مع الأحداث
كثيراً ما يؤخذ على المعارضات السياسية عجزها عن إحداث التغيير الذي ينتظره الرأي العام. وفي حالات كثيرة تستخدم النظم التسلطية هذا العجز لإقناع الجمهور بأنه لا قيمة للمعارضة ولا جدوى منها... والحال أن المعارضة لا تستطيع أن تكون وسيلة تغيير إلا في إطار نظام ديمقراطي، يعترف بشرعية المعارضة ويحترم حقوقها، لاسيما حقها في الحكم إذا ما نالت أكثرية نيابية. خارج هذا الإطار لا يمكن لحركة التغيير أن تستند إلى المعارضة السياسية، خاصة أن هذه المعارضة تكون سرية أو شبه سرية وبالتالي مقيدة إلى حد كبير. يرتبط تغيير النظم السياسية بالتقاء عاملين: نموذج النظام وسياساته ووضعه العام من جهة، وتحول الأوضاع الدولية وموقعه فيها من جهة ثانية. لذلك تتخذ تغييرات النظم شكل موجات تعكس تحولات عميقة في الأوضاع والتوازنات الدولية؛ ومن ذلك موجة التحول التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وعكست في الوقت نفسه تراجع قوة الدول الاستعمارية الأوروبية من جهة، وفقدان النظم المجتمعية التي أقامتها في مستعمرات أية صدقية من جهة ثانية.كما أنه لا وجود للسياسة من دون معارضة، لا وجود للمعارضة أيضاً ولا مكان لها في مناخ المواجهة والمجابهة والانفجار! وفي سياق الحرب الباردة التي وسعت هامش مناورة الدول النامية، شهدت ستينيات القرن الماضي موجة ثانية من التغييرات استلهمت النموذج السوفييتي والذي بدا آنذاك مثالاً لاستدراك التأخر والصعود إلى مصاف الدول الكبرى. وكان لانهيار هذا النموذج وتفككه أثر كبير على نشوء موجة ثالثة من التغيير، حلت بموجبها النظم شبه الليبرالية في العديد من بلدان العالم النامي محل النظم الأحادية، الاشتراكية أو القومية. لكن القول بأن المعارضة ليست أداة التغيير الرئيسية في ظل النظم الاستبدادية، لا يعني أنها عديمة القيمة أو لا دور لها في التغيير؛ فهي تستمد أهميتها من كونها الوسيلة الوحيدة للتغيير داخل النظم وحفظها من الفساد والانحطاط، وبالتالي ضمان عدم تحول الحكم السياسي، مهما كان نوعه إلى حكم العصبية والولاءات الشخصية المدمرة لروح القانون والعدالة والمخربة للأوطان والأعمال. وهذا ما يفسر وجودها وتعددها وتنوع مشاربها في معظم الدول والمجتمعات. فالمعارضة لا تستمد شرعيتها من مقدرتها على التغيير وقلب نظم الحكم، وإنما من قيامها بوظائف أخرى ضرورية حتى من دون تغيير النظام، بل بسبب امتناع هذا التغيير أو صعوبة تحقيقه. وفي مقدمة هذه الوظائف وأهمها مراقبة الحكومة ومتابعة سياستها، وبالتالي بث حد أدنى من التوازن في السلطة، وبشكل أكبر، عندما يتعلق الأمر بنظم يعكس فيها البرلمان إرادة السلطة التنفيذية ويمثل أداة طيعة في يدها. وتشكل مراقبة الحكومة ونقدها وتحليل سياستها، مدرسة أساسية لتأهيل النخب الاجتماعية والسياسية، المشاركة في الحكم والموجودة خارجه. ومن هذه الوظائف عقلنة حركات الاحتجاج وترجمتها إلى مطالب سياسية يمكن نقاشها والتفاهم حولها. وإلغاء المعارضة أو تغييبها يخلق فراغاً كبيراً لا يمكن لأي حزب حاكم ملؤه لأنه يمثل الحكومة، ولا يستطيع -مهما فعل- أن يعبر عن مطالب وطموحات القوى والفئات الاجتماعية الأخرى التي لا تشارك في الحكم أو التي تتناقض مصالحها مع سياساته الخاصة. والافتقار إلى المعارضات السياسية الشرعية والقانونية يهدد بتحويل أي حركة احتجاج أو اعتراض أو نزاع، مهما كان حجمها ومحدودية مطالبها وضيق مجال انتشارها، إلى ما يشبه الثورة أو التمرد على النظام، بقدر ما يحْرم المجتمع من آلية التوسط التي تمثلها المعارضة بين المصالح الخاصة والعامة. ويشير هذا إلى الدور البنيوي التي تمثله المعارضة في أي نظام، أعني تحويل حركات الاحتجاج إلى مطالب سياسية وتجنيبها الانخراط في منطق الانشقاق والتمرد والمواجهة. فوجود المعارضة هو التعبير الأبسط عن وجود السياسة ذاتها. فكما أنه لا مكان للسياسة ولا وجود لها من دون معارضة، ليس للمعارضة أيضاً وجود ولا مكان في مناخ المواجهة والمجابهة والانفجار؛ فهي صمام الأمان الوحيد ضد احتمال تحول النزاعات الداخلية إلى صراعات وحروب. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا هو الوضع القائم في العديد من البلاد العربية إن لم يكن في معظمها. فبسبب إلغاء السياسة واستبعاد المعارضة أو التنكيل بها وحرمانها من الشرعية، تكاد جميع حركات الاحتجاج الاجتماعية تتحول إلى حركات انشقاق إثنية أو طائفية أو عقائدية. وهو ما يفسر أيضاً مناخ المواجهة التي تعيشه هذه المجتمعات. بل إن المعارضة السياسية نفسها لا تجد، في غياب السياسة، مبرراً لوجودها خارج المشاركة في حركة التمرد والانشقاق وتقمص روحها وجدول أعمالها. وهكذا تفقد المعارضة أيضاً دورها التوسطي والمعقلن للنزاعات الأهلية، لتتحول إلى فريق احتجاج من نوع آخر، يضاف إلى جماعات الاحتجاج الأهلية الأخرى. بتحويل المعارضة إلى حركة انشقاق معزولة عن المجتمع مرتبطة بأجندتها الخاصة، لا أجندة التحول الاجتماعي العام، تضمن السلطة تفريغ النظام الكامل من السياسة وإقفاله تماماً أمام أي احتمال لإعادة إحيائها. وفي سبيل ذلك لا تكف السلطة عن استفزاز المعارضة والتحرش بها لدفعها إلى الدخول في منطق رد الفعل والتحدي والمجابهة، ومنعها من العمل في السياسة وحسب منطق السياسة، أي كوسيط بين المصالح الخاصة المتعددة والمتنازعة وبين المصلحة العامة، وبالتالي كمحول سياسي ومركز استقطاب اجتماعي. وبمقدار ما تنجح في تقويض ديناميكية المعارضة السياسية، تستطيع السلطة أن تفرض على أعضائها صورة المنشقين وتعاملهم معاملة المجرمين، تماماً كما يحدث حالياً في بعض البلاد العربية.وبقبولها الدخول في منطق الانشقاق، سقطت المعارضة في فخ النظام ذاته، ودخلت هي نفسها في هوس القيامة أو الانقلاب الوشيك للأوضاع، فتحولت إلى قوى اعتراض واحتجاج على نظام السيطرة القائم أكثر مما هي معارضات منظمة تعمل حسب أصول وقواعد مرعية ومشروعة. وأصبح مفهوم التغيير شعارها الرئيسي، وهو في ذهنها رديف تغيير النظام أو قلبه، ويطرح عادة كنقيض للإصلاح أو للتغيير الذي يمكن الحصول عليه بالتفاهم والحوار. والواقع أن العجز عن التمييز بين مفهوم المعارضة السياسية ومهامها من جهة، ومفهوم التغيير الجذري للنظام ومهامه من جهة ثانية، يشكل -بالإضافة للقهر الفكري والسياسي الذي تمثله السلطة التسلطية وشبه الإقطاعية السائدة اليوم في البلاد العربية- السبب الرئيسي لفشل المعارضة، بقدر ما وضعها أمام تحد ليس مطروحاً عليها وليست قادرة على رده.لا يمكن للمعارضة السياسية أن تحل محل الثورة أو الانقلاب، كما لا يمكن لأي انقلاب أن يتحول إلى تغيير فعلي للنظام من دون إعداد طويل وعميق للنخب والرأي العام وتغيير مسبق في سلم القيم والأولويات، وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون السياسة وخارج السياسة، بصرف النظر عن طبيعة النظم ووسائل القمع وحجم القوى الانقلابية أو طبيعتها. وكما يقول الشاعر العربي: ووضع الندى في موضع السيف [c1] *** [/c] بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى[c1]*عن/ جريدة “الاتحاد” الإماراتية[/c]