أضواء
المرأة موءودة في سياق الثقافة العربية، تلك الثقافة المحكومة منذ القدم وإلى اليوم بالمبدأ النفعي الذي يمتهن الإنسان. هذا الوأد قد يكون وأداً علنياً على مستوى الواقع ، كما قد يكون وأداً ثقافيا على مستوى الأمنيات الصريحة ، أو الأمنيات الضمنية التي لا تكتشف إلا بواسطة تحليل التجليات الثقافية المتنوعة ؛ لاكتشاف ما تضمره أنساق الثقافة من أعطاب .إن هناك تحيزا ( إلغائيا ) ضد المرأة ، هناك حالة وأد تجري باستمرار . إنه هذا الوأد الذي يلغي المرأة على مستوى المعنى ، وهو ما نراه واضحا وجليا في كل حقول الثقافة التقليدية ، أقصد الثقافة الرائجة التي يستهلكها الضمير العام للأمة ؛ فينتج عن ذلك أن تصبح هذه ( الأمة المجيدة ) أمة يَئد بعضُها بعضاً ، من غير أن يرافق هذه الجريمة الكبرى أي شعور بأن ثمة جريمة مُعلنة تجري بحق الإنسان، لأن الثقافة اللاإنسانية عندما تطغى بقوة زخمها التقليدي، تستطيع أن تبرر أية جريمة ، وأن تطبع ما ليس بالطبيعي ، بل وأن تُعقلن ما ليس بالمعقول، حتى ولو بلغة الجنون التام . الوعي بالإنسان هو وعي تطوري يتراكم عبر التاريخ . ولهذا ، يقف الوعي التقليدي الرافض لمبدأ التطور كأحد أهم عوائق الوعي بالإنسان . ثقافة التقليد لا تستمد وعيها بالإنسان من خلال أحدث وأهم التطورات في عالم الإنسان ، والتي كان نتاجها هذا الإنسان المعاصر : إنسان الحرية والحقوق والواجبات والمساواة ، وإنما تستمد وعيها من رؤى تقليدية موروثة عبر تاريخ طويل ، تاريخ اختلط فيه الثقافي بالواقعي البائس ، مرورا باستحقاقات البيئة الصعبة التي تفرض نفسها على الجميع في كل الأحوال . يوصف الشاعر البحتري بأنه شاعر تقليدي، وأنه لم يتأثر كحال بعض الشعراء العباسيين بالثقافات الأجنبية التي راجت في الوسط الثقافي إبان القرن الثالث الهجري . يصف النقادُ البحتريَّ بأنه شاعر تقليدي يسير على طريقة العرب الأوائل ، وأن عالمه الفني بكل قوانينه هو عالم العرب في العصر الجاهلي ، وأنه ما حاد عن هذه الطريقة أبدا . ومعنى هذا أنه شاعر تقليدي ، بقدر ما يستمد الطابع الفني من الأوائل تقليدا، فإنه أيضا لا بد أن يستمد شعر أم لم يشعر- الطابع الثقافي تقليدا ، وأن يكون هو المتحدث الرسمي في وقته بلسان التقليدية الثقافية التي كانت ولا تزال متحكمة بوعي الإنسان العربي إلى اليوم ، والتي جعلته ( = الإنسان العربي اليوم ) في حالة اغتراب دائم عن نفسه وعن عالمه وعن العالم أجمع ، مبررا كل ذلك بأوهام الأصالة والالتزام . هكذا ، بلغة وأدية صريحة لا تخجل من نفسها ، وبلغة نفعية لا إنسانية فيها ، يقرر البحتري ، وبلغة تتماهى مع المقدس ، بأن بقاء البنين نعمة (= مشروع استثماري رابح ) مقابل موت البنات الذي يصبح نعمة (= تصفية مشروع غير رابح ، بل مُكلّف ) وفق رؤية البحتري ، التي هي رؤية الإنسان التقليدي . وهنا نجد أن المحظوظ هو من عاش أبناؤه وماتت بناته . إن شعار الإنسان التقليدي من الجاهلية وإلى اليوم ، الشعار الذي قد يتورع أو يخجل من التصريح به ، لكن البحتري يرفعه صراحة هو : الحياة للأبناء والموت للبنات . تصريح بالوأد ، بل وتشريع للوأد . البحتري الذي أنشد هذا الشعر في محفل عزاء لم ينكر عليه أحد ، ولم تحاسبه الثقافة ، بل أيدته ، وجعلت بيته الشعري حكمة رائعة تزفها للأجيال ؛ لأنها أحست بأنه يعبر بصدق عن مكنونها الثقافي . لتتصور بشاعة وشناعة هذه الرؤية البحترية ؛ لك أن تتخيل ابنة البحتري وهي تسمع هذا البيت : كيف تنظر في عينيّ والدها ، ذلك الشاعر الكبير ، وماذا ترى فيهما ، ألن ترى فيهما توقا دائما إلى الوأد ، ألن ترى الكراهية الأزلية التي لا تستطيع مهما عملت من بر وإحسان أن تمحوها ؟! ، وتبعا لذلك ، ألن تشعر كل فتاة عربية يتمثل أبوها هذه الثقافة التقليدية اللاإنسانية بأنها موءودة باستمرار وفي كل لحظة ، من ولادتها وإلى حين وفاتها ؟!. إن البحتري كشاعر معبر عن روح أمة ، لا يكتفي بأن يشرعن الوأد بالتماهي مع المقدس ، بل هو أيضا يطرح النموذج والمثال للإنسان العربي، كما تتمناه الثقافة التقليدية التي يتحدث باسمها . يقول البحتري : والفتى من رأى القبور لما به من بناته أكفاء ؛ إذن ، الفتى ( = الإنسان النموذج / المثال ) هو الذي يعتقد أن أكفأ زوج لابنته هو ( القبر ) . أي أن الإنسان الذي يتمنى وأد ابنته هو نموذج الإنسان الأكمل في الثقافة العربية التقليدية . وليس من الصعب أن نكتشف أن هذه رؤية متوحشة صادرة عن مبدأ نفعي معادٍ للإنسان من حيث هو إنسان ، بدليل أن البحتري يتبع هذا البيت بما يكشف عن السبب المنطقي لهذه الرؤية في نظره ، فيقول عن البنات : قد وَلدن الأعداءَ قدماً ، و ورثن التلادَ الأقاصي البعداء ؛ البحتري يصرح بأن تلك الرؤية المتوحشة صادرة عن سببين متضافرين : سبب عشائري ( وهو بالضرورة تقليدي نفعي تم التوافق عليه تاريخيا ) يقدس الرابطة الذكورية ، وسبب مالي مباشر ، يتمثل في انتقال المال ، الذي هو مال عصبة الذكور كما في الرؤية التقليدية ، إلى أبناء البنت ، الذين يتم وضعهم في خانة الأعداء . إن ما قاله البحتري هنا ، هو نفس ما قاله أحد ( الحكماء !) العرب لأحد الأمراء عندما رآه يلاعب ابنته ، لقد قال له : « أمطها عنك ، فإنهن يُقرّبن البعداء ويُورّثن الأعداء « . فكل مايرتبط بالمرأة بعيد وعدو وخطر ، بينما كل ما يرتبط بالولد الذكر قريب ونافع وآمن . أبناء البنت ولأنهم ينتمون إلى عصبة ذكورية أخرى ، هم بالنسبة لأب البنت أعداء ، بل هم يرثون هذا الأب بطريق غير مباشر ، رغم كونهم أعداء بعداء !. فمجرد إنجابك لأنثى ؛ يعني أنك ستمنح مالك لأعدائك !، وهذا أشد ما يؤلم الإنسان ، فكيف بالإنسان الواقع في سياق المبدأ النفعي المضاد للإنسان ؟! . ما قاله هذا العربي لأميره ناصحاً، وكأنه ينكر عليه منكرا ، هو نفس ما أفصح عنه الفرزدق ، أحد أعمدة ثقافة التقليد ، من قبل ، فقال : بُنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ؛ هنا نلاحظ حضور المبدأ النفعي ، مقابل غياب أي مبدأ إنساني ، رغم أن العلاقة بين الأب وابنته وما تفرع عنها ، يجب أن تكون علاقة إنسانية خالصة ؛ لأنه في الواقع كذلك . الأبناء الحقيقيون المعترف بهم في نظر ثقافة التقليد / الفرزدق هم : الأبناء وأبناؤهم ، فهم المنتمون ل(شجرة ) العائلة الذكورية ، الشجرة التي تنفي العلائق الأنثوية بكل عنف وإصرار . بينما أبناء البنت لا ينتمون لهذه ( الشجرة ) ، بل هم أعداؤها ضرورة بمجرد كونهم ( أخرون ) بالنسبة إليها ، وكل ( آخر ) بالنسبة إلى أية بنية اجتماعية عرقية ( كما حال البنية العشائرية ) هو : عدو حتما . وهنا نرى كيف أنه لا يجري وأد المرأة فحسب ، بل يجري وأد كل ما تفرع عنها ، أي أن أبناءها الذكور يجري وأدهم ( بنفيهم من حق الأبوة والإرث ، بإلحاقهم بالأعداء البُعداء ) بسببها ، وكأن وجودها جريمة كبرى ، جريمة قادرة على أن تلحق عارها بأبنائها . قد يرى كثيرون أن الإسلام قد حد من جور الثقافة التقليدية، عندما قرر حق الإرث للمرأة ، وأكد عليه بوصفه نصيبا مفروضا . لكن ، يظهر أن الثقافة التقليدية ، حتى في صورها التي لا تستطيع تعطيل هذا الحق ( كما تبدى في بيت البحتري الذي قرر حق الإرث وكرهه في آن ) ، لم ترتح لما قرره الإسلام ، بل لقد جعلها هذا الحق تكره المرأة أكثر ، إذ وبقوة فروض الإسلام ، أصبحت تأخذ نصيبها ، هذا النصيب الذي تراه ثقافة التقليد مالاً مسلوبا يذهب إلى الأعداء ( = أبناء البنت وزجها ) ، أي أن المرأة هنا ، وفق الرؤية التقليدية ، أصبحت أداة للأعداء يصلون من خلالها إلى الاستيلاء على أموال العائلة ، التي هي عائلة الذكور فقط . ولا شك أن هذا الوضع زاد من غيظ ثقافة التقليد النفعية على المرأة ؛ لأنها بإرثها أصبحت عامل استنزاف / خسارة أكثر مما كانت عليه من قبل ، أي قبل أن يفرض لها الإسلام حقها في الإرث الخاص . الآن ، تغيرت الأوضاع ، وتبدل وجه العالم ، وتطورت البشرية ، وأصبحت المرأة وفق المبدأ النفعي أكثر نفعا من معظم الرجال . فبفضل التطورات التي كفلت للمرأة حقوق العمل الكريم ، وبفضل المساواة التي جعلت أجرها مساوياً لأجر الرجل ، وبفضل مجالات العمل التي تعتمد على قوة العقل أكثر مما تعتمد على قوة العضل ، أصبحت المرأة تعود بالنفع على عائلتها أكثر مما يستطيعه كثير من الذكور . [c1]عن صحيفة ( الرياض ) السعودية [/c]