ماذا فعل العالم العربي، بعد مرور خمس سنوات على “التقرير”؟ من يقرأ “تقرير التنمية الإنسانية العربية” للعام 2002، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تتملكه الحيرة من تخبط الرد العربي، سواء من القيادات السياسية أم النخب الفكرية. يلخص السياسي الفلسطيني المعروف ياسر عبد ربه ما جاء في هذا التقرير، وما أشد حاجتنا إلى التذكر والتكرار، فيقول إن التقرير يشير إلى “أن العالم العربي متأخر عن مناطق أخرى في العالم النامي في توسيع المشاركة السياسية وتطبيق الديمقراطية التمثيلية واحترام الحريات.أما على الصعيد الاقتصادي، فأوضح التقرير أن إجمالي الدخل القومي لاثنتين وعشرين دولة عربية أقل من دخل دولة أوروبية واحدة هي إسبانيا، فيما تقع 15 دولة عربية تحت خط الفقر في مصادر المياه (أقل من ألف متر مكعب للفرد سنوياً. ويقدر حجم البطالة السافرة بنحو 15 % من قوة العمل، ومن المتوقع أن يصل عدد العاطلين عن العمل إلى 25 مليوناً بحلول العام 2010، وفي مجال تمكين المرأة، فإن نسبة مشاركة المرأة العربية سياسياً واقتصادياً تُعد الأكثر تدنياً في العالم، فتبلغ نسبة النساء في البرلمانات العربية أقل من 5 %، كما يوجد في العالم العربي 65 مليون أمي، ثلثاهم من النساء، أما على صعيد المعرفة، فإن ما يترجمه العالم العربي سنوياً يبلغ خُمس ما تترجمه اليونان وحدها».هز التقرير القراء والجمهور في كل مكان، وربما خارج العالم العربي أكثر من داخله! وعمد الأميركان بالذات إلى إطلاق مشروع الشرق الأوسط الشامل، فيما اكتفى العالم العربي ببعض الإصلاحات والانتخابات، وتفرغ كتابه ومثقفوه لصب جام غضبهم على المبادرة ونواقصها وسقم نوايا مقترحيها وأهدافهم الخبيثة.ولو كان مثل هذا التقرير المريع قد نُشر في أمة أخرى لقامت الدنيا وقعدت، وعمد الكتاب والمثقفون إلى نبش واقع السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم، وأسباب ضعف الإنتاج وهروب المستثمرين، واهتراء بنية التعليم العام وبؤس المؤسسات الثقافية وانعدام حرية البحث والتأليف، وتسلط القيم الذكورية وحرمان المرأة من المهد إلى اللحد من التربية العصرية، والحقوق الكاملة، وما يجري في المؤسسات السياسية والاقتصادية والخدماتية من تلاعب ونهب وسوء استغلال.بعكس هذا، وكما قلنا مراراً، ترك العرب كل هذا ليتباروا في “تعرية الأهداف الأميركية” و”فضح المصالح الغربية” و”الزحف الاستعماري والإمبريالي القادم” و”التمهيد لتنفيذ بروتوكولات حكام صهيون”، وغير ذلك من الأشباح والغيلان التي تعج بها ثقافتنا السياسية!بم طالب “المشروع الأميركي المشبوه” العرب؟ طالبهم، يقول “عبد ربه” نفسه، في ورقته عن الإصلاح الديمقراطي في فلسطين والعالم العربي، بما يلي: مساعدة اللجان المستقلة للانتخابات مع تركيز خاص على الناخبات، تعزيز قدرات البرلمانات الوطنية من خلال جملة إصلاحات، دعم مشاركة المرأة في اللجان المختلفة، متابعة الإصلاحات القضائية، تعزيز حرية التعبير، تشجيع الحكم الرشيد.انقسمت المقاومة العربية ضد المبادرة إلى مجموعة تحاربها على عدة جبهات:”ثمة من يعتقد أن توقيت المبادرة جاء على خلفية فشل الولايات المتحدة الأميركية في كل من العراق وأفغانستان، وإخفاقها في فلسطين، ونتيجة لاتساع المعارضة العالمية للحرب على العراق، ولهذا عرضت الولايات المتحدة المبادرة على قمة مجموعة الثماني التي عقدت بولاية جورجيا الأميركية في يونيو 2004 لتوسيع رعاية المبادرة. وقد لقيت مبادرة “الشرق الأوسط الكبير” نقداً إضافياً من بعض المثقفين العرب يتصل بالأساس بصدقية صاحب المبادرة، سواء على الصعيد الأخلاقي (بالنظر إلى السياسة الأميركية في فلسطين والعراق) أو على صعيد أولوية الديمقراطية على جدول أعمال صاحب المبادرة، واستمرار الدعم الأميركي للنظم الاستبدادية في العالم العربي. وتعاملت العديد من الحكومات العربية مع المبادرة بتحفظ لأسباب وذرائع مختلفة، منها أن المبادرة تعد تدخلاً في شؤونها الداخلية، وأن المبادرات يجب أن تنبع من الداخل، وأن هناك خصوصية ثقافية للعالم العربي، وأن حل القضية الفلسطينية شرط للإصلاح، وأن الإصلاح على الطريقة الأميركية يؤدي إلى الفوضى والتطرف” (التحولات الراهنة ودورها المحتمل في إحداث التغيير في العالم العربي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2007..غير أن ردود الفعل لم تكن كلها سلبية حتى على صعيد الحكومات، فقد وجدت بعض هذه الحكومات نفسها في وضع حرج سياسياً وإعلامياً مع تعاظم المشاكل الداخلية وتزايد الضغوط في الخارج. ولعل أهم إيجابيات المبادرات الدولية للإصلاح، كما يقول السيد “عبد ربه”، إنها دفعت الحكومات العربية، التي لم تكن تبالي بمطالب الرأي العام الوطني الراغب في الإصلاح في بلادها، إلى الاهتمام به، كما أن مؤتمرات القمة صارت تلتفت إلى مسائل الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد تعهد قادة الدول العربية في “وثيقة العهد”، الصادرة عن القمة العربية التي عقدت في تونس 2 مايو 2004، بـ “مواصلة خطوات الإصلاح الشامل التي بدأتها الدول العربية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة. وتوسيع مجال المشاركة في الشأن العام، ودعم سبل حرية التعبير المسؤول، ورعاية حقوق الإنسان وفقاً للميثاق العربي لحقوق الإنسان، ومختلف العهود والمواثيق الدولية، والعمل على تعزيز دور المرأة العربية في بناء المجتمع».ونشطت مؤسسات المجتمع المدني العربية في مجال دعم حركة الإصلاح، فعقدت مثلاً قمتها الموازية للقمة العربية في بيروت مارس 2002. ولعل أبرز ما أعلنته تلك المؤسسات رفضها التذرع بالخصوصية الحضارية أو الدينية للطعن في عالمية حقوق الإنسان أو الانتقاص منها أو تبرير انتهاكها، وشددت على أنه لا ينبغي توظيف القضية الفلسطينية ومكافحة الإرهاب لتبرير نهج تقييد الحريات أو التنكر للتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان. كما وأكدت هذه المؤسسات، أن المساواة الحقيقية بين النساء والرجال تتجاوز المساواة القانونية إلى تغيير المفاهيم، والتصدي للصور النمطية عن النساء، ولهذا لابد من توفير فرص متساوية للنساء والرجال في المشاركة السياسية وإلغاء أي تمييز ضدهن في التشريعات الوطنية.وعقدت هذه المؤسسات المدنية العربية لقاءات مماثلة في القاهرة في مارس 2004 وعمّان بالأردن في أكتوبر من العام نفسه، وأكدت في بياناتها على أبرز المطالب الإصلاحية وبخاصة في مجال الديمقراطية وفصل السلطات. غير أن وضع كل هذه المطالب والبيانات الختامية موضع التنفيذ في بلدان ومجتمعات العالم العربي ليست بالعملية السهلة كما نعرف جميعاً، وهناك حواجز قوية مكينة سياسية واقتصادية ودينية لابد أن نتحاور حولها بعمق قبل أن تسهل إزالتها. فبعض بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وحقوق المرأة موضع خلاف واعتراض في المجتمعات العربية والإسلامية، والاقتصاد الوطني لا يزال ضعيفاً وفرص العمل قليلة وبيد الدولة أو تحت رحمة الواسطات والوجاهات، كما أن الديمقراطية بشكلها العالمي الليبرالي موضع اعتراض من قبل النخب السياسية والثقافية العربية على حد سواء!من ناحية أخرى، لا تزال المجتمعات العربية تنظر بحساسية هائلة إلى الضغوط والمطالب الدولية حتى لو كانت مجتمعاتنا ستنتفع منها وتتطور. ولقد أعجبت بتحليل طرحه د. عاطف القبرصي في نفس الكتاب الذي نشره مركز الدراسات الاستراتيجية في دولة الإمارات، يحاول أن يتنبأ بمصير الأفكار الإصلاحية داخل جسد الواقع العربي!فإذا كان الاقتصاد الحالي في بلداننا بمثابة “كائن عضوي”، فمن المهم أن نعرف أنه سيطور “أجساماً مضادة” وسيتصدى لأية محاولات هامشية للإصلاح، ويجهضها، إذ لا يشك أحد في أن أولئك المنتفعين من إبقاء الأوضاع على ما هي عليه سيقفون بوجه أية محاولة للتغيير. ومع ذلك، فإن استبدال نظام اقتصادي بآخر قد يكون إجراء متطرفاً نظراً إلى أن “الكائن” الجديد قد لا تكتب له الحياة في ظروف البيئة الجديدة، كما أن تدمير “الكائنات القديمة” قد يجرد مجمل الاقتصاد من حيويته!ولكن العالم العربي، بسبب تأخره الكبير والطويل في معالجة نفسه صار اليوم أمام مشكلة الإلحاح وفقدان فرصة الانتظار. فلم تعد عملية إصلاح الاقتصادات العربية، يقول د. قبرصي، مسألة اختيارية: “فلقد تقلصت دائرة الخيارات إلى حد كبير، وبات العرب أمام خيار قاس، فهم إما أن يتولوا بأنفسهم إنجاز عملية الإصلاح، وإما أن أطرافاً أخرى ستفرضها عليهم قسراً”. العالم العربي أمام مفترق طرق واختيارات واختبارات صعبة مؤلمة. وقد سارت روسيا والصين في نفس الدرب ودول عديدة أخرى. وكلما انتظرنا تفاقمت مشاكلنا واختفت الحلول المتاحة. إن الوضع مصيري وشائك وبالغ الخطورة. ولكننا للأسف نتصدى لكل هذا القادم بأفكار وأحزاب وتيارات لا علاقة لها بالألفية الثالثة. والعولمة![c1]* عن/ جريدة “الاتحاد” الإماراتية[/c]
تحديات التقرير.. ومبادرات الإصلاح
أخبار متعلقة