يخطئ كثيراً من يعتقد أن مستقبل الإسلام منفصل عن مستقبل المسلمين، ويخطئ أكثر من يعتقد أن مستقبل المسلمين منفصل عن مستقبل الإنسان في هذه الأمة. لكن الخطأ يصبح أشد فداحة إذا فصلنا بين هذا وذاك، وبين الواقع الذي نعيشه بتياراته وضغوطه وتفاعلاته. إن الإسلام الذي أنزله الله في كتابه، وبلغه على الناس رسوله عليه الصلاة والسلام، هو الثابت الذي لم يتغير على مدى الأربعة عشر قرناً التي مضت. بيد أن الذي تغير، وتقلبت به صروف الدهر وأحواله، هو خريطة ذلك الواقع في العالم الإسلامي. لقد كان الازدهار الفكري قبساً من إشعاع مضيء ومشرق، أما عصور الانحطاط الفكري لم تكن إلا إفرازاً طبيعياً لواقع عانى كثيراً من التدهور والتحلل والانحطاط. ولو فتحت أي صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، ستجدها حقيقة ناصعة في كل مرحلة، مكتوبة بفصيح اللسان وصريح العبارة! “كما تكون يكون دينكم”. ولا شك أن الواقع السياسي بانعكاساته الاجتماعية والفكرية والاقتصادية، هو مفتاح القضية ولب الموضوع وهذا الواقع السياسي تلخصه في عصرنا الحاضر كلمتان اثنتان: الحرية والديمقراطية. إذ تظل الحرية والديمقراطية هما المعيار الذي يمكن أن يقاس به ازدهار أي مجتمع أو انحطاطه. إن ثمة تياراً بارزاً لملامح في التفكير الإسلامي يشدد على دور ذلك الواقع السياسي، ويعلن صراحة أنه مفتاح التقدم والتدهور، وأن بذرة الانحطاط تنمو في غيبة الحرية والديمقراطية.فهذا الماوردي في “ أدب الدنيا والدين” يؤكد أن “الجور يفسد ضمائر الخلق، ولكل جزء من الجور قسطاً من الفساد حتى يستكمل”.وهذا ابن خلدون.. يخصص في مقدمته فصلاً كاملاً، يقول فيه إن “ الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم هي ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه، وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري”.أما الشيخ محمد عبده فينبه بوعيه الشديد ونظرته الثاقبة إلى أن قضية الحرية كل لا يتجزأ، فيقول إن الجمود الفكري من متطلبات سياسة الظلمة والأثرة التي تخشى “ الخروج من فكر واحد من حبس التقليد، فتنتشر عدواه فيتنبه آخر، ويتبعه ثالث، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين.. إلى آخر ما يكون من حرية الفكر، التي يعوذون بالله منها”. إن وضع قضيتنا على هذه الدرجة من الأهمية والأولوية، هو منهج الإسلام منذ نزلت الرسالة على البشر. فمعركة الإسلام الأولى لم تكن مع عوائد الناس وطبائعهم، كما لم تكن إصدار الأوامر والنواهي، بل كانت معركة الإسلام الأولى في مواجهة الوثنية والشرك.. كانت في تحطيم الأصنام وإسقاط العبودية لغير الله. وهكذا نجد أن قضية الإسلام الأولى استهدفت تحرير الإنسان، ورد كرامته إليه، باعتباره مخلوق الله المختار وخليفته في إدارة وعمارة الأرض.وإذا كانت قضيتنا اليوم هي مستقبل الإسلام، وما ينتظره أو نتمناه له، فإن العمل الإسلامي، فكراً كان أم ممارسة، لا يمكن أن يؤتي ثماره المرجوة في غيبة الحرية والديمقراطية. إذ أ، أي غرس، مهما كانت ميزاته، لا يمكن أن ينمو بمجرد توفر التربة اللازمة له، حتى وإن كانت مواتية بكل المقاييس والمواصفات. ولكن توفر “ المناخ” المناسب عنصر لا بد منه لكي يبدأ ذلك الغرس رحلة النماء والاخضرار. وإذا فسد المناخ فإن مصيراً مشؤوماً ومحزناً لابد أن يلحق بالغرس، يتراوح بين توقف نموه أو استمراره موصوماً بمختلف أشكال العجز والعاهة، وفي أحسن صوره، فلن تكون الشجرة من جنس الغرس بأي حال.والحرية هي قوام ذلك المناخ الذي ينبغي أن يتوفر لكي تنمو شجرة الفكرة، خالية من التشوهات والعاهات والعقد. إن التفكير الإسلامي لا يمكن أن يستقيم في غيبة الحرية، وغاية ما يستطيعه في مناخ كهذا هو أما أن ينشغل بتوافه وصغائر الأمور، أو أن يهرب إلى حيث يصبح في مأمن من المصادرة والبطش، وذلك ما حدث فعلاً في ظل مرحلة التدهور والاستبداد التي شهدها العالم الإسلامي في العصر العباسي الأول على سبيل المثال. وفي غيبة الحرية ينبغي ألا نتوقع اجتهاداً ذا قيمة، ولا قراءة واعية وعصرية للنصوص، ولا حتى مراجعة مفيدة لكتب التراث التي تخاطب زماناً غير زماننا. خلاصة القول، إذا لم يتنبه الإسلاميون إلى ضرورة إعادة ترتيب الأولويات في نشاطاتهم، وإذا لم يدرك الجميع هذه القيمة الهائلة لقضية الحرية، فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة، نعدو كثيراً، ونلهث كثيراً، ولا نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
|
اتجاهات
متى نعي قيمة الحرية؟!
أخبار متعلقة