخي والسياسة تتسم بعدم مصداقيتها الديمقراطية وإن وجدت بعض الحريات إلا أنها غير مستعدة لمناقشة قضايا كثيرة ومعقدة.وهكذا لم يعد الخطر الرئيسي على الإنطلاق في نقد العقل العربي فحسب وإنما في تلمسه فعلاً لتكوين العقل العربي.