الذكرى الثانية لرحيل الفنان شريف ناجي
[c1]* شبواني .. ولد في أبين .. وتوفي في عدن[/c]رصد مشواره / عبدالقادر خضرعام 1953م .. نحن الآن في مدينة لودر -زارة بالذات - التابعة لأرض الخير والعطاء أبين .. كان أهل المدينة يحتفلون ذلك اليوم بثلاثة أعياد، ولهذا فقد كان جميعهم يرتدون أجمل ملابسهم.كان اليوم هو الجمعة .. والجمعة عند المسلمين ، وخاصة في المناطق التي لم تفقد أصالتها ، هو يوم (جمعة وعيد والصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم) .. وكان عيد المدينة الثاني هو الخير الوفير الذي حققته أرضها الزراعية مما جعل أسعار محاصيلها ترتفع كثيراً نتيجة جودة تلك المحاصيل، وارتفعت بالتالي مكاسب جميع المواطنين .. أما عيد المدينة الثالث الذي تحتفل لاستقباله، فهو المهرجان السنوي الذي يقام كل عام ويشارك فيه عشرات الشعراء الشعبيين من مناطق أبين وشبوة ولحج وحضرموت في مساجلات شعرية رائعة .. ويحضر أيضاً المئات من المواطنين من مختلف مدن أبين وشبوة ولحج وحضرموت لحضور تلك المساجلات الشعرية، حيث إن معظم هؤلاء القادمين تربطهم علاقة قرابة ومصاهرة وصداقات قديمة مع أهل المدينة لودر.كان الشيخ (ناجي أحمد مصعبي) يغادر منزله متجهاً الى المسجد لأداء صلاة الجمعة .. وكانت سعادة الناس من حوله تزيد من سعادته الشخصية .. كان يحس أن جميع أهل مدينة لودر هم أهله ، ولقد انصهر بالمدينة وأهلها منذ أن قدم إليها قبل سنوات قادماً من مدينته في شبوة .. لم يشعر ولو للحظة أنه غريب يعيش في مدينة ليست مدينته ، لأنه وجد أهلها يفتحون له قلوبهم وبيوتهم لاستضافته من أول يوم وصل فيه إلى لودر، وعندما عرفوه أكثر أصبح واحداً منهم، بل إنهم تناسوا مع الأيام أنه من مواليد مدينة أخرى وأحبوه أكثر عندما اكتشفوا فيه شاعراً شعبياً متميزاً ومتفوقاً على أقرانه من شعراء المدينة، بل كان يتفوق على شعراء المدن الأخرى في المساجلات الشعرية التي تفتخر بها كل مدينة بشعرائها المتميزين .. كان كل هذا يدور في ذهن الشيخ الذي يشارك أهل مدينته أفراحهم وأعيادهم .. ولكن كان يشوب فرحته نوع من القلق، فقد ترك زوجته في المنزل تشكو ألم الوضع الذي جعلها تؤكد له أن الفرج سيتم اليوم إن شاء الله .. وظل قلقاً حتى وهو يستعد للمشاركة في المساجلة الشعرية التي بدأت بعد صلاة العصر.. وكان مضمون تلك المساجلة قصائد تتحدث عن الشرف.. لذا فإنه ما إن سمع أحد أفراد أسرته يقول له : مبروك يا شيخ ناجي (جالك ولد) حتى هتف إنه شريف .. سأسميه (شريف) تيمناً بعيد الشعر الذي تعيشه لودر.وهكذا جاء شريف ناجي الى الدنيا عام 1953م في مدينة لودر وعاش فيها طفلاً وشاباً متفوقاً في دراسته، يؤكد كل من عرفه أنه (شريف اسماً على مسمى) وبجانب تفوقه في دراسته كانت هواية تشده إلى الفن، يغني في المدرسة، ويتجمع أهل الحي مساء حوله وهو يغني للعطروش ومحمد سعد.. وعبدالحليم حافظ، كان يغني ويدندن بالمقاطع الموسيقية للأغنية بصوته، لأنه لم تكن هناك أي آلة موسيقية في لودر سوى الطبل .. إلى أن أحضر شقيقه الذي كان هو أيضاً يهوى الغناء آلة عود اشتراها من مدينة عدن عام 1974، ولكنه تنازل عن آلته الموسيقية، بل عن هوايته الفنيه عندما وجد أن شقيقه شريف يغني أفضل منه، بل إن عشقه للغناء أصبح هاجساً وطموحاً.وجد الشاب شريف نفسه منفرداً مع آلة العود في غرفته .. وخلال أشهر قليلة كانت أوتار العود تستجيب لأصابعه في عزف جميل خالٍ من النشاز .. وكان معلمه الأول موهبته وحبه للفن وعشقه للغناء وهي أدوات لا تحتاج إلى معلم من بني البشر.تخرج شريف في كلية الحقوق ليصبح (قاضياً يسكنه فن الغناء) مثلما قال عنه الفنان الرائع عصام خليدي .. وتحول القاضي الى مستشار قانوني .. ولكنه كان فناناً أكثر مما هو قانوني..وكان يعرف أن مكانه ومتسقبله هناك، في تلك المدينة الرائدة والرائعة بين جميع المدن اليمنية ودول الجزيرة والخليج .. إنها (عدن) .. ولذا ما إن لمح (النداهة) تعطيه الإشارة .. حتى استجاب لها بقلبه وروحه وفنه وكل نبضه فيه .. وهكذا انتقل الى (عدن) المدينة/الحلم.حقق شريف ناجي في عدن كل أحلامه في النجاح الوظيفي، وفي الانطلاقة الحقيقية له كفنان صاحب صوت جميل وألحان غنائية مميزة اشتهر بها .. ومن عدن كانت انطلاقته الفنية الى المدن اليمنية وإلى دول الجزيرة والخليج، وخاصة بين المهاجرين اليمنيين الذين كان يحمل لهم نداء الوطن (يا غايب متى باتعود) ويصبح فنان المغتربين الأول بلا منازع.وكانت الصدمة .. وكانت النكسة التي أجهضت كل أحلامنا الجميلة .. وكانت أحداث 31 يناير المشؤومة ليس على شريف ناجي وإنما على معظم المبدعين والمثقفين والسياسيين الذين تحولوا إلى (زمرة) بعد أن كانوا رائحة الوطن الزكية .. وكانت بداية انتكاسة شريف ناجي، وخاصة عندما قال المسؤول عنه وظيفياً (وزير العدل) إما أن تستقيل من وظيفتك كرجل قانون لتتفرغ للفن، أو تترك الغناء لتتفرغ لوظيفتك، ممنوع الجمع بين الوظيفة والفن!!وقبل أن يختار وجد نفسه مع آلاف الكوادر (الزمرة) بلا فن ولا وظيفة .. وهكذا مرت أجمل سنوات شريف ناجي في وطن لا يستطيع أن يقدم فيه فنه، لأنه لم تعد هناك أهمية حقيقية للفن .. ولا يستطيع أن يكون رجل قانون يطبق مواد القانون الذي تعلمه، لأن الوطن أصبح له قانون الحق فيه للقبيلي والمتنفذ والعسكري ...إلخ، وفي زمن مثل هذا كان يجب أن يرحل أمثال شريف ناجي .. وهكذا رحل شريف ناجي جسداً بعد أن رحل من قبل روحاً وإبداعاً.[c1]أوراق من مفكرة الفنان الراحل [/c]تأثرت في بداية حياتي بالفنان الكبير فيصل علوي بحكم احتكاكي الدائم والمستمر معه.. وما زلت أرتاح كثيرا للاستماع اليه مما جعل البعض يشبه لوني الغنائي باللون الذي يغنيه فيصل علوي .. وقد أكون تأثرت بلون الغناء الكبير فعلاً ، لكنني اليوم لي شخصيتي المميزة ولوني الذي أعتز به.. ومرد ذلك إلى دقة اختيار ما يتناسب وطبقات صوتي وقدراتي اللحنية.أفضل الغناء بمصاحبة الإيقاعات فقط ، بحيث أكون أكثر تسلطناً وانسجاماً .. والأغنية اليمنية احتفظت بأصالتها عبر تقديمها بآلة العود، مع تقديري لعملية التطوير والتوزيع الموسيقي الراهنة.للغناء أهمية قصوى عند الإنسان، بل وضرورية .. فكل شيء في الكون يغني .. وليس ضرورياً أن يكون المغني (فناناً) فالأشجار والهواء والماء والطيور لها إيقاعاتها الموسيقية الخاصة .. والحياة من حولنا عبارة عن أغنية جميلة نستمتع بها جميعاً.أغنية (يا غايب متى باتعود) هي باكورة ألحاني، وكلمات الشاعر ناصر الحميقاني .. وقد خلقت اللحن قبل كتابة النص الغنائي، وأسمعته للشاعر الحميقاني وطلبت منه كتابة نص غنائي مناسب للحن، وقد وفق في ذلك!إنتاجي الغنائي كبير، وأعتز به كثيراً .. وأنا لا أؤمن بالكم ولكن بالكيف.ويكفيني أن يردد الناس البسطاء ألحاني فهنا تكمن القيمة الحقيقية للأغنية.كان حلمي أن أجيد العزف والغناء حباً في الطرب والفن، وليس سعياً وراء الشهرة .. تجاوزت ذلك الحلم عند انتشاري فنياً وجماهيرياً .. وأصبح حلمي اليوم أن أوفق في تقديم ما يرضي جمهوري الحبيب.الجمهور اليمني أصيل جداً ولا يقبل إلا فناً جيداً، وهو في الغالب لا يرحم ولا يجامل أحداً .. وأدعياء الفن لا يستطيعون الوقوف أمام هذا الجمهور الصعب .. أما الفنان الجيد فيستقبله هذا الجمهور بتقدير وتشجيع كبيرين.جربت غناء اللون الصنعاني ولم أوفق، وأخص هنا أغنية (حوى الغنج) .. ولم أتطرق مرة أخرى الى غناء اللون الصنعاني الا بعد تأكدي من قدراتي على العزف والأداء الجيد لهذا اللون تماماً، خاصة وأنه من أصعب الألوان الغنائية اليمنية!شريف ناجي إنسان عادي، بسيط، له محاسنه وله عيوبه، فمحاسني ربما لا أعرفها وعلى الغير أن يكتشفها عندي، أما عيوبي فسرعة الغضب وسهولة التسامح أيضاً.يطربني العديد من الفنانين .. ولكل فنان ميزته وشخصيته الفنية .. وأنا أطرب للأغنية الجيدة ذات الأداء الحسن .. ولا يهم من هو الفنان الذي يقدم تلك الأغنية الجيدة، ولا أهتم بجنسيته، المهم فنه الذي يقدمه للناس.نقلت الأغنية بصدق وحب إلى المغتربين اليمنييين في أكثر من بلد.. كما قدمتها بشكل لائق لجمهوري الحبيب في الوطن اليمني الذي حظيت بحبه وإعجابه.المغترب اليمني بل الإنسان اليمني عموماً، حساس جداً وذواق للفن كثيراً ونظراً لظروف المغترب كبعده عن أهله ووطنه وداره، أو لحياة الاغتراب التي يعيشها، فإنك تجد أحاسيسه فياضة بالشوق والحب للوطن وذكريات الصبا .. ولذلك فإنه يتأثر كثيراً عند سماعه للطرب الغنائي اليمني الأصيل .. وقد حدث ذات مرة أن كنت في دولة الكويت الشقيقة ضمن رحلاتي الفنية العديدة، وصادف أن بثت إذاعة الكويت أغنيتي (ياغايب متى با تعود) فبكيت .. أنا الذي سأعود إلى بلدي خلال فترة وجيزة، فما بالك بحالة المغترب المفارق أهله ووطنه منذ زمن بعيد؟!عمري الفني قصير .. لا يسمح لي بأن أعطي رأياً نقدياً في أغنية لها عمرها وتاريخها وأصالتها وتراثها العريق .. ولكنني كمستمع أقول إن مستوى الأغنية اليمنية أفضل سابقاً عما هي عليه اليوم .. فنحن نتذكر تماماً الألوان الغنائية اليمنية ذات العمر الفني الطويل جداً ولكنها مازالت على نفس النكهة والذوق الفني كأغاني المرشدي وأحمد قاسم ومحمد سعد عبدالله ومحمد عبده زيدي، الذين قدموا أجمل الأغاني الأصيلة .. الفنان اليوم غيره بالأمس من حيث الظروف والمشاكل والهموم والمعاناة التي زادت حدتها كثيراً .. وأضحى إبداع الفنان مقروناً بتحسن ظروفه المادية والمعنوية، وظروف الناس الذين يتلقون إبداعه.نجاح الأغنية لا يتأتى الا باكتمال أعمدتها الثلاثة: الكلمة، اللحن والأداء.. وعيب أي عمود فيها يجعلها تمشي كالعرجاء وسط الذوق الفني الشعبي العام!الشاعر إنسان رقيق المشاعر، يعيش بمعاناة صادقة ، سريع التأثر بما حوله يترجمه بصدق وإحساس عميقين .. ويوجد أيضاً شعراء خياليون لديهم إمكانيات الكتابة الشعرية الخيالية ..(وطبعاً الخيال هو نصف الحقيقة) كما يقولون.تأتي على الفنان ظروف لا يرغب فيها حتى سماع أغانيه، وليس العزف والغناء فقط .. كما قد تأتي ظروف أخرى نجده فيها متلهفاً الى الغناء والطرب بشكل غير عادي .. ولكنني لا أعتقد بأنه قد يأتي يوم يستغني فيه الفنان عن الغناء نهائياً، خاصة الأصيل منه.. كما لا يمكن تحديد العمر الزمني للفنان، لأن ذلك من الأمور المستحيلة!الجمهور هو شريان الحياة للفنان .. فالفنان لا شيء بدون جمهوره ، وهو يكسب هذا الجمهور من خلال عطائه الفني الجيد، وإحساسه الصادق بعمق مشاعره الفياضة التي يحولها إلى إبداع أصيل.أهوى قراءة الشعر والأدب بشكل عام فأنا أقرأ كل ما يقع تحت يدي من الكتب الأدبية .. واليوم أعيد للمرة الثالثة قراءة كتاب الدكتور محمد عبده غانم (شعر الغناء الصنعاني).عندما أسمع المرشدي يغني أشعر بالنشوة الغامرة والطرب الأصيل .. وعندما أسمع محمد سعد أشعر بصدق الأداء النبيل .. وأرتاح جداً لسماع أحمد قاسم .. أما الزيدي فيشدني أداؤه كثيراً.هناك علاقة أساسية وهامة بين الصحافة والفن .. فالصحافة تخدم القضية الفنية بشكل عام وهي تعبر بصدق وصراحة عن الإيجاب والسلب في معترك القضية الفنية .. فلا فن بدون صحافة فهي التي تعرف الجمهور بالفن والفنانين وتنشر وتتابع كل أخبارهم ليطلع عليها الجمهور في الداخل والخارج.من الصعب جداً التوفيق بين عملي كرجل قانون وهوايتي الفنية، ولكن (ما باليد حيلة) .. فالفنان حساس المشاعر ورقيق المعاملة سريع التأثر .. ورجل القانون يفترض فيه الصرامة والقوة والالتزام القوي بتنفيذ شرائع القوانين السارية، فلاحظ الصعوبة بمزج شخصيتين متناقضتين كلية في وعاء واحد.. وفي حياتي صادفت كثيراً من المواقف التي تمزج ما بين عملي كرجل قانون وهوايتي كفنان .. فقد حدث أن كنت أعمل قاضياً في محكمة لودر الجزائية ذات مرة وقفت أمام قضية عائلية (طلاق بين زوجين) .. حيث حاول الزوج التقرب إلي كفنان وشعرت بوقوعي في الموقف المحرج تماماً .. مما اضطرني إلى تحويل القضية إلى زميل آخر للبت فيها كي تأخذ مجراها القانوني .. وبعدها رفضت الاستمرار في مزاولة هذا العمل الحساس .. وتحولت إلى وظيفة أخرى (مستشار قانوني) في وزارة العدل والأوقاف.