قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن
محمد زكريامدينة ضربت جذورها في أعماق الحضارة الإسلامية الرائعة ، تبوأت مكانة كبيرة بين المدن اليمنية المهمة بل الإسلامية الكبرى في العلوم والمعرفة ، بلغت شهرتها الآفاق الواسعة في العالم الإسلامي ، كانت تقف في مصافِ الأزهر الشريف في القاهرة المعزية ، والقيروان في تونس ، وفاس في المغرب ، كانت قبلة طلاب العلم والمعرفة ـــ وأيضًا ـــ طلاب الشهرة والسياسة . فتن الرحالة الأوربيون في جمالها الأخاذ أمثال الرحال الألماني ( نيبور ) الذي زارها في سنة 1763م ، والطبيبة الفرنسية كلودي فايان التي زارت اليمن في سنة 1951م ومكثت فيه مدة عام ونصف عام . مدينة جمعت بين ضياء ، وهيبة وبهاء الثقافة الإسلامية من جهة وضراوة السياسة وأحداثها الملتهبة والساخنة بل والدامية في أحايين كثيرة من جهة أخرى . أنها مدينة زبيد ، مدينة الخير والبركة والعلم والمعرفة الذي أشرق نور وجهها على سماء اليمن . [c1]زبيد في فجر الإسلام[/c]لقد أجمعت كتب السير ، والتاريخ أنّ مدينة زبيد وأهلها ، أدوا دورًا بارزًا في فجر الإسلام ، والفتوحات الإسلامية الكبرى التي بدأت في عهد الخليفة أبي بكر الصديق ثم اتسعت في عهد الخليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فالمصادر الإسلامية تروي أنّ زبيد وأهلها دخلوا في دين الإسلام في آخر العام السابع ودخول العام الثامن الهجري. عندما توجه الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري إلى المدينة المنورة مقر وعاصمة الدولة الإسلامية الجديدة الفتية لملاقاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليعلن إسلامه هو وأصحابه الذين كانوا معه في رحلته النورانية الإيمانية . وتذكر الروايات التاريخية أنّ الرسول الأعظم دعا لزبيد وأهلها بكثرة البركة والخير . وفي كتاب دلائل النبوة للإمام أبي بكر البيهقي بسنده إلى عبد الرزاق عن معمر ، قال : “ بلغني أنه لما قدم الأشعريون ـــ يقصد الصحابي أبو موسى الأشعري وأصحابه ــــ من اليمن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، قال لهم : “ من أين جئتم ؟ . قالوا: من زبيد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): “ بارك الله في زبيد “ . ونستخلص من ذلك أنّ زبيد ، كانت من أوائل من دخلت في دين الإسلام سواء من المدن اليمنية ومدن الجزيرة العربية ، وكان من الطبيعي أنّ يكون لدخولها المبكر في الإسلام أنّ تتبوأ الصدارة في الحضارة الإسلامية. وهذا ما حدث بالفعل في ، فقد صارت من أشهر الجامعات في العالم العربي الإسلامي ، تقف في مصاف الأزهر الشريف في القاهرة المعزية الذي أنشأها القائد جوهر الصقلي للخليفة الفاطمي الرابع المعز سنة ( 361 هـ / 972م)، والقيروان في تونس الذي أسسها التابعي الجليل عقبة بن نافع ما بين سنة ( 50 و 51 هـ / 670 و 671م ) , و فاس المغربية الذي أسسها إدريس بن عبد الله سنة ( 172هـ / 789م ) ـــ كما مر بنا ـــ .[c1]اسم زبيد[/c] ويذكر عبد الرحمن الحضرمي أسباب تسمية المدينة بــ ( زبيد ) ، وعن أسمها الآخر الموغل في القدم ، فيقول : “ وسميت زبيد باسم الوادي زبيد الذي سمي باسم قبيلة زُبيد ( بالضم ) وسمي الوادي باسمها بفتح الزاي نسبة إلى رافد من روافده بالسحول يسمى زًبيد “ . وعن اسمها القديم ، يقول : “ وتسمى قديمًا بأرض الحصيب التصغير نسبة إلى الحصيب بن عبد شمس ، وفيها قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ : “ إذا وصلت أرض الحصيب هرول “ . وقال جياش بن نجاح : [c1]لله أيام الحصيب ولا خلــــت تلك الملاعب من صبا وتصابيلا عيش إلا ما أحاط بسوحـه بعض الهويب وساحل الأهواب [/c]ويصف الحضرمي موقع زبيد الجغرافي ، ومناخها ، وسورها العتيق ، وموانيها ، فيقول : وتقع زبيد في سهل تهامة الغربية وتبعد عن البحر الأحمر ثلاثين كيلو مترًا وعن الجبل ثلاثين كيلومترًا . طقسها حار صيفًا ، ومعتدل شتاء ً ، وليلها رائع لموقعها الجغرافي يهب إليها نسيم البحر ونسيم البر فيلطف حرارة الصيف “ . ويستطرد ، فيقول : “ وهى مدورة بسور من الياجور والأبراج والقلاع والأبواب . وتعتبر زبيد قصبة اليمن الأسفل ، ولها من المنافذ البحرية البقعة التي نزل بها معاذ ، وأبو موسى الأشعري ، وميناء غلافقة ، والفازة ، والأهواب ، والمخا “ . [c1] الخليفة العباسي المأمون[/c] جرد الخليفة العباسي المأمون المتوفى ( 218 هـ / 833م ) حملة عسكرية إلى منطقة تهامة اليمن وتحديدًا إلى زبيد بقيادة محمد بن عبد الله بن زيادة وهو من القادة العسكريين من بلاد خراسان في فارس الذين أبلوا بلاءًا حسنًا مع المأمون إبانّ قتاله ضد أخيه الخليفة محمد الأمين ، وهناك أقاويل تشير بأنه أحد الذي شارك في قتل الأخير . وصار هذا محمد عبد الله بن زياد من المقربين إلى الخليفة العباسي المأمون أو قولوا من الصفوة لديه ، وتصفه المصادر الإسلامية بأنه كان قائدًا شجاعًا ، وله خبرة ودراية كبيرين في القتال و الحرب . وكان الغرض من تلك الحملة العسكرية على زبيد هو إطفاء نيران الفتنة ، والقلاقل ، والاضطرابات التي انتشرت بين قبائل الأشاعرة ، وعك في زبيد والمناطق التهامية المحيطة بها انتشار النار في الحطب ، ولقد خشى الخليفة المأمون الذي لم يثبت أقدامه في الحكم بعد أنّ تمتد نيران الاضطرابات إلى الكثير من أجزاء اليمن ، وبذلك تنسلخ ولاية اليمن أكبر الولايات الإسلامية من الدولة العباسية . وكيفما كان الأمر ، فقد استطاع محمد بن زياد أنّ يعيد الأمور إلى نصابها وذلك بعد معارك ضارية بينه وبين قبائل الأشاعرة ، وعك في زبيد والمناطق المحيطة بها . [c1]زبيد والدول المتعاقبة[/c] وتذكر المصادر التاريخية أنّ محمد بن زياد أختط زبيد سنة ( 204 هـ / 820م ) وفي عهد حكمه صارت زبيد عاصمة الدولة الزيادية الجديدة التي امتد نفوذها السياسي على عدن ، وأصبحت من كبرى مدن اليمن المهمة ومن جراء وجود الدولة القوية في زبيد ، والاستقرار السياسي فيها من ناحية وعناية حاكمها أو حكامها الذين كانوا من الفرس المعروفين بشغفهم بالعلوم والمعرفة ، واحترامهم للثقافة من ناحية أخرى صارت زبيد إشعاع حضاري باهر في العالم العربي والإسلامي. وعندما مالت الدولة العباسية إلى الضعف في أواخر القرن الثالث الهجري / القرن التاسع الميلادي ، انسلخت الكثير من الولايات والمدن الإسلامية عنها ومنها اليمن أكبر الولايات الإسلامية في الخلافة العباسي . والحقيقة أنّ خروج زبيد من معطف العباسيين ، كان منذ وقت مبكرًا أو بمعنى آخر ، كان لها إرهاصات بسبب بعدها عن مركز العاصمة العباسية بغداد من ناحية وأنّ محمد بن زياد ، قد انفرد في الحكم وصار ملكًا متوجًا بسبب الفترة الطويلة التي امتدت قرابة 40 عامًا من سنة ( 205 ـــ 245هـ / 821 ـــ 860م ) من ناحية أخرى . وبعد أنّ ثبت محمد عبد الله بن زياد أقدامه في حكم زبيد . تولى ابنه زياد حكم زبيد والمناطق المحيطة بها والمؤدية أيضًا إلى سواحلها كالمخا ، وغيرها ، وفي عهده توسع رقعة حكمه حتى وصلت إلى المناطق الشمالية الجبلية ، وعدن والشحر جنوبًا . و كيفما كان الأمر ، فقد شهدت زبيد ازدهارًا واسعًا وعريضًا وخصوصًا في مختلف المجالات وتحديدًا في الحياة الثقافية في بداية الدولة العباسية التي كانت في أوج قوتها وازدهارها ، وعلى وجه التحديد في عهد حكم الخليفة عبد الله المأمون المعروف عنه بولعه الشديد بالعلوم والثقافة . ويصفه ابن طقطقي ، قائلاً : “ كان المأمون من أفاضل خلفائهم ، وعلمائهم ، وكان فطنًا شديدًا كريمًا “ . والحقيقة أنّ الكثير والكثير جدًا من المدن والولايات العباسية انتعشت ثقافيًا بصورة واسعة وكبيرة بسبب عناية الخليفة المأمون بالعلوم والمعرفة ، وكان من البديهي أنّ تنعكس أضواء تلك النهضة الثقافية على زبيد التي أخذت ملامحها العلمية تتشكل في عهد زياد بن محمد . والحقيقة أنّ الدول التي تعاقبت على حكم زبيد سواء الوافدة منها كالدولة الزيادية والأيوبية التي حكمت الأخيرة اليمن قرابة نصف قرن من الزمان ، والدول اليمنية كالدولة النجاحية التي كانت لها مآثر جليلة في المنشآت الدينية كالمساجد ، والمدارس الإسلامية مثلها مثل الدول الزيادية . وفي هذا الصدد ، يقول الحضرمي : “ ... وللنجاحيين والزياديين مآثر كثيرة مساجد ومدارس اختلفت مسمياتها ، ولكن الدلائل التاريخية تثبت أنها للنجاحيين والزياديين “ . ونستخلص من ذلك أنّ معالم الحياة الثقافية الإسلامية في زبيد ظهرت في عصري حكم الدولة الزيادية و الدولة النجاحية ، وكانت أكثر وضوحًا في عهد حكم الدولة الأيوبية في اليمن الذي كان ملوكها وسلاطينها يولون الحياة الفكرية والعقلية عناية فائقة ، وبعدهم بني رسول الذين كانوا امتدادًا لهم . [c1]مع الدولة الرسولية[/c] وفي عصر الدولة الرسولية التي امتدت حكمها في اليمن قرابة أكثر من مائتي عام ( 626 ـــ 858هـ / 1228 ــــ 1454م ) ، شهدت اليمن بصورة عامة وزبيد نهضة ثقافية وفكرية علمية واسعة بصورة خاصة . بسبب أنّ ملوكها ، وحكامها ، وأمرائها ، كانوا يولون الحياة الفكرية والعقلية كل عنايتهم ، فقد ، كانوا امتدادًا لبني أيوب في حكم اليمن ، فتقلدوا مراسيمهم ، وعاداتهم ، وتقاليدهم ، ومنها احترامهم للعلم والعلماء ، وولعهم للثقافة ، وكان أيضًا العديد من سلاطين و ملوك بني رسول علماء أجلاء ألفوا عددًا من الكتب . وهذا ما أكده المؤرخ الكبير القاضي إسماعيل بن على الأكوع في كتابه القيم (( الدولة الرسولية في اليمن )) ، قائلاً : “ وكان أبرز دول اليمن الحضارية ، وأخلدها ذكرًا ، وأبعدها صيتًا ، وأغزرها ثراء ، وأوسعها كرمًا وإنفاقا هى الدولة الرسولية ... يعتبر عصرها غرة شادخة في مفرق دبين اليمن في عصرها الإسلامي ، ذلك لأن عصرها كان أخصب عصور اليمن ازدهارًا بالمعارف المتنوعة ، وأكثرها إشراقًا بالفنون المتعددة ، وأغزرها إنتاجًا بثمرات الأفكار اليانعة في شتى ميادين المعرفة ، وما ذاك إلا لأن سلاطين وملوك الدولة الرسولية ، كانوا علماء فاهتموا بنشر العلم في ربوع اليمن على نطاق واسع ، سيما في المخاليف ( الأقسام ) التي كانت خاضعة لهم وراضية بحكمهم ، فبنوا في تعز وزبيد ، والجند ، وذي جبلة وضواحيها ، وعدن وظفار الحوضي وحتى في مكة المكرمة المدارس التعليمية ، والأربطة الثقافية ، واختاروا أبرز العلماء دراية ، وأغزرهم معرفة ، وأشهرهم ذكرًا للتدريس في مجال تخصصاتهم “ . وعندما غربت شمس الدولة الرسولية . وعندما أشرقت الدولة الطاهرية في سماء اليمن أضافت الكثير من المساجد والمدارس الإسلامية وخصوصًا في عهد حكم السلطان عامر بن عبد الوهاب الطاهري أعظم سلاطين بني طاهر المقتول ( 923 هـ / 1517م ) على يد المماليك بالقرب من صنعاء . وفي عهد الدولة العثمانية في اليمن ( 1538 ـــ 1635م ) اعتنى الكثير من الولاة العثمانيين بترميم وصيانة المدارس الإسلامية وكذلك المساجد العتيقة فضلاً عن ذلك انشئوا العديد من الأربطة الدينية في زبيد .[c1] مساجدها ومدارسها الإسلامية[/c] وصف المؤرخ ابن الديبع المتوفى ( 944 هـ / 1537م ) زبيد بأنها : “ بلاد العلم والعلماء ، والفقه والفقهاء ، والدين والصلاح ، والخير والفلاح “ . ويضيف ، قائلاً : “ ولم نعلم مدينة من مدائن اليمن المعمورات ومساكها المشهورات ، ظهر ما ظهر في مدينة زبيد من العلم والعلماء “ . ويرصد عبدالرحمن الحضرمي المساجد والجوامع والمدارس الإسلامية التي تألقت ولمعت على سماء مدينة زبيد ، وذاعت شهرتها اليمن جمعاء ، على سبيل المثال عبر تاريخها الإسلامي ما يلي : “ الجامع الكبير ، مسجد الأشاعر ، مسجد سرور الفاتك ، مسجد القائد فرج السحرتي ، مسجد زيالع ، مسجد المصلى ، مسجد العدني ، مسجد الحاجة سمح ، مسجد الظاهر ، مسجد السيد عبده حسين المساوي ، مسجد الأهدل ، مسجد جاوة ، مسجد الخانقاة ، مسجد الشماخي ، ومسجد الباشا “ . أما عن المدارس الإسلامية ، فيذكر ما يلي : المدرسة الياقوتية ، المدرسة العصامية ، مدرسة الميلين ، المدرسة التاجية ، المدرسة المزجاجية ، المدرسة الدحمانية ، المدرسة العاصمية ، المدرسة السيفية الصغرى ، المدرسة النظامية ، المدرسة الاشرفية ، المدرسة المنصورية العليا ، والمدرسة االمنصورية السفلى “ .[c1]مدرسة الإسكندرية[/c] ويذكر القاضي المؤرخ الكبير إسماعيل الأكوع معلومات مستفيضة عن عددٍ من المدارس الإسلامية التي أنشئت في زبيد ، ما يلي : “ المدرسة الدحمانية : أنشأها الأمير سيف الدين الأتابك سنقر الأيوبي للفقيه محمد بن إبراهيم بن دحمان فنسبت إليه وخصها لتدريس مذهب الإمام أبي حنيفة “. “ مدرسة الميلين بناها الملك المعز إسماعيل بن طغتكين بن أيوب سنة ( 594 هـ / 1198م ) ، وكانت تسمى ( المعزية ) أو مدرسة المعز نسبة إليه وجدد بناءها الملك المسعود بن عبد الملك الكامل “ . “ المدرسة الشمسية بنتها الدار الشمسي ابنة عمر بن علي بن رسول. وقد رتبت فيها إمامًا ، ومؤذنًا ، وقيمًا ، ومعلمًا ، وأيتامًا يتعلمون القرآن ، ومُدرسًا يُدرسُ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . ووقفت عليها في وادي زبيد وقفًا جيدًا يقوم بكفاية المربين فيها “ . “ مدرسة أم عفيف بناها السلطان الملك المؤيد داود بن السلطان الملك المظفر “ وعن أهم الشخصيات العلمية والأدبية الذين تخرجوا منها ، يقول المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع : “ درس بها القاضي محمد بن أحمد الطبري المعروف بالنجم ، ودرس بها الفقيه عبد الباقي بن عبد المجيد بن عبد الله اليماني المتوفى 743 هـ / 1343م ( صاحب كتاب تاريخ اليمن المسَمّى بهجة الزمن في تاريخ اليمن ) “ . المدرسة الإسكندرية : “ بناها الأمير إسكندر بن سولي المشهور بإسكندر موز . تولى حكم اليمن في عهد السلطان سليمان ( يقصد سليمان القانوني أعظم سلاطين الخلافة العثمانية وفي عهده فتحت اليمن ) , فحكمها حكمًا عادلاً ، وكان مشهورًا بحزمه ، وكرمه , وسخائه “ . ويسترسل القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلاً : “ قال قطب الدين النهروالي في كتابه البرق اليماني : “ وبنى مدرسة عظيمة في زَبيد تسمى الإسكندرية وهو من الأمراء الذين يذكرهم أهل اليمن بالجميل ، ويثنون عليه الثناء الجزيل ... توفى سنة ( 943 هـ / 1537م ) أي قبل رحيل العثمانيين من اليمن على يد الإمام المؤيد ابن الإمام القاسم . [c1]في عيون ألمانية[/c]وفي سنة 1763م ، وصلت البعثة الدينماركية العلمية إلى اليمن وتحديدًا إلى زبيد ، وكان وصولها في عصر الدولة القاسمية مؤسسها الإمام القاسم الذي حارب العثمانيين مدة 40عامًا ، وخرجوا من اليمن على يد ابنه الإمام المؤيد سنة 1635م ـــ كما مر بنا ـــ ، وكيفما كان الأمر ، فقد كان من البعثة الدينماركية ، الرحال المهندس الألماني كريستين نيبور الذي وصف الكثير من المدن اليمنية ومنها زبيد والذي كان له الفضل الكبير في كتابة قصة أحداث البعثة الدينماركية في اليمن ، بعد أنّ تخطف الموت أعضاء البعثة الواحد تلو الآخر بصورة مأساوية ، ويبدو أنّ تلك المدينة لم تعد كما كانت في السابق من الرواء والجمال والازدهار في الحياة العلمية بعد أنّ كانت في أحضان الحضارة الإسلامية المشرقة بسبب الفوضى و القلاقل والاضطرابات، والفتن التي اندلعت في كثير من مناطق اليمن أواخر الدولة القاسمية التي أضعفته ، فكان من نتائج ذلك أنّ تأثرت الحياة العلمية والعقلية والثقافية في زبيد تأثيرًا سلبيًا خطيرًا ، فأهملت العناية بمنشآتها الدينية ( المساجد ، والمدارس الإسلامية ) إهمالا كبيرًا بل أنّ المدينة القديمة نفسها ، أصابها الضمور ، والتآكل ، في الكثير من أجزائها كسورها العتيق المشهور الذي يعد من أعظم معالمها . وفي هذا الصدد ، يقول نيبور : “ وأمّا سور المدينة ، فقد انهار جميعه تقريبًا . ويقوم المواطنون الفقراء بجمع ما تبقى من حجارته ، والملقاة على الأرض ، لبيعها “ ويبدو أنّ الحياة الاقتصادية الصعبة التي مرت بها المدينة بسبب اندلاع القلاقل ، والفتن ، والاضطرابات السياسية في زبيد ـــ كما مر بنا سابقاً ـــ ، دفعت الكثير من أهلها من الرحيل عنها ودليل ذلك أنّ المهندس الألماني نيبور ، علق على مساكنها بأنّ الكثير منها كان أطلالا . والحقيقة لقد اشتهرت زبيد في فترة من فترات تاريخها بالازدهار في حقل الزراعة ، قد تعرض هذا الجانب أيضًا للإهمال الشديد . وفي هذا الشأن ، يقول نيبور : “ كما توجد آثار قنوات لتنظيم المياه القادمة من الجبال إلى المدينة . ولكن هذه القنوات لم تعد صالحة. ولذا فإن السكان يحصلون على مياه الشرب من الآبار التي هى غير عميقة في هذه المنطقة “ . وعلى الرغم من الصورة القاتمة الذي رسمها لنا ( نيبور) عن مدينة زبيد ، فإنه يذكر ، بأنها مازالت تحتفظ بجمالها ورونقها ، و لم ينس كريستين نيبور في سياق حديثه أنّ ينوه إلى أهمية ومكانة زبيد الدينية الرفيعة . ومن العوامل الأخرى الذي ذكرها الرحال الألماني نيبور التي أدت إلى تدهور الحياة الاقتصادية في المدينة هو تحول الحركة التجارية من مينائها غليفقة المطل على البحر الأحمر الذي كان يموج بالنشاط التجاري الكبير في يوم من الأيام إلى ميناء المخا ، الحديدة ، واللحية . وفي عبارة حزينة يعبر ( نيبور ) عن أسفه لأوضاع مدينة زبيد المتردية التي آلت إليها والتي ، كانت في الأيام الخوالي النجم الساطع في سماء اليمن الثقافي ، قائلاً : “ ولم يبق لزبيد سوى ظلال باهتة من ماضيها الزاهر “ . [c1]في عيون فرنسية[/c] والحقيقة أنه عندما عمت الفوضى ، والقلاقل السياسية في الدولة القاسمية ( 1045 ـــ 1265هـ / 1635 ـــ 1849م ) في آخر عهدها ، ولم تعد زبيد تلك المدينة الذائعة الصيت ، وبُعد الصوت في ميدان الثقافة والعلم والمعرفة والتي كانت جزءاً لا يتجزأ من نسيج الحضارة الإسلامية الرائعة ، والثقافة اليمنية الإسلامية ــــ على حد تعبير المستشرق الإنجليزي ( Nilsson) ، ــــ وبعد أنّ زحفت عليها رمال النسيان والإهمال ، وامتدت إليها يد الخراب ، والدمار في كل وجه من وجوهها . وعلى الرغم من ذلك ، فقد كانت زبيد كالوردة الذابلة ، ولكن رائحتها المعطرة الزكية مازالت فيها أو قولوا شذى التاريخ التليد مازال ينبعث منها . ولقد وصفتها الطبيبة الفرنسية كلودي فايان ــــ عاشقة اليمن ــــ في كتابها الممتع (( كُنتُ طبيبة في اليمن )) التي زارت اليمن سنة 1951م ، ومكثت فيه نحو العام والنصف العام ، وصفًا غاية في الروعة ، مأخوذة بجمالها الباهر ، وتراثها الأصيل والعريق في ميدان العلوم والمعرفة ، وطرزها المعماري ، فتقول : “ وصلنا زبيد في نحو الساعة الثانية بعد الظهر ، وكان المفروض أنّ نواصل السفر ( إلى صنعاء ) لكنني من أول نظرة أحسست بحب عنيف لا يقاوم نحو هذه المدينة ،فأردت أنّ أقضي فيها بقية النهار ... إنّ زبيد مدينة من مدن القرون الوسطى بكل ما فيها أسوارها العالية ، قلاعها ، منصات المراقبين ، والحراس ، أبوابها الحصينة ... بل يمتلك الإنسان حقيقة الشعور بأنه تراجع خمسة قرون إلى الوراء ... لقد كانت زبيد مقرًا لجامعة ، قالوا بأنّ الجبر نشأ فيها . أمّا اليوم ( سنة 1951م ) فهي مدينة زراعية صغيرة يقطنها نحو ستة آلاف نسمة . وهى أهم المناطق الزراعية في تهامة “ . وتسترسل كلودي فايان في حديثها : “ وعند الغروب تأخذ هذه الواجهات المنحوتة رونقاً ولونًا رائعًا ، لقد سجلت على سطح دار الضيافة ، اشهد حلول الظلام وكل من يعرف اليمن لا بد أنّ يكون شاعرًا حين يتحدث عن مغرب الشمس ، فالغروب هنا أكثر روعة وجمالاً منه في مكان آخر ، فالسماء بعد الغروب بعشرين دقيقة ، ولأسباب لأعرفها تكتسي بلون وردي صارخ يخيل للإنسان أنه ضوء اصطناعي “ . [c1]طرازها المعماري[/c] وتصف الطبيبة الفرنسية كلودي فايان طراز أو تصميم إحدى غرف بيوت مدينة زبيد القديمة ، واصفة إياها بأنه بناء غاية في الجمال والرواء ، وأجمل ما يميزه هو أنه يمزج بين البساطة والذوق الرفيع النابع من بيئة المدينة الأصيلة والأصلية . وفي هذا الصدد ، تقول : “ أمّا غرفة النوم ، فقد كانت كما وصفها ( نيبور ) قبل مائتي سنة في مؤلفه عن رحلته في الجزيرة العربية ، قاعة كبيرة بنافذتين ، وعلى جوانب الجدران نحو عشر مصاطب مرتفعة عليها أغطية ، ووسائد تتسع لعدة أشخاص ينامون جنبًا إلى جنب “ . ومازال هذا الطراز أو التصميم البنائي في غرف البيوت القديمة في مدينة زبيد ماثل للعيان حتى هذه اللحظة .[c1]السور العتيق[/c] لسنا نبالغ إذا قلنا أنّ سور مدينة زبيد العتيق يعتبر رمز لقوتها وازدهارها ، فعندما كانت المدينة في أوج قوتها وازدهارها ، وتحكمها دول قوية ، كان سورها يحيط بها من كل جانب كأنه ذراع قوي يحميها من الأخطار التي قد تحيط بها كالغزو ، والنهب ، والسلب ، وتقول الروايات التاريخية أنّ سورها ، كان يخترقها عددًا من الحصون ، والأبراج والقلاع ، ونقاط المراقبة ( النوبة ) , وفي ظل هذا السور المتين ، عاشت زبيد ، وأهلها في أمان واطمئنان ، وسلام ، وازدهار . ويذكر عبد الرحمن الحضرمي نقلاً عن ابن الديبع المتوفى ( 944 هـ / 1537م ) بأنّ أول من سور مدينة زبيد ، كان الحسين بن سلامة المتوفى ما بين ( 402 و 403 هـ ) وذلك في القرن الرابع الهجري / القرن العاشر الميلادي ، وذلك بعد غزوة القرامطة على زبيد وذلك في سنة ( 393 هـ / 1004م ) . وفي القرن الخامس الهجري / القرن الحادي عشر الميلادي ، أدار عليها وزير الدولة النجاحية سورًا ثانيًا ، وحفر عليها الخنادق ، وأدار عليها سورًا ثالثًا في عهد حكم عبد النبي علي بن مهدي ، وفي عهد حكم طغتكين بن أيوب أدار على المدينة سورًا رابعًا سنة ( 589هـ / 1193م ) . وفي 791هـ / 1389م ) جدد بناء السور الملك الأشرف الثاني إسماعيل الرسولي ، والطريف في الأمر ، أنّ الروايات التاريخية ، تذكر أنّ هذا الملك تولى الحكم وهو طفل صغير لم يشب عن الطوق بعد. وكان من جراء ذلك انتشار الفوضى في الدولة الرسولية ، ما حدى بوجهاء وأعيان بني رسول على خلعه ، ويذكر القاضي إسماعيل الأكوع أنّ ملكه لم يدم سوى سنة وشهرين . وفي ظل حكم السلطان عامر بن عبد الوهاب المقتول سنة ( 923هـ / 1517م ) ، تشير المراجع التاريخية ، أنّ ( عامر ) أمر بإعادة ما تخرب من السور . ويلفت نظرنا عبارة ما تخرب من السور ، يبدو أنه حدثت قلاقل ، وفتن في زبيد ، والمناطق المحيطة بها من تهامة في عهد حكمه من جراء القلاقل ، والفتن التي أحدثتها قبائل الأشاعرة ، وعك المعروفين بقوة البأس . وفي بداية شروق الدولة القاسمية سنة ( 1045هـ / 1635م ) ، تهدم سورها ، ولكن تذكر الروايات التاريخية أنّ السور أعيد بناءه على يد الشريف حمود بن محمد الخيراتي ، وفي سنة ( 1382هـ / 1962م ) تهدم السور نهائيًا ولم تمتد إليه يد الصيانة والترميم إ بسبب الحروب التي دارت رحاها إبانّ قيام الثورة السبتمبرية ، وانشغال رجالات الثورة إلى المهام الجسيمة والخطيرة في التصدي لأعداء النهار والحياة . [c1]أبوابها [/c] ويذكر عبد الرحمن الحضرمي أنّ أبواب خمسة أبواب تخترق جدار سور مدينة زبيد القديمة ، ما يلي : “ أولا : باب الشبارق ، يقع شرق المدينة ، وسمي باسم قرية الشباريق التي تقع شرق زبيد. ثانيًا : باب القرتب ، يقع جنوب المدينة وسمي باسم قرية القرتب التي تقع جنوبًا . ثالثًا : باب سهام ، يقع شمال المدينة ، وسمي باسم وادي سهام . رابعًا : باب النخل ، وكان قديمًا يسمى باب غلافقة ، يقع غرب زبيد ، وينفذ إلى حدائق النخيل . خامسًا : باب النصر ، وهو باب يداخل الحكومة المسمى الدار الناصري الكبير ، ووضع خصيصًا للسلطة عندما تشتد الأزمات ، ويحاصر الملك أو الأمير يخرج منه فرارًا دون أنّ يشعر به سوى الحرس . وهذا النوع من الأبواب يسمى باب السر . وقد انتشر انتشارًا واسعًا في مصر ، وبلاد الشام وذلك في أواخر عصر الحكام المماليك الذي سادت فيه الاضطرابات ، والفوضى ، والنزاعات الدامية بين الأمراء المماليك . وعندما استولى المماليك الجراكسة على زبيد وتهامة والمناطق المحيطة بها والطرق المؤدية إلى سواحلها سنة 1517م ، نقل هؤلاء الأمراء المماليك تصميم بناء الأبواب السرية أو أبواب السر في قصورهم في زبيد وذلك خشيتهم من منافسيهم من الأمراء الآخرين الذين ، كانوا يزاحمونهم ، وينافسوهم لإزاحتهم عن السلطة . [c1]الهوامش :[/c]عَبد الرّحمَن بن عبد الله الحضرمي ؛ زبيد مساجدها ومدارسُها العلمية في التاريخ ، المركز الفرنسي للدراسات اليمنية ـــ صنعاء ـــ دمشق 2002م ،القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ المدارس الإسلامية في اليمن ، الطبعة الثانية 1406 ـــ 1986م ، مؤسسة الرسالة ـــ بيروت ـــ مكتب الجيل الجديد ، صنعاء .ابن الديبع ؛ الفضل المزيد على بغية المستفيد في أخبار مدينة زبيد ، تحقيق : الدكتور يوسف شلحد ، مركز الدراسات والبحوث اليمني ــــ صنعاء ــــ .الدكتور أحمد قايد الصّايدي ؛ المادة التاريخية في كتابات (( نيبور )) عن اليمن ، دَار الفكر المعاصر ــــ بيروت ــــ لبنان ــــ .كلودي فايان ؛ ترجمة ؛ كنت طبيبة في اليمن ، تعريب ، الطبعة الثالثة 1985م ، منشورات المدينة ــــ بيروت ــــ لبنان ــــ .