دراسة أدبية..بنية النص على رؤية مفارقة
مدخل /بدأ وعي الإنسان بالمفارقة مع قصة الخلق عندما أدرك آدم وحواء ان الثمرة الجميلة الحلوة هي نفسها قبيحة وكريهة وان الشيطان بدا لهما في لحظة من الزمن غير مرادف للشر(1) ثم تغلغت المفارقة بعد ذلك في حياة الناس عبر عصورهم التاريخية تتخذ أشكالاً مختلفة في وعي الإنسان حتى صارت اليوم شكلاً من أشكال الحياة لا مفر منه اذ يتحول الحق باطلاً والعدل استبداداً والمقاومة إرهاباً والحياة سجناً والأمكنة والازمنة تصنع ملامحها مفارقات التباين الثقافي والسياسي والاقتصادي للشعوب لقد أصبحت المفارقة تكتسب أهمية بالغة في حياتنا ـ شئنا أم ابينا ـ ومن العبث ان نتجاوز هذه الظاهرة في إطار منظومة حياتنا لاسيما حقول الابداع منها، ولان الأدب أبرز مظاهر الابداع الإنساني فقد أستوعب هذه الظاهرة عبر تاريخه الطويل حتى صارت تقنية فنية لا تقل أهمية عن باقي تقنيات العمل الأدبي حتى ان بعض النقاد يرى انه من الممكن تحليل النصوص منهجياً وفق تقنية المفارقة لما لها من دلالات فنية ورمزية وأسلوبية(2).( علي حسن العيدروس)وبنظرة خاطفة الى مشاهير الكتاب هوميروس، اسخوليس، سوفكليس، يوربيدس، افلاطون، سقراط، راسين، بوب، فولتير، شكسبير، رستوفيسكي، نجيب محفوظ، يوسف ادريس وغيرهم من تميزت اعمالهم بالمفارقة نجد ان الادب خير من مثل المفارقة وصورها وشكل دلالاتها(3).ان كثيراً من الاختلالات القائمة في حياتنا تكشفها المفارقة فتكتسب بذلك وظيفة إصلاحية وكما ان المفارقة تحاول ان تعيد التوازن لمثل هكذا اختلالات فانها أيضاً تخل ما هو شديد التوازن عندما تحمل الحياة على محمل الجد المفرط مما يعني ان الحياة السوية لا يمكن ان تكون بلا مفارقة لانها ـ أي المفارقة ـ تساعدنا في التخلص من عدد من المكبوتات(4) أو هي احياناً كما قال كوتيه "ذرة الملح التي وحدها تجعل الطعام مقبولاً" (5) وهي بذلك تكتسب وظيفة ازدواجية لتصبح المفارقة جزءاً من بنيتها الكلية.وباكتساب المفارقة صفة تقنية فنية مهيمنة في العمل الادبي من خلال تجليها في عدة مستويات منه لاسيما السرد، الرواية والقصة القصيرة والقصيرة جداً خاصة فانها تصبح شكلاً من اشكال الاختزال والانزياح للدلالات اللا نهائية وتقنية سردية لا يستغنى عنها أديب عند ممارسته للخلق الابداعي عبر منظومة اللغة اذ لا يمكن استخدامها استخداماً فنياً كاملاً الا بعد ان تعيش معه المفارقة ثم تأتيه عفواً(6).وبذلك لم تعد المفارقة عرضاً في النص بل هي اثر بالغ القيمة لدى المتلقي في إعادة انتاجه للنص بما تمنحه للنص من لحظة تنوير مؤثرة تؤدي الى ادهاش المتلقي (7) "فليس ثمة ما يغري بالكتابة مثل نص ابداعي قادر على ان يقارب الواقع ليفارقه يشتد اليه ليتجاوزه في لغة تبدو فيها القصة ذاتها ارحب دلالة من واقعها(8) ولان المفارقة فيها انحراف لغوي يؤدي بالبنية النصية لان تكون مراوغة وغير مستقرة ومتعددة الدلالات فانها تمنح المتلقي صلاحيات أوسع للتصرف وفق وعيه لحجم المفارقة(9).وتعتبر بحوث د. سيزا قاسم ود. نبيلة ابراهيم ود. خالد سليمان وترجمة عبدالواحد لؤلؤة لكتاب سي ميويك في المفارقة وبسام قطوس وما تضمنته من تطبيقات على نصوص سردية مختلفة، تعتبر بداية الاتجاه النقدي العربي للاهتمام بالمفارقة تنظيراً وتطبيقاً في التسعينات باعتبارها ظاهرة لا يمكن تجاوزها في الواقع الادبي المعاصر والحديث، لتنطلق من بعدهم البحوث والرسائل الاكاديمية عند باسم عبدو ونور الدين الجريبي وسعيد شوقي وحسن حماد وحسين عبدالجليل يوسف وابراهيم شبانه.وثمة عدد غير قليل من البحوث القصيرة التطبيقية في السرد العربي لا سيما القصة القصيرة جداً يتوالى نشرها على موقع منشورات اتحاد الكتاب العرب على الانترنت www.arabicstory.net وكذلك على موقع منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق.ان المفارقة من ابرز مظاهر شعرية السرد تعادل في أهميتها وخطورتها الوظيفية نفس الدور الذي يقوم به المجاز في شعرية القصيدة وهي تنفيس فني عن ذكاء الإنسان وتعبير عن قدرته على رفض ما يقال له ونقده وتأويله حتى يتسق مع مالديه من وعي ومعلومات(10).ان عملية المفارقة التي يقوم بها المتلقي انما هي شكل من أشكال الرفض الساخر للجمع بين المتنافرات أوالمتنافرات والمتضادات معاً ترفصها منظومة (11) تكوينه الفكري والثقافي بوساطة فعل الادراك وآلية الفهم لديه للقيام بعمليات الرد ولتعليق والتعويض وملئ الفجوات (12) محدثة في نفسه تأثيراً دراماتيكياً بما تتضمنه من انزياحات تولدها شدة التنافر والتضاد. فلو صورنا له مثلاً اجتماعاً لسلوكي الخير والشر او لسلوكي التقوى والفجور في شخص ما فانه حتماً سيجري مفارقة ستحيله الى مرجعيات يشتغل عليها وعيه حتى يعقلها أو يفهمها ذلك لانها علامة لا يمكن ان تحيط بمفردها بالمعنى بل تتعدى ذلك الى العقل أو الذات المدركة لحدود هذه العلامة(13)، وقياساً على ذلك فان ممارسة الرذيلة في أماكن العبادة مفارقة واحتلال الشعوب باسم تحريرها مفارقة ووصف المقاومة المشروعة إرهاباً مفارقة أيضاً.ان هيمنة المفارقة على المسن الحكائي للنص تجعلها التقنية الابرز في بنيته بل وتمتد في نسيج تكوينه بعلاقات متشابكة، فتارة تتوالد عنها مفارقات في نسق مساره السردي لتعميق وتضخيم حدة مفارقاتها وتارة أخرى تسخر احداث المسار السردي وتنميها لتقودها باتجاه تعميق وتضخيم حدتها ايضاً وتارة ثالثة تتصادم مع احداث النص لتخل بالتوازن الرتيب والنمطية السائدة لمضامينه، بخاصة عندما تحمل فيها الحياة على محمل الجد المفرط وسيقتصر البحث على دراسة وتحليل نموذج عن كل نمط من هذه الانماط الثلاثة.توالد المفارقات في النص لتضخيم حدة المفارقة الامالمتسللون:المتسللون ـ كما هم في النص ـ مجموعة هي في الاصل من أبناء الوطن لكنها تجردت عن انتمائها الوطني وقامت باعمال تخريبية في وطنها تمادت في ضررها لتنال اقرب الناس اليها كالشيخ المسن الذي قتلوه مع أنه أب لاثنين منهم (14) هذه الافعال المتنافرة والمتناقضة مع انتمائهم الطبيعي للوطن والدين هي التي صنعت الرؤية المفارقة التي بني عليها النص ففي الوقت الذي يفترض منهم بناء الوطن والدفاع عنه وعن أهلهم تجدهم يمارسون فيه التخريب والقتل وما يزيد من حدة هذه الرؤية المفارقةهو اعتراف احدهم بخيانته لله والوطن وارتضائه الموت جزاء لجرمه في اشارة تدل على عدم انسلاخه تماماً من انتمائه الطبيعي لوطنه ودينه وأهله "لا تبتئسي يا أماه! فليس لنا من جزاء لما اقترفناه في حق الله والوطن غير الموت(15) لقد دأبت هذه الرؤية المفارقة الى توليد مفارقات متعددة في المتن الحكائي للنص لتقود عملية السرد برمتها نحو تضخيم نفسها وتعميق حدتها إمعاناً في ادهاش المتلقي وخلخلة عمليات الفهم لديه وانتاجها دلالات لا حصر لها كلما امعن في قراءة النص.وبدءاً بالعنوان فقد تولدت عنه مفارقة لدى المتلقي اذ ان الحالة الطبيعية لعودة الأبناء إلى وطنهم ليست عن طريق التسلل فتتسع دلالة المفارقة في العنوان لتبين ذلك التنافر والتناقض في التسلل الى منتمي آخر لا صلة له بالانتماء الطبيعي للدين والوطن كالخيانة واستمراء الجرم لذلك فان الدلالة التي يوحي بها العنوان منذ الوهلة الأولى كعتبة للنص ليست هي نفس الدلالة بعد الشروع او التوغل في قراءة النص اذ ان الحضور المعجمي لمعنى التسلل سيكون هو الطاغي عند عتبة النص بينما نجده سينزاح عن هذا المعنى المعجمي عقب الشروع والتوغل في القراءة للنص لتتجاذب دلالات ناشئة عن المفارقة وتتناسل كلما توالدت المفارقات في النص ولا ينتهي المتلقي من قراءة النص الا ويجد عمليات الفهم لديه قد تكثفت فيها دلالات لا حصر لها سوف لن تقف عند حد معين كلما اعاد قراءة النص وهو ما يجعل النص دائم التجدد في ذهنه واذا تجاوزنا العنوان فاننا سنجد المفارقات تتوالد في النص من خلال اعمال التخريب والقتل التي يقوم بها المتسللون في وطنهم وأهله(16) الأمر الذي أدى إلى تنامي توالد المفارقة بسحق الوطن لهم بالطائرات والمدافع وهم جزء منه فيجي النصر في آخر المطاف على انقاض من يفترض ان ينتظر منهم صناعته(17).وتصل المفارقة في النص إلى أقصى حدة لها عندما تقتل الأم ولديها المتسللين في مشهد دراماتيكي تتضخم فيه المفارقة الأم "اقتربت أم الخير من منزلها ومازال الظلام يلف القرية.. ولكن ما أن اقتربت من باب مسكنها حتى تراءى لها شبح رجلين يحاولان فتح باب منزلها وكأنهما يريدان ان يستترا وراءه وفي لمح البصر صوبت بندقيتها على الشبحين واطلقت رصاصتين اردتهما قتيلين في الحال وما ان اقتربت من جثتيهما حتى صعقت! فلم يكن هذان المتسللان عبر الحدود سوى وليدها الذين كانا مسافرين(18).ان ما يوحي به التعجب بعد عبارة لا تبتئسي يا أماه! يزيد من تنامي المفارقة لدى المتلقي فكيف للأم ان لا تبتئس وهي من قتل ولديها كيف لها ان لاتبتئس وهي ترى بعينيها خيانتهما بعد ان وطنت نفسها على أمل عودتهما ليذودا عن الوطن والأهل "أين هما الآن ليذودا عن الوطن أين هما الآن ليثأرا لدم والدهما"(19) أي بؤس ستعانيه هذه الأم حين تعلم ان من تريده ان يأخذ بثأر أبيه هو احتمال ان يكون قاتله وأي مفارقة حادة يمكن ان تنتج عن ذلك. انها مفارقة تثير دلالات تشبه الى حد كبير تلك الدلالات التي تثيرها مفارقة أوديب حين قتل اباه(20).هذه المفارقة الحادة ليست بعزل عن الرؤية المفارقة في النص او كما سماها البحث المفارقة الام بل لعلها الذرة التي بلغ بها النص تضخيمه للمفارقة الام حيث تصبح المفارقة في النص هي التقنية الابرز في تشكيل بنيته وتمنحه ديناميكية التجدد عبر الأزمنة والأمكنة.ان كل تلك المفارقات بما تفرزه من انزياحات لا حدود لها عبر المسار السردي للنص هي المحرك الأساس لعمليات الفهم لدى المتلقي وكسر توقعاته وتخييب انتظاراته فيتنامي لديه الصراع بين ما يحدث وما يجب ان يحدث بين المنطق واللامنطق بين المعقول واللامعقول متنافرات ومتضادات يجب ان لا تجتمع لكنها تجتمع تجعله لا يقف عند دلالات محددة فثمة تأجيل ابدي للمعنى وقراءات لا نهائية للنص.مصادر وهوامش (1 ـ 2)1/ ينظر المفارقة نبيلة ابراهيم مجلد فصول م7 ع3/ 4 ابريل ـ سبتمبر 1987م2/ بنظر نفسه ص 1403/ ينظر المفارقة وصفاتها سي ميوبيك 15 ـ 16 4/ ينظر نفسه 5/ ينظر نفسه6/ تنظر المفارقة نبيلة ابراهيم 1967/ ينظر الموقف الادبي عدد 384 نيسان 2003م8/ جريدة الأسبوع الادبي عدد 778 6/10/2001م القصة القصيرة جداً عند زكريا تامر يوسف حطيني"9/ ينظر نفسه عدد 894/ 15/3/2003م رسالة الاردن مستجدات نقدية على هامش المفارقات الشعرية محمد المشايخ 10/ المصدر السابق عدد 860 31/5/2003م السرد في الرواية سلام مراد.11/ منظومة التكوين الفكري والثقافي للانسان هي مرجعية لا يمكن اغفالها في تشكيل منظورة للظاهر وقد تتقابل وقد تتقاطع من مجتمع الى آخر او من أمة إلى أخرى لهذا فما نراه نحن مفارقة قد لا يراه غيرنا كذلك او ما نراه نحن شديد المفارقة قد لا يراه غيرنا كذلكوهذا لا ينفي اشتراك الانسانية في منظومة تكوين فكري وثقافي انساني عام الا انه لا يمكن بأي حال من الاحوال اغفال تباين خصوصية بنيات التكوين الفكري والثقافي للإنسان في زامنها ومكانها12/ ينظر نظرية المتلقي 3813/ ينظر نفسه.14/ ينظر مجموعة الرمال الذهبية "المتسللون" 24 عبدالله سالم باوزير15/ نفسه 2416/ ينظر المصدر السابق17/ ينظر نفسه18/ نفسه 26 ـ 2719/ نفسه 2720/ اشارة الى قصة أوديب ملكاً لسفكليس الذي انتج بقتل أبيه مفارقة حادة.