مفارقات الزمان والمكان والأهداف
سعيد محمد سالمين لم تظهر فكرة العولمة الحديثة إلا في العصر الحديث الذي استهلته أوروبا بالكشوفات الجغرافية العالمية في القرن الخامس عشر الميلادي ، ثم اتبعته بالاستعمار القديم الذي اكتملت حلقاته في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ، واستمرت حتى بعد منتصف القرن العشرين .. ذلك الاستعمار القديم هو الذي وضع الحدود السياسية الجغرافية للدول بقصد ترسيم نصيب كل دولة أوروبية من الغنيمة وليس بأي حال من الاحوال من أجل تجسيد السيادة الوطنية كما نصت القوانين الدولية عليه فيما بعد.وعندما بسطت الدول الأوروبية سلطانها على الدول الأخرى أعلنت بوضوح ان أهداف الاستعمار تتفاوت فيها الدوافع ، فهي حيناً من أجل (تنصير ) المناطق الوثنية في العالم ، وحيناً آخر لأجل (منع تجارة الرقيق ) ، أو نشر الحضارة والعلم ، ولكن قبل كل هذا كانت الأهداف التجارية والاقتصادية هي قمة تلك العولمة القهرية ، فالشركات التجارية الكبرى لجميع الدول الأوروبية المستعمرة كانت قد دخلت الهند واندونيسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وبدأت التعامل مع المواد الخام وفتح الأسواق للانتاج الصناعي الأوروبي ، ثم بعد ذلك مهدت هذه الشركات التجارية الكبرى الطريق للغزو العسكري والسيطرة السياسية لدولها في تلك المستعمرات .لقد فرضت الدول الأوروبية عملية (الأوربة) وكذلك عملية (التغريب) وكلتا العمليتين تمت تحت ستار عملية التحديث ونشر العلم والحضارة .. وقد غطت هذه العمليات الحضارية الثلاث كل نواحي الحياة في الدول المستعمرة ، بدءاً بصياغة فكرها السياسي وتنظيم نشاطها الاقتصادي ، مروراً بمدارسها الإدارية وانتهاءً باساليبها التربوية التعليمية .إن سلطان هذه الانماط الحضارية الأوروبية على الدول النامية جعل هذه الدول تظل بعد استقلالها تحت الهيمنة الحضارية والاقتصادية والسياسية للدول الغربية ، وهذا ما يعرف في أدبيات العلوم الاجتماعية والسياسية بمصطلح (التبعية) .الا يبدو ان الاستعمار القديم وما أعقبه من تبعات حضارية قد أوجد عولمة سابقة أشد قوة وأكثر قسوة وأسوأ اثراً من العولمة القادمة التي يتخوف منها الكثيرون ؟فالعولمة السابقة اخترقت أراضي الآخرين بقوة السلاح والاحتلال والحكم المباشر بل والاستيطان في بعض الحالات ، الأمر الذي مكنها من غرس نظم الحضارة الغربية المادية والمعنوية بالأساليب المباشرة ، أما العولمة القادمة فانها تستأذن حتى الدول الضعيفة والمستضعفة والتابعة في الدخول إليها عبر الاتفاقات الدولية والمنظمات العالمية وشبكات الاتصال ونظم المعلومات .وفي هذا اعتراف بالجانب الآخر يمكن الاستفادة منه وهو ما لم يكن متوفراً في الهيمنة الاستعمارية السابقة .غير ان الرأسمالية الغربية التي كانت المحرك الأساسي لانتشار الاستعمار القديم ، ستعود وهي أكثر قوة تحت مظلة العولمة القادمة لذلك فان سؤالاً مهماً سيظل يلح باحثاً عن اجابة وسط هذه التناقضات والصراعات غير المتكافئة:هل اقتحام الحدود السياسية الجغرافية للدولة عبر اساليب التعولم المستحدثة سيجعل واجهات العولمة صراعاً تربوياً تعليمياً ضد مكونات الوطن الذاتية وخصوصيته ، وتتأكد (نهاية الجغرافيا ) بمفهومها الوطني التربوي التعليمي ؟ وذلك بناءً على ما يهدف إليه التقرير التربوي الأمريكي بان الجغرافيا ستصبح أداة تكوين المواطنين العالميين في الدولة المهيمنة على تيار العولمة ليشاركها مواطنوها النظر من جميع دول العالم ؟إن الصراع الثقافي التربوي التعليمي بين جغرافية الوطن وجغرافية العولمة لم تتضح معالمه بعد .. مثلما لم تتضح في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى ، بسبب الاختلافات العميقة لهذه المجالات على مستوى دول العالم .وعلى الرغم من وضوح المعالم الاقتصادية والتجارية للعولمة القادمة فان تلك المجالات التي لم تتبلور بعد ، دفعت أكبر مفكري العولمة مثل (انتوني فيديز ، وجون مايكلثويت ، وادريان وولدرج ) للاعتراف في احدث مؤلفاتهم ان الدولة يجب ان تبقى اللبنة الاساسية في البناء العولمي الجديد بسبب الخصوصية الثقافية والسياسية والاجتماعية لكل دولة والتي تجعل قدرات التجارب تتفاوت في التعامل مع العولمة الأمريكية .ولهذا ، فان اختراق الحدود الجغرافية السياسية للدول ، حتى في المجال الاقتصادي التجاري وحده ، ناهيك عن المجالات الأخرى ، يعد اختراقاً لحقوق تلك الدول باعتبار ان القوانين الدولية تمنح كل دولة الحق المطلق في إدارة شؤونها وحماية خصوصيتها ، وتبقى قدرة كل دولة للوقوف امام تحديات العولمة الطاغية ، متوقفة على درجة تماسكها الوطني .لان العولمة القادمة تتطلع ـ خلال القرن الحادي والعشرين ـ الى فرض نظام اقتصادي واحد على العالم بالقوة وعبر الشركات العابرة للقارات والمتعددة الجنسيات، وذلك للاستفادة من خيرات الشعوب وثرواتها الأولية ، وتصريف المنتوجات الصناعية الأمريكية والأوروبية في أسواق مفتوحة لها في دول العالم كله بدون عراقيل جمركية أو حواجز جغرافية سياسية ، ومنافسة الاقتصاد المحلي في كل دولة، وسيطرة النموذج الثقافي الواحد ، وتغييب الثقافات المحلية وتذويبها في ثقافة سائدة .كما تسخر العولمة الأمريكية كل وسائل الإعلام العالمية للترويج للنظام العالمي الجديد ، ونشر قيم الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الانسان في كل دول العالم ، مستخدمة في ذلك وسائل الاتصال والتوصيل مثل الحاسوب وشبكة المعلومات العالمية ( الانترنت ) والبريد الالكتروني والقنوات الفضائية المتعددة الأغراض .ويزعم دعاة العولمة القادمة ان الشباب ستتاح له كثيراً من فرص العمل ، وان العالم سيكون موحداً وستزول الحدود الجغرافية السياسية بين الشعوب ، وسيصبح العالم كله قرية صغيرة يحكمه اقتصاد واحد ، وتسوده ثقافة واحدة .وخلاصة القول ، ان مثل هذه الدعوة ليست إلا وهم يستحيل تحقيقه ، لان شعوب العالم تسعى دائماً الى صون موروثها الثقافي ، وتحرص على تأكيد هويتها ، وتحقيق مدى تميزها عن الشعوب الأخرى ، وإيمانها بتعدد وتنوع الثقافات واختلافها في العالم كله .ولكن إذا كانت الوطنية التي ينبغي ان تحمي الدولة من تغوّل وجشع العولمة القادمة ، كائناً هلامياً ، فستكون مهمة العولمة يسيرة في ان تتمدد اقتصادياً كما يشاء لها رأسمالها الغربي ، وأن تتمدد سياسياً وثقافياً كما يريد لها صناع القرار الإعلامي والسياسي العالمي ، عندئذ تختفي أهداف الجغرافية التربوية الوطنية ، وتعود الجغرافيا قائمة على التقسيمات الإقليمية الكبيرة للمناطق العالمية ، كما رآها الجغرافيون المسلمون في العصور الوسطى أمثال الحموي والادريسي وابن حوقل وغيرهم ، كما تريد العولمة الأمريكية ان تراها في القرن الحادي والعشرين .