محمد زكريا:رسائل وردية معطرة و مفعمة بالحب العميق والتقدير الكبير النابعة من القلب إلى القلب إلى مؤرخ اليمن النابغة القاضي إسماعيل بن علي الأكوع بمناسبة بلوغه الخامسة والثمانين من العمر . فقد وهب كل حياته في كتابة تاريخ اليمن الإسلامي بصورة خاصة وتاريخ اليمن بصورة عامة . ومازال القاضي إسماعيل الأكوع - حفظه الله - بالرغم من عمره المديد ، جذوة نشاط وحيوية في كتابة تاريخ اليمن . ومؤلفاته وتحقيقاته في التاريخ تشهد بأننا أمام مؤرخ كبير استطاع أن يغوص في أعماق أحداث تاريخ اليمن الإسلامي فيخرج لنا دُرراً من الأخبار والمعلومات التاريخية التي كانت في النسيان التي لم يكشف عنها النقاب بعد , وأن ينفض الغبار عما كان يشوب بعض الأحداث والوقائع من أخطاء .[c1]" بمناسبة بلوغه الخامسة والثمانين "[/c]فمؤلفات مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع نشرت - بحق - الحضارة اليمنية الإسلامية بصورة مضيئة للآخرين ، وهذا ما لفت الكثير من المستشرقين والأثريين والباحثين الغربيين المهتمين بتاريخ اليمن مثل العالم الأثري الكبير الأستاذ الدكتور الفرنسي كريستيان جوليان روبان ، والمتخصص بالأمثال اليمنية السيد جان لامبير مدير المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء ( سيفاس ) اللذين كتبا عن مناقبه الجمة على الحياة العملية في اليمن وكتب معهما أيضاً تلاميذه الذين تشربوا من تعاليمه القيمة ومبادئه المشرقة في كتاب يحمل عنوان (( المُهاجر إلى العلم في اليمن )) مُهدى إلى القاضي إسماعيل بن علي الأكوع بمناسبة بلوغه الخامسة والثمانين .[c1]وغاص في أعماق البحر[/c]والحقيقة أن مناقب وإنجازات مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع كثيرة ومختلفة ومتنوعة . فقد حافظ على ذاكرة الأمة من النسيان والضياع والاندثار وتمكن - بالرغم من الإمكانيات الشحيحة والكفاءات القليلة والنادرة في ميدان الآثار والتراث والتاريخ - أن يخوض تلك الصعوبات وأن يحقق النجاحات تلو الأخرى بصورة تدعو إلى الإعجاب والتقدير الكبيرين . فقد كان ينحت في الصخر لتنبع منه المياه العذبة السلسبيل ، وغاص في أعماق البحر ليستخرج منه اللؤلؤ والمُرجان . فكان يبحث وينقب في المخطوطات العتيقة المدفونة في السراديب المظلمة والصناديق المغلقة ، ليخرجها من الظلمات إلى النور والضياء, وينفخ فيها الروح مرة أخرى فتتنفس عبير الحياة المشرقة لتروي أحداث ووقائع تاريخ عصرها وذلك من خلال عملية التحقيق ، والضبط ، والتدقيق وهذا العمل يحتاج إلى جهود مضنية وشاقة تستنفذ الصحة ، وراحة البال لا يستطيع القيام بها سوى أولي العزم من المؤرخين النابهين أمثال مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع الذي شرق وغرب في مختلف البلدان العربية والإسلامية والأوربية وغيرها للبحث والتنقيب عن المخطوطات النادرة والنفيسة اليمنية القابعة في مكتباتها بغية نشر الثقافة والتراث والتاريخ اليمني الإسلامي للآخرين ليتعرفوا على الحضارة اليمنية الإسلامية وروائعها التي نشرت الضياء والمعرفة والعلم في مختلف الأمصار التي فتحوها ومكثوا واستقروا فيها على سبيل المثال في الأندلس والتي مازالت آثارهم ماثلة للعيان حتى هذه اللحظة .[c1]القاضي إسماعيل والمخطوطات [/c]وكيفما كان الأمر ، فقد كان للمؤرخ الفذ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع دورًا غاية في الأهمية في تجميع عدد غير قليل من المخطوطات في خارج اليمن ، وداخله ، والعمل على تحقيقها ، فالعناية بالمخطوطات تعني الحفاظ على ذاكرة الأمة من النسيان - كما أشرنا سابقاً - أو قل إذا شئت استحضار ذاكرتها . ونورد ما ذكره الأستاذ هشام علي بن علي عن دور مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع في الحفاظ والعناية الكبيرين بالمخطوطات ، فيقول : " وللمخطوطات حضور مؤثر في حياة القاضي إسماعيل وعمله . فهو مؤسس لهيئة الآثار والمخطوطات ولدار المخطوطات في صنعاء التي استطاعت أن تجمع عددًا هائلاً من المخطوطات اليمنية ، وقد قام القاضي إسماعيل بالتحقيق والدراسة لعدد من تلك المخطوطات . ارتبطت حياة القاضي إسماعيل بتحقيق المخطوطات ، ورحل إلى الشرق والغرب ، باحثاً عنها ، منقبًا في آثارها ، جامعًا المؤتلف والمختلف منها " . ويضيف هشام علي بن علي ، قائلاً : " لقد أدرك قيمة النص المخطوط ، ليس باعتباره وثيقة تاريخية وحسب ، بل لأنه يقدم صورة شاملة عن العصر الذي ينتمي إليه ، طريقة الخط والشكل ، الغلاف الذي يجلد المخطوط ، طبيعة الاستهلال، الحواشي المكتوبة على النص ، كل هذه الأمور تحمل معاني ودلالات كان القاضي إسماعيل يجهد لمعرفتها واستخلاص ما تمثل من معانِِ ِ " . [c1]الجراح الماهر[/c]والحقيقة أن مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع عندما يقوم بعملية تحقيق المخطوطات فهو يقوم بعملية جراحية دقيقة ومتقنة تكون نتيجتها إنقاذ المخطوطة من مرض النسيان والاندثار وذلك من خلال إخراج حوادثها إلى السطح ليطلع عليها الباحثون والمهتمون بتاريخ اليمن دون أن يشوبها شائب أو بعبارة أخرى يستأصل الأخبار والمعلومات التي تجافي الحقيقة من سطورها ويزرع فيها المعلومات الصحيحة فهو أشبه بجراح ماهر يقوم بعملية جراحية ناجحة بكل المقاييس . ومن يطلع على المخطوطات التي حققها يرى ويلمس الصبر والتأني والتركيز الكبير من ناحية وغزارة وعمق ثقافته من ناحية وحبه العميق في تحقيق المخطوطات . وهو يلوم بعض المحققين الذين لا يتمهلون ولا يتعمقون بقراءة نصوص المخطوطة فتخرج حوادثها إلى السطح مهزوزة مبتورة مضطربة فتفقد أهميتها التاريخية . وفي هذا الصدد ، يقول هشام علي : " كان التحقيق بالنسبة للقاضي إسماعيل ، إعادة تكوين وإعادة إنشاء للنص القديم ، فهو لا يكتفي بالمقارنة والتوثيق بين عدة مخطوطات لكنه يتعمق في روح النص كأنه يعيد كتابته. ولذلك كان يعيب على المحققين الآخرين ، الاستعجال في قراءة النصوص وإخراجها قبل أن تستوفي حقها من البحث ، يرفض القاضي إسماعيل ذلك الشكل الظاهر أو العام من تحقيق النصوص " . ويزيد هشام علي في توضيح الصورة عن أسلوب ومنهج القاضي إسماعيل الأكوع في تحقيق المخطوطة أو المخطوطات ، قائلاً : " والتحقيق عنده نوع من تفكيك للنص وإعادة تركيبه ، إضافة إلى عملية حفريات أركيولوجية ولغوية في ذلك النص المخطوط " .[c1]من ينابيع الثقافة الإسلامية[/c]ومؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع عندما كان طالبًا نهل من ينابيع الثقافة الإسلامية وفروعها المختلفة والمتنوعة مثله مثل طلاب العلم في عصره . فقد تتلمذ على يد الكثير من العلماء الإجلاء والفقهاء الكبار . وهنا ربما كان مناسبًا ، أن نقتبس فقرة من كلام الأستاذ محمد عبد الرحيم جازم عن المنهج التعليمي والحياة الثقافية اللذين كانا سائدين في عصره وفي اليمن حينئذ ، فيقول : " ... فلما بلغ الخامسة عشرة من عمره اعتم ( لبس العمامة ) في عيد الأضحى سنة 1353هـ 1934 م ) كما هي العادة عند طبقات الفقهاء والعلماء ، ثم التحق بـــ ( المدرسة الشمسية ) ، فأخذ في حفظ بعض المتون المختصرة في النحو ثم المطولة كألفيه ابن مالك في النحو ، ومتن الكافل لابن بهران في أُصول الفقه ، ومتن التلخيص في المعاني والبيان والبديع للقز ويني ، ومتن ( الدراري البهية ) في فقه السُنّة للإمام الشوكاني ، و ( العمدة ) لتقي الدين المقدسي التي تضم 4190 حديثاً مما اتفق عليه البخاري ومسلم ، ثم أخذ في قراءة شروحها المختصرة والمطولة لدى شيوخه وفي مقدمتهم والده الذي أفاده كثيرًا ، ولا سيما في فقه السُنة " . تلك الأجواء الثقافية هي التي كانت سائدة في المجتمع اليمني في عصر القاضي إسماعيل الأكوع والتي سبق أن أشرنا إليها . [c1]المدرسة التاريخية التقليدية[/c]وقادت تلك الثقافة الإسلامية التقليدية التي سادت عصر مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع - كما أشرنا في السابق - الكثير من المؤرخين والمهتمين بكتابة التاريخ إلى منهج مدرسة التاريخ الإسلامي التي من " ... أصولها الأولى ... الإسناد وضبط التوقيت والترتيب على السنين ، مع الكتابة الواسعة المفصلة التي تتضمن الأمور السياسية والاجتماعية إلى جانب شيء من التراجم والجغرافيا والتنجيم والفلسفة ، مع استخدام السجع أحياناً أو الشعر أحياناً أخرى لإظهار المقدرة على الكتابة أو سعة الثقافة والإطلاع ، ظل هذا كله الصفات العامة التي التزمت بها الكتابة التاريخية خلال تطورها الطويل ، رغم تنوع صورها أو اختلاف مواضيعها " . والحقيقة أن العديد من هؤلاء المؤرخين لم يستطيعوا الفكاك من شباك تلك المدرسة التاريخية التقليدية بالرغم من دخول اليمن فجر القرن العشرين . والحقيقة أن هؤلاء المؤرخين القدامى كانوا ينقلون حرفيًا وقائع التاريخ وأحداثه كما سمعوها أو قرؤوها حتى إذا ملئت بالغرائب والعجائب والخرافات التي تقفز على حاجز العقل والمنطق دون الوقوف عندها وتحليلها وشرحها وتفسيرها . [c1]المؤرخ الحقيقي[/c]ولكن مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع تحرر من قيود أسلوب المؤرخين القدامى التقليدي ونأى بجانبه عنهم ، فوضع نصب عينيه ضرورة دراسة التاريخ وحوادثه تحت مجهر منهج البحث التاريخي والذي قوامه وأساسه فحص ونقد وتجريح النصوص التاريخية من ناحية والتجرد من الأهواء والعواطف السياسية والمذهبية من ناحية ثانية للوصول إلى قمة الحقيقة التاريخية وتلك هي صفات المؤرخ الحقيقي الذي ينفض الغبار ويزيل الشوائب العالقة في الحوادث والوقائع التاريخية ويبحث فقط عن الحقيقة التاريخية . ومن يستقصي مؤلفات المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع سيلفت نظره التحليل العميق في دراسة الحوادث التاريخية, وفهمه الكبير لمصطلحات العصر الذي يكتب عنه وهذا يتطلب مؤرخاً ذا ثقافة واسعة بالعلوم المتصلة بدراسة التاريخ وكتابته - على حد قول الدكتور حسن عثمان في صفات المؤرخ الحقيقي - والجدير بالإشارة أن المؤرخ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع إلى جانب تحليلاته وتفسيره العميقين للحوادث التاريخية المجردة فإنه يشرحها بأسلوب سلسل ويضفي عليها لغة أدبية رفيعة تجسد تلك الحوادث تجسيداً حيًا ولذلك السبب عندما نقرأ مؤلفاته نشعر بأن الشخصيات التاريخية تكاد تتحرك ، وتتكلم ، ونحس بأنفاسها الحارة وأنها تكاد تطل من السطور. فكتابته في التاريخ ليس عرض الحوادث المجردة وإنما ينفخ فيها من روحه الأدبية لتسري في أوصالها الحيوية والنشاط . [c1]الأمثال اليمنية[/c]ويستحضر الأستاذ جان لامبير مدير المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء ((سيفاس )) كيف التقى بالقاضي إسماعيل الأكوع في اليمن الذي فتح له كتابه (( الأمثال اليمنية )) روائع من التراث الشفهي اليمني الذي اعتبره جان لامبير تراثاً مليئاً بالصور المطرزة بالجمال ، والرقة ، والرواء . وربما هنا كان مناسبًا أن نقتبس فقرة من كلامه عن لقائه الأول بالقاضي إسماعيل الأكوع وما وتمخض عنه ، فيقول : "وحيث أن الفرصة متاحة أمامي لسرد بعض الذكريات الشخصية التي جمعتني بالقاضي إسماعيل الأكوع ، أود أن أذكر منها أنه حين بدأت أبحاثي في اليمن في مطلع الثمانينات من القرن الماضي ، كنت في عز شبابي وكان القاضي إسماعيل الأكوع بالنسبة لي عًالمًا كبيرًا يصعب الوصول إليه . لقد كان يمثل بالنسبة لي أفقاً واسعًا بلا حدود . ومثالاً على ذلك الأدب الشفهي في اليمن ، ذلك المجال غير المتوقع بالنسبة لعالم مثقف في مكانته وعلمه والذي حقق من خلاله كتابًا مرجعيًا غاية في الأهمية " . [c1]رائد الثقافة والتراث اليمني [/c]ويمضي جان لامبير في حديثه : ويعتبر هذا الكتاب " الأمثال اليمنية " دون أدنى شك ، أول الكتب التي عرفتني بالعالم الرائع للأدب الشفهي في اليمن وأخص بالذكر أحد الأمثال التي أعجبتني كثيرًا وهو " جرادة على مشفري ولا بربري في الصَّرَاب " . وقد شغل هذا المثل بالي وأثار فضولي حينها أولاً لأنه كان صعبًا من الناحية اللغوية لدرجة عجزت معها أن أفقه أي كلمة فيه إلا عندما عرفت ما يقابله من مَثَل في اللغة الفرنسية " شيء تملكه أحس من شيئين سوف تملكهما " بمعنى " عصفور في اليد ولا عشرة على الشجرة " . ويصف مدير المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية ذلك المثال ، فيقول : " وهكذا فإن المثل اليمني أكثر جمالاً حيث إنه ملئ بالصور البلاغية والشعرية مقارنة بالمثل الفرنسي . وكان كل ذلك بمثابة دعوة للتعمق في معرفة مكنون هذه الثقافة التي حفزتني للخوض في هذا المجال كأنتروبولوجي " ويختم الأستاذ جان لامبير حديثه عن مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع ، فيقول : " في الختام ، يفخر المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء ( سيفاس ) بإهداء هذه المختارات والمقتطفات للقاضي إسماعيل الأكوع تكريمًا لصفاته وخصاله العظيمة كباحث وكرائد للثقافة والتراث اليمني " . [c1]مآثره الثقافية[/c]ويكتب عالم الآثار الفرنسي الأستاذ الدكتور كريستيان جوليان روبان عن مآثر ومناقب مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع في مساعدة الباحثين والمهتمين بتاريخ المجتمع اليمني وكذلك دوره الفعال في تنشيط الحياة الثقافية وهي إقامة عدد غير قليل من المتاحف , والمكتبات ، والعناية بميدان الآثار من خلال البعثات الأثرية الأجنبية التي قامت بدور كبير لافت للنظر في عملية البحث والتنقيب عن الآثار اليمنية . كما أولى عناية خاصة بالمخطوطات لكونها تمثل المرجع الرئيس لتاريخ اليمن الإسلامي , وضرب بسهم وافر في ميدان التأليف في تاريخ اليمن الإسلامي لتعريف الآخرين خصوصية الحضارة اليمنية . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور كريستيان جوليان : " إن كل من ساهم في هذا الكتاب من زملاء القاضي وأصدقائه الناشطين قام بمساعدتهم كثيرًا في أولى أبحاثهم عن تاريخ اليمن وذلك عن طريق اقتراح موضوع لرسالة البحث أو ذكر مصادر المخطوطات الأكثر أهمية كما أنه ساعد كثيرًا في توضيح أي تعبير غامض أو في التعرف على أي مكان وأي شخصية كانت وساعد كل من رغب في فك رموز تعقيد المجتمع اليمني " . [c1]تاريخ آل الأكوع [/c]ويذكر كريستيان جوليان أن أسرة آل الأكوع تحفل بالعلماء الكبار تمتد أصولها حتى القرن السادس الهجري ( الثاني عشر الميلادي ) بل أن لها جذوراً تعود إلى تاريخ اليمن القديم . وفي هذا الصدد ، يقول : " فإن القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ليس قاضِِياً بمعنى " حاكم " كما يمكن أن نعتقد بل إنه ينحدر من عائلة عريقة من العلماء والتي تمتد جذورها حتى القرن الثاني عشر الميلادي عصر الإمام الزيدي المنصور بالله عبد الله بن حمزة ( 1187/ 1188وحتى 1217م ) " . ويضيف ،قائلاً : " وأصوله ( أي القاضي إسماعيل الأكوع ) تعود لقبيلة مرهبة ( في الشمال الشرقي من خَمِر ) وفي شبام ــ كوكبان . ومن الممكن القول بأن لعائلة الأكوع أصولاً ضاربة بالقدم وذلك من خلال اقتناع محمد الأخ الأكبر للقاضي إسماعيل الأكوع الذي توفى مؤخرًا ( 1998م ) والذي ربط الأسرة بأسرة ( السلالة ) الحاكمة الوحيدة في اليمن في العصر الإسلامي هم " بنو يعفر " الذين يدعون أيضاً " الحواليون " تعود أصولهم إلى ما قبل الإسلام وذلك لأن الاسم ( أو اسم مشابه ) قد وجد مسجلاً في النقوش المسندية التي وجدت في قرية يشيع ( جنوب خمر ) في بداية العصر الميلادي ، ويُدعى نقش " بنو حولي " .[c1]هجر العلم ومعاقله[/c]ويتطرق عالم الآثار الفرنسي جوليان إلى عدد من مؤلفات القاضي إسماعيل الأكوع القيمة في تاريخ اليمن الإسلامي فهو يتناول باستفاضة المجلدات الضخمة التي حملت عنوان (( هجر العلم ومعاقله في اليمن )) ، فيصفه قائلاً : " إلا أن الكتاب الذي لفت الانتباه أولاً هو الكتاب العظيم والقيم " هجر العلم ومعاقله في اليمن " بأجزائه الخمسة والذي نشر في العام 1995م ( 1416هـ ) . وهو عبارة عن سجل دقيق وشامل للمؤسسات والقرى التي تمتعت ( وربما لا زالت تتمتع ) بنظام " هجرة " وهو عبارة عن قانون يمني بحت , وبشكل خاص في المناطق الشمالية التي يوجد لها أيضاً مسميات أخرى في اليمن ( الحوطة الحَرَم ) والتي توضح إمكانية وجود ما يماثلها قبل الإسلام . لذا فإن الهجرة محصورة بشكل أساسي في المجتمع القبلي يستقر فيه رجال الدين وفي مقابل الخدمات المختلفة التي يقدمونها ( تدريس أسس الدين ، الخبرة الشرعية ، تحرير الأحكام القضائية والأعمال القانونية والتحكيم ، ... إلخ ) يحصل هؤلاء الرجال على الأراضي التي تدعم وجودهم وحمايتهم خصوصًا ضد العنف القبلي " . ويضيف ، قائلاً : " وعادة يستقبل المهاجرون أحفاد الرسول الكريم محمد ( ص ) والذين يدعون بــــ ( الشريف ) و ( السيد ) وفقاً للعقيدة وروح العصر . ففي المجتمع القبلي يكون مكوث مثل هؤلاء الأشخاص مرغوبًا فيه حيث يعتبر مصدرًا للبركة ، وفضلاً عن ذلك من المألوف أيضا أن ضريح مؤسس الهجرة يغدو مكاناً مبجلاً وموقرًا بشكل خاص " . [c1]كتب متميزة أخرى[/c]وعن الكتب القيمة والمميزة التي ألفها مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع يذكر كريستيان جوليان وهي المدارس الإسلامية في اليمن ، و (( البلدان اليمانية عند ياقوت الحموي )) والجدير بالإشارة أن القاضي إسماعيل قام بجمعها وتحقيقها وبين مواضيعها . وأشار كذلك إلى عدد من المقالات العلمية التي حررها القاضي إسماعيل في تاريخ اليمن وأهمها في - رأي - عالم الآثار الفرنسي بحث سلط الأضواء " على " جمع " يمني بحت استخدم بشكل خاص للنسبة لأسماء القبائل: هذا الجمع على صيغة " أفعول " أو " أفعل " . لقد حملت هذه المقالة عنوان " افعل " . [c1]نضاله السياسي [/c]ويذكر الدكتور كريستيان جوليان دور القاضي إسماعيل الأكوع على مسرح اليمن السياسي في عهد حكم الإمام يحيى وأبنه أحمد وأنه سجن في عهدهما . وفي هذا الصدد ، يقول : " ولم يكن القاضي إسماعيل الأكوع عالمًا فقط بل كان مواطناً يمنيًا يعني بالنضال السياسي في عصره مما جعله عرضة للسجن خلال حكم الإمامين يحيى وأحمد وذلك في قلعة حجة " .[c1]رئيسًا للهيئة العامة للآثار[/c]ويشير كريستيان جوليان أيضاً إلى بصماته البيضاء على جبين الحياة الثقافية في اليمن عندما تولى رئاسة الهيئة العامة للآثار وأستطاع أن يسير بها خطوات علمية ثابتة وواسعة بالرغم من شحة الموارد المالية , وندرة الكفاءات العلمية . وهنا ربما يكون مناسبًا أن نقتبس فقرة من كلام الدكتور عالم الآثار الفرنسية عن إنجازات مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل في ميدان الآثار والتي مازالت حتى هذه اللحظة تشهد بدوره الرائد والكبير أثناء رئاسته للهيئة العامة للآثار ، فيقول : " لقد تحمل القاضي إسماعيل الأكوع مهمة إنشاء كافة القطاعات الخدمية الحديثة وذلك بصفته مسؤولاً عن الآثار وهي الإدارة التي ترتبط بها المكتبات والمخطوطات والمتاحف وتمت تلك الإنجازات في ظروف صعبة بسبب عدم توفر الإمكانيات والكفاءات اللازمة " . ويضيف ، قائلاً : " وبعد مضي خمسة عشر عامًا على انتهاء رئاسته الأخيرة عام 1990م ، يمكننا لمس النتائج الإيجابية التي تمت إبان رئاسته للهيئة العامة للآثار حيث تم إنشاء العديد من المتاحف والخدمات المحلية في مجال الآثار في معظم الأقاليم كما تم افتتاح أولى عمليات التنقيب الأثري عن طريق البعثات الأمريكية ، والإيطالية ، والألمانية ، والفرنسية إضافة إلى بعثات الهيئة نفسها . كما تم أيضاً الانتقاء والحفاظ على المخطوطات حسب الأقدمية : المخطوطات القرآنية الضاربة في القدم والتي تم اكتشافها مؤخرًا في خوان ( سقف تحت السقف الأصلي ) الجامع الكبير بصنعاء عام 1937م والتي كانت السبب في قيام هذا المشروع المهم للحفاظ على المخطوطات والنقوش " . وفي ختام مقالته أو رسالته عن مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع يشير إلى العلاقة الإنسانية التي أقامها مع العاملين والموظفين إبان رئاسته في الهيئة العامة للآثار والذين مازالوا حتى هذه اللحظة يتذكرون عطفة وحنانه الكبيرين عليهم . وفي هذا الصدد ، يقول عالم الآثار الفرنسي : " وعلى الرغم من أهمية هذا السجل وقيمته إلا أن كل من عمل تحت رئاسة القاضي إسماعيل بن علي الأكوع وجميع مساعديه يتذكرون بحنين رفقه وعطفه . ولقد سعدوا كثيرًا بالتعبير عن عميق تقدريهم وامتنانهم من خلال هذا الكتاب التكريمي لشخصه الكريم " .[c1]"معين صاف"[/c]وفي واقع الأمر ، إن مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع منذ صغره كان مغرمًا بالسفر حيث يرى فيه متعة وتسلية للنفس من ناحية والإطلاع على ثقافات وعادات وتقاليد الآخرين من ناحية أُخرى . والحقيقة أن رحلاته وسفره إلى البلدان سواء العربية أو الإسلامية ، أوالأوربية أوأمريكا كان الهدف منها البحث والتنقيب عن مخطوطات اليمن القابعة في مكتباتهم والعمل على تصويرها وإخراجها إلى حيز الوجود وذلك من خلال تحقيقها ونشرها . ولقد أتاحت سفرياته إلى مختلف بلدان العالم فرصة كبيرة ليتعرف عن كثب على الكثير من المؤرخين العرب والمستشرقين الغربيين و كان دور مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع أن بيَّن ، وأوضح لهم الكثير من الحضارة اليمنية بصورة خاصة وتاريخها القديم بصورة عامة . ولقد دعا الكثير من هؤلاء المؤرخين العرب سواء المهتمون بتاريخ اليمن القديم أو تاريخه الإسلامي إلى اليمن ، كما دعا عددًا من المستشرقين الغربيين ليطلعوا عن كثب على تاريخه. ولقد أنبهر هؤلاء المستشرقون بتاريخ اليمن فألفوا العديد من الكتب القيمة والمقالات العلمية الجادة فيه . والحقيقة لقد كان مؤرخنا الكبير القاضي إسماعيل الأكوع مرجعًا للمؤرخين العرب وغير العرب في تاريخ اليمن . وهذا ما أكده الباحث الأستاذ إبراهيم باجس عبد المجيد بقوله : " ومازال (حفظه الله) معيناً صافيًا ينهل منه كل من رام معرفة شيء مما يخص اليمن ، وهم يزيدون يوما فيوم ، فبارك الله في عمر الشيخ وعلمه " .[c1]" أفضل هواياتي "[/c]قلنا سابقاً : أن مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع صافحت عيناه السفر منذ كان صغيرًا لم يتجاوز العاشرة من عمره . وكانت أول معرفته بالسفر عندما سافر من ذمار إلى مدينة إب سنة ( 1348هـ / 1929م ) . وهنا ربما يكون مناسبًا أن نقتبس فقرة من كلام الأستاذ الباحث إبراهيم باجس عبد الحميد عن الرحلة الأولى في حياة القاضي إسماعيل الأكوع والتي غرست في نفسه الصغيرة حب السفر والتجوال داخل اليمن وخارجه ، فيقول " يقول الشيخ عن رحلاته : بدأت السفر منذ العاشرة من عمري ، حينما سافرت مع والدي رحمه الله من مدينة ذمار ( *) إلى مدينة إب ( *) سنة 1348هجرية ، وأصبح السفر منذ ذلك الوقت من أفضل هواياتي ، وأجد فيه متعة وفائدة كبيرتين . ومن خلال السفر زرت كثيرًا من الأقطار من بروناي ، والصين , وإندونيسيا ، وماليزيا ، وسنغافورة شرقاً إلى أمريكا وكندا , كوبا غربًا " . وأكد الأستاذ إبراهيم باجس من تجربته الشخصية بالقاضي إسماعيل الأكوع عن حبه العميق للسفر والرحلات ، فيقول : " كانت بداية معرفتي بشيخنا القاضي إسماعيل بن علي الأكوع منذ أكثر من عشرين سنة أثناء أحدى زياراته للأردن مشاركًا في ندوات المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية. ولقد لمست في شيخنا - حفظه الله - حبه للسفر والتجوال داخل اليمن وخارجه ، فلم يدع مدينة ولا هجرة في اليمن إلا زار أكثرها ، وأطلع على معالمها ، وتعرف إلى أهلها وعلمائها , وكذلك الأمر بالنسبة إلى بلدان العالم ، فزار الدول العربية جميعها ، وكثيرًا من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية " . في واقع الأمر ، إلى جانب صفات مؤرخنا القاضي إسماعيل الأكوع والمتمثلة بثقافته الواسعة ، وغزارة علمه ، وتواضعه الجم والتي هي من سمات العلماء [c1]"شجرة لا تتوقف عن الإزهار "[/c]الإجلاء هي أن في قاموسه لا توجد كلمة مستحيل فهو يصارع أمواج الصعاب العاتية ويمخر عبابها فيصل إلى شاطئ النجاح . وهذا ما أكده الأستاذ محمد عبد الرحيم جازم عندما وصف القاضي إسماعيل الأكوع ، قائلاً : " القاضي والعالم إسماعيل بن علي بن حسين بن أحمد الأكوع عامه الخامس والثمانين يجسد الشخصية اليمنية الفذة التي تماثل في كثير من أحوالها أشجار بلاد اليمن التي تنمو في وسط الصخر الأصم لجبال اليمن الشامخة والتي تكافح في بيئة قاسية وفي ظروف غير مواتية للخروج إلى نور الحياة متحملة آلام رحلة الخروج الصعب من مسام الصخر الصلد للتحول إلى شجرة معمرة لا تتوقف عن الإزهار وطرح الثمار بصورة ذائمة" . [c1]صورة مليئة بالإنسانية[/c]ويرسم الأستاذ الدكتور عبد الرحمن عبد الواحد الشجاع صورة للقاضي إسماعيل الأكوع ألوانها العاطفة الأبوية ، وظلالها الحنان الدافئ ، فيصفه ، قائلاً : " لم تكن العلاقة - يومذاك - بيني والأستاذ القاضي إسماعيل بن علي الأكوع رئيس الهيئة العامة للآثار ودور الكتب علاقة علم ، وإنما علاقة موظف برئيسه .. والفروق بيننا كبيرة " . ويمضي في حديثه : " ولكن يشاء الله أن تتوثق العلاقة بيننا بشكل أعمق والتي تميزت بحنو الأبوة وعطفها ، ولم تكن المخاطبة بيننا إلا بلفظ ( الوالد ) و ( الولد ) .. ورغم أنني تسلمت عملي في دار الكتب بتاريخ 20/ 9 / 1973م إلاّ أن القاضي وافق على منحي إجازة لقضاء شهر رمضان في تعز بين أهلي تبدأ من 4 / 10/ 1973م ، وكانت العبارة الحانية للوالد القاضي إسماعيل الأكوع ردًا على طلبي : " حفظكم الله ، لا مانع من ذهابكم لزيارة أهلكم لمدة رمضان ، والحضور عقب العيد مباشرة .. " . [c1]المعلم والمربي الفاضل[/c]وتحت عنوان : القاضي العلامة الأستاذ إسماعيل بن علي الأكوع معلمًا ومربيًا ، أشاد الأستاذ الدكتور عبد الواحد عزيز الزنداني بالقاضي إسماعيل الأكوع بدوره الكبير وأياديه البيضاء عليه ، فيقول " ويعود إلى القاضي إسماعيل الأكوع الفضل في تشجيع والدنا ــ رحمه الله ــ على ابتعاثنا إلى مصر لاستكمال تعليمنا . وعلى الرغم من انقطاعنا عن معلمنا ومربينا لمدة طويلة من الزمن فإننا ظللنا متعلقين به ومقرين بفضله علينا " . ويسترسل في حديثه : " والظاهر أن أستاذنا الفاضل كان ـــ ومازال ــ يحمل مشاعر الرعاية والحنان تجاه تلاميذه . ومن مظاهر ذلك أنه استمر في أداء توجيهاته لنا حتى وإن كان بعضنا قد عين في مناصب عالية . فلم يكن يبخل علينا بالنصح والإرشاد وبطريقة لا تشعرنا بأنه لا يزال المعلم والمربي " . وفي نهاية حديثه ، يقول " وفي النهاية يحق لنا أن نفتخر بكونه معلمنا ومربينا . ولا نملك إلا دعاءنا الصادق له بأن يجزيه الله جل وعلا خير الجزاء عن كل ما قدمه لنا " . [c1]الهوامش : [/c]إعداد : أ. د . كريستيان جوليان روبان ، أ . محمد عبد الرحيم جازم ؛ المُهاجر إلى هِجَر العلم في اليمن ، سنة الطبعة 2006م ، المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول 1538 - 1635م ، سنة الطبعة 1971م ، الجمعية المصرية للدراسات التاريخية . الدكتور حسن عثمان ؛ منهج البحث التاريخي ، الطبعة الثالثة المنقحة ، سنة الطبعة 1970م ، دار المعارف - القاهرة - . ولمزيد من المعلومات عن تاريخ آل الأكوع ، أقرأ كتاب (( تاريخ أعلام آل الأكوع )) لمؤلفه القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، الطبعة الأولى 1411هـ / 1990م ، دار الفكر المعاصر - بيروت - لبنان . ولمزيد من المعلومات عن السيرة الذاتية للقاضي إسماعيل الأكوع ، أقرأ كتاب ( إسماعيل بن علي الأكوع ) لمؤلفه إبراهيم باجس عبد المجيد المقدسي ، الطبعة الأولى 1426هـ / 2005م ، دار القلم - دمشق - . ( * ) ذَمَار : " بالفتح مدينة كبيرة جنوب صنعاء 95 كلم ، يعود تاريخها إلى القرن الأول للميلاد ، وقد سُمّيت باسم ذَمَار على يَهبر ملك سبأ وذو رَيدَان ( 15 ــ 35 م ) ... وهي في سهل زراعي منبسط وموقعها يتوسط بين صنعاء ومدن الجنوب / كان لها دور تاريخي قبل الإسلام ثم اشتهرت كواحدة من أهم مراكز الإشعاع العلمي في اليمن " . المرجع : إبراهيم أحمد المقحفي ؛ معجم البلدان والقبائل اليمنية - الجزء الأول ، سنة الطبعة 1422هـ / 2002م ، دار الكلمة للطباعة والنشر والتوزيع - صنعاء - الجمهورية اليمنية .إبّ : " بكسر الهمزة ، مدينة جنوبي صنعاء 140كلم ، تقوم علىَ ربوة بالسفح الغربي لجبل رَيمَان من بَعدَان . وترتفع عن سطح البحر 6220 قدمًا . وهي قديمة الاختطاط ترجع إلىَ عهد الدولة الحميرية " . إبراهيم أحمد المقحفي ؛ المرجع نفسه .
|
تاريخ
رسائل حب في مؤرخ اليمن القاضي إسماعيل الأكوع
أخبار متعلقة