لا تحتاج القراءة الفاحصة لملامح وتناقضات المشهد السياسي والإعلامي الراهن على نحوٍ ما إلى جهدٍ كبير لإدراك حجم التحديات التي تواجه الخطاب السياسي الإعلامي لوسائل إعلام الحزب الحاكم في ضوء الاختلالات والإشكاليات السالف ذكرها.بيد أنّ مواجهة هذه التحديات لا يمكن اختزالها بالبحث عن معالجات فوقية أو شكلية للنهوض بالخطاب الإعلامي الرسمي والحزبي والأهلي وتطوير أدائه وأساليبه ومضامينه في الحالات التي تشهد صراعاً يتجه إلى تأزيم المُناخ السياسي في البلاد. ذلك أنّ أحزاب المعارضة المنضوية في إطار تكتل ((اللقاء المشترك)) تلجأ غالباً إلى خيار صناعة وإدارة الأزمات في الظروف التي تجد نفسها بحاجة إلى إعادة تنظيم قواها ، و تجاوز صدمات الخيبة والهزيمة بعد كل فشل يصيبها في المباريات الانتخابية ، والاستعداد لجولات انتخابية عندما تقترب مواعيدها، دون أن يعني ذلك تراجعاً عن إستراتيجيتها الأساسية أو تعديلاً لها ، والمتمثلة بتهيئة التربة والمُناخ اللازمين لإنضاج فرص إضعاف السلطة وعزل الحزب الحاكم عن مصدر قوته المتمثلة بجماهير الناخبين الذين منحوه ثقتهم، والسعي إلى سحب هذه الثقة عبر التشكيك بأداء وسياسات الحاكم المؤتمر الشعبي العام وحكومته، و تسويق الاتهامات التي تشكك بنزاهة وأهلية وكفاءة أداء حكومة الحزب الحاكم ومؤسساتها . صحيح أنّ أحزاب ((اللقاء المشترك)) تحرص على استخدام مختلف الوسائل التي تتيحها العملية الديمقراطية لتحقيق إستراتيجيتها، وتأتي في صدارة هذه الوسائل ماكنة الدعاية والتحريض التي تشتغل على خطاب دعائي تحريضي ينطوي على رسالة لا صلة لها بمحددات البيئة الإعلامية المحلية ووظائف النظام الإعلامي الوطني وأدوات وقيم الحرية الإعلامية بما هي ثقافة سياسية مدنية، وهو ما يفسر اعتماد الماكنة الاعلامية لأحزاب ((اللقاء المشترك)) على تسويق خطاب دعائي ، طافح بالمكايدات والاتهامات الباطلة والأكاذيب وعاجز عن بناء قيم أخلاقية وتقاليد مهنية، بقدر عجزه عن استخدام منظومة من الأدوات المؤسسية والأساليب الإبداعية التي تساعد على تحسين البيئة الإعلامية المحلية ، وتطوير النظام الإعلامي الوطني وتجسيد قيم الحرية الإعلامية وثقافتها. بهذا المعنى يمكن القول إن المخرجات السلبية لماكنة الدعاية والتحريض التي تنخرط في تشغيلها صحافة أحزاب ((اللقاء المشترك)) ، تلعب دوراً سلبياً ومدمراً لا ينحصر تأثيره في مضاعفة المصاعب والعوائق التي تحول دون تطوير البيئة الإعلامية المحلية، وتأهيلها لمواكبة التحولات الجارية في البيئة الإعلامية العالمية والاستجابة لتحدياتها والانفتاح على قيمها وأدواتها وأساليبها، بل إنّ الآثار السلبية لتلك المخرجات تتجاوز ذلك الى مدى بعيد ، من خلال الدور الذي تلعبه في تأزيم الحياة السياسية ، والمراهنة على استغلال مصاعب النمو ومشاكل الفقر والبطالة ضد النظام السياسي ومرتكزاته الدستورية ، في سياق لعبة عمياء تنتقل بلاعبيها من موقع المعارضة بوصفها الوجه الآخر للنظام الديمقراطي إلى مواقع المجابهة والصدام بهدف إسقاط النظام ، الأمر الذي يدفع بالمعارضة باتجاه الخروج عن قواعد العملية الديمقراطية وثقافتها السياسية التي تقوم على قيم الاختلاف والقبول بالآخر، وصولاً إلى التماهي مع ثقافة سياسة الغائية واقصائية تدعو إلى الثورة الشعبية ، وتمهد لتقويض أسس الشرعية الدستورية والشراكة الوطنية ، وما يترتب على ذلك من مخاطر مدمرة تهدد حاضر ومستقبل الدولة والمجتمع والوطن. اللافت للنظر أنّ أحزاب ((اللقاء المشترك)) تحرص على الظهور دائماً في صورة المدافع عن الوحدة والديمقراطية، والمناهض للظلم والاستبداد والفساد . كما تحرص هذه الأحزاب على التظاهر بالانفتاح على المجتمع المدني ووسائل الإعلام الخارجية وسفارات الدول الأجنبية ومنظماتها غير الحكومية التي تنشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وتسويق برامج نشر الديمقراطية في اليمن وبلدان الشرق الأوسط بتمويل وتوجيه مباشرين من حكوماتها!! في الاتجاه نفسه تحرصُ هذه الأحزاب على إخفاء تناقضاتها من خلال توزيع الأدوار فيما بينها من جهةٍ، وبين الأجنحة المتصارعة داخل كل حزبٍ على حدة من جهة أخرى، طمعاً في الحصول على مصادر داخلية وخارجية لشرعية حراكها السياسي، والتمويه على أجنداتها السرية القابلة للانكشاف والانفجار فور وصولها إلى السلطة. يوحي تحليل مضمون الخطاب السياسي والإعلامي لهذه الأحزاب ، بما في ذلك بيانات هيئاتها القيادية وتصريحات وكتابات ناشطيها الميدانيين ، بأنّ هذه الأحزاب تراهن من الناحية الشكلية على استثمار تمددها الميداني داخلياً وخارجياً ، من أجل تجديد وتنويع مصادر شرعيتها بعد نقل مركز ثقل نشاطها المعارض من المؤسسات الدستورية للدولة والمجتمع ، إلى الشارع المفتوح على كل الاحتمالات و الوسائل والمطالب والمشاريع والرياح والأشباح بكل الاتجاهات المشروعة وغير المشروعة. بيد أنّ مضمون هذا الخطاب يشير من الناحية الموضوعية إلى مراهنة هذه الأحزاب على توظيف ما تتوهم أنّها مصادر شرعية إضافية بهدف إنتاج نسخة يمنية لثورة شعبية سلمية من طراز ((الثورات البرتقالية)) التي اجتاحت جمهوريات الاتحاد السوفيتي والاتحاد اليوغسلافي ، وبلدان أوروبا الشرقية في تسعينات القرن العشرين المنصرم، وتمكنت من إسقاط النظم والأحزاب الحاكمة في تلك البلدان عبر الشوارع بعد نجاحها في تحييد المؤسسات الإعلامية والعسكرية والأمنية الرسمية ، على اثر مصادمات محدودة بين الأجهزة الأمنية والمتظاهرين والمعتصمين في شوارع بعض المدن ، حيث عملت النخب المشاركة في تلك الثورات البرتقالية على استثمار ضحايا تلك المواجهات بممارسة ضغوط سياسية وإعلامية على المؤسسات الأمنية ، وتحييدها لاحقاً!! ومما له دلالة ان المعارضات المدعومة من الخارج في أوروبا الشرقية ودول البلقان نجحت في تفجير ثورات برتقالية بالوسائل السلمية المدنية بفعل غياب الأحزاب الشيوعية عن الشارع وإدمانها الطويل على العمل السياسي والجماهيري بآليات الدولة والأساليب الإدارية والبيروقراطية . لكن هذا النمط ( الثوري البرتقالي ) لقي فشلا ذريعاً في فنزويلاً عندما نزلت المعارضة الى الشارع في شكل مظاهرات واعتصامات استهدفت اسقاط الرئيس الفنزويلي المنتخب ، وكان العامل الرئيسي في فشل الثورة البرتقالية السلمية في فنزويلا هو قدرة الرئيس الفنزويلي المنتخب وحزبه الحاكم الذي وصل الى السلطة عبر صندوق الاقتراع على النزول الى الشارع ومواجهة المعارضة المدعومة من الخارج بذات الآليات السلمية والمدنية التي حاولت المعارضة استخدامها لتحقيق أهدافها . مما له دلالة ان التجمع اليمني للاصلاح هو أكبر أحزاب المعارضة المنضوية في إطار (اللقاء المشترك ) والقوة المحركة لها في الميدان . ولما كان الاخوان المسلمون هم الذين يقودون التجمع اليمني للاصلاح ويختفون تحت عباءته ، فقد استفادت أحزاب (اللقاء المشترك) بقيادة حزب ( الاصلاح ) من الخبرة التاريخية لتنظيم الاخوان المسلمين الذي أدمن على استخدام كل الوسائل التكتيكية والتحالفات الانتهازية مع النخب السياسية الحاكمة أو المتنفذة في العالم الاسلامي في القصور الملكية والجمهورية أو المعارضات المحركة للشوارع ، بما في ذلك استثمار عجز النخب الحزبية الحاكمة في بعض البلدان العربية عن استخدام آليات المجتمع المدني بسبب إدمانها الطويل على العمل السياسي من خلال آليات الدولة والسلطة التي كانت تقوم على دمج وظائف الدولة بوظائف الحزب الحاكم. وقد أدى ذلك الفراغ إلى تمكين المعارضات العربية من التأثير المتزايد على مزاج الشارع في معظم البلدان العربية، وتحت واجهات تخدم هدف الوصول إلى السلطة.. فليس خافياً على أحد أنّ الاخوان المسلمين تحالفوا مع القصور الموالية للاستعمار من أجل المشاركة في الحكم، كما تحالفوا مع القوى والأحلاف الاستعمارية ضد أنظمة الحكم التي قادت ثورات وطنية وقومية وتحررية على غرار ما يحدث في اليمن حيث يختفي الاخوان المسلمون تحت واجهة حزب ((الإصلاح)) الذي يتخذ من أحزاب ((اللقاء المشترك)) واجهة إضافية للانخراط ضمن برامج نشر الديمقراطية التي تمولها البلدان الكبرى لأهداف سياسية، وذلك لضمان تحقيق المشروع السياسي الاستراتيجي للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي يرى إن مشروع إعادة نظام الخلافة بما هو المشروع الاستراتيجي ((للإخوان المسلمين)) لا يمكن تنفيذه من دون الوصول إلى السلطة في أي بلدٍ إسلامي، وقد دفع ((الإخوان المسلمون)) أثماناً باهظة نتيجة الوهم المفرط بإمكانية تحقيق هذا المشروع بمختلف الوسائل والتحالفات التكتيكية، وهو مشروع لا يخلو من أوهام الطوباويات الثورية والاصلاحية القديمة والمعاصرة التي حاولت تغيير العالم في عصور مختلفة من التاريخ القديم والحديث. وفي الحالة اليمنية، تبدو بوضوح ملامح المراهنة على تعلم خبرات ((الثورات البرتقالية)) من خلال القيام ببعض الأعمال الخارجة عن القانون، بما فيها حملات التشكيك المسعورة ضد وسائل الاعلام الرسمية ، والاستفزازات التي تستهدف أجهزة الأمن بهدف جرِّها إلى مواجهات يسقط على إثرها بعض القتلى والجرحى، ثمّ استثمار أولئك الضحايا لتدوير وتوسيع حالة المجابهة في الشارع من خلال تنظيم اعتصامات وفعاليات ميدانية جديدة ومتواصلة تطالب بمحاسبة أجهزة الأمن. وعندما تصبح أجهزة الأمن هدفاً مباشراً للحراك السياسي المعارض عبر الشوارع، تحصل أحزاب ((المعارضة))، على حوافز جديدة لتصعيد هجومها السلمي على السلطة سواء من خلال المراهنة على استدراج أجهزة الأمن لمزيدٍ من المواجهات المباشرة مع فعاليات الشوارع السلمية ، الأمر الذي يسفر عن مزيدٍ من الضحايا، ومزيد من المفاعيل الإضافية للحراك السياسي المعارض في الشارع على نحو يدفع اما إلى المراهنة على امكانية تحييد الأجهزة الأمنية وتمهيد الطريق للانقلاب السلمي على السلطة على نحو ما حدث في أوروبا الشرقية، ، أو المراهنة على تدويل الأزمة الداخلية بهدف الحصول على تدخل خارجي ضاغط لصالح المعارضة كما حدث في السودان ودول البلقان. يعلّمنا هذا التاريخ أنّ الاستراتيجيات الرامية إلى تحقيق أهداف عظيمة ومشاريع كبيرة بحجم الإصلاح الوطني الشامل الذي تتظاهر بالدعوة إليه أحزاب ((اللقاء المشترك)) تتطلب وسائل بناء.. وقادرة على مراكمة انجازات تنطوي على قيم ثقافية وأخلاقية تحفز على البناء بدلاً من الهدم. وبالنظر إلى مخاطر المشهد السياسي الراهن بما هي الوجه الأبرز لمخرجات الوسائل التكتيكية التي تستخدمها أحزاب ((اللقاء المشترك)) من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية، فإنّ تحديات هذا المشهد تقتضي صياغة رؤية استراتيجية شاملة ذات أبعادٍ سياسية وثقافية وإعلامية تستوعب هذه التحديات ومخاطرها الجدية، وهي بدون أي شك مهمة وطنية ملحة تنتصب أمام كافة القوى السياسية والنخب الفكرية التي تمتلك مشروعاً سياسياً وطنياً نهضوياً، يعززه رصيد من الإنجازات التي ارتبطت بتحولات عظيمة في تاريخ اليمن الحديث وحركته الوطنية المعاصرة. وهو ما لا يمكن تحقيقه بدون امتلاك رؤية استراتيجية قادرة على بناء ثقافة سياسية جديدة تُعيد صياغة الوعي الاجتماعي ، بما يُساعدُ على تجاوز مختلف عوامل الكبح التي تُعيق عملية بناء الدولة الوطنية الحديثة، وتُعيد انتاج نقيضها، وتدمر الإنجازات العظيمة التي حققها المؤتمر الشعبي العام بهدي مبادئ وأهداف الثورة اليمنية. [c1] * عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
تحديات الحالة السياسية الراهنة
أخبار متعلقة