ذكرتنا سماء بيروت صباح أمس بسماء مدينة الكويت عام 1990 بعد خروج القوات العراقية الغازية التي أشعلت آبار النفط انتقاماً لفشلها. فالمعارضة اللبنانية مارست انتقاماً هي الأخرى لفشل اعتصامها السابق الذي تجاوز الخمسين يوماً من دون أن يحقق أهدافه، فأشعلت الإطارات ولبدت سماء بيروت بدخان اسود كثيف في إشارة إلى مستقبل هذا البلد، وانتقلت من الاعتصام إلى انقلاب شل الحياة الطبيعية في جميع أنحاء البلاد، فمع بزوغ فجر الثلاثاء سدت الشوارع بالسواتر الترابية والدواليب المحروقة، ومنعت حركة المرور ومنع الناس من الذهاب إلى مدارسهم ومكاتبهم وأعمالهم، وخلال ساعات قليلة استفزت ملامح «الإضراب»، وان شئت الإرهاب، مشاعر الناس، فجرت اشتبكات بالحجارة بين أنصار المعارضة والحكومة، فذكرتنا بيروت مرة أخرى بمشاهد تراشق الحجارة في شوارع المدن الفلسطينية المحتلة بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، فسقط عدد من القتلى والجرحى وبات الوضع مفتوحاً على احتمالات خطيرة. إن «الإضراب» القسري الذي عاشه الشعب اللبناني أمس وضع لبنان على مفترق طرق خطير، فإما ان تستمر المعارضة في هذا التصعيد وصولاً إلى تدمير البلد اقتصادياً وسياسياً، او تنجح في إسقاط الحكومة فتحكم على لبنان بعزلة دولية تماماً كما يحدث للفلسطينيين، فالمجتمع الدولي الذي يقف مع لبنان في مؤتمر «باريس 3» سيجمد كل دعم للبنان في حال نجحت المعارضة في إسقاط حكومة السنيورة، فضلاً عن أن اللبنانيين سيواجهون حصاراً دولياً، فوصول المعارضة إلى السلطة يعني أن لبنان أصبح جزءاً من ملف الأزمة الإيرانية السورية مع المجتمع الدولي، وسيفقد بالضرورة الدعم العربي، ولهذا فإن المعارضة اللبنانية في تحركها أمس الأول أعلنت في شكل واضح إصرارها على إدخال البلد في أزمة سياسية طاحنة، وهذه الأزمة التي تلوح في الأفق لا علاقة لها بنجاح المعارضة من عدمه بمعنى أن لبنان سيواجه التدمير والعبث في حال الفشل، أو الحصار في حال النجاح. لا شك في أن تراجع المعارضة عن التصعيد أمر غير مطروح، بدليل أنها شاركت في جهود عربية لحل الأزمة وفجأة أعلنت الدعوة إلى إضراب شل حركة البلد ووضعه في مواجهة احتمالات مقلقة في أحسن الأحوال، وأخطر ما يواجه لبنان اليوم هو أن المعارضة تتحرك بعقلية المحارب وليس السياسي، فهي تجلس إلى طاولة المشاورات، وتتحدث عن الحوار وتجيش الشارع في الوقت ذاته. تتحدث عن السلم ومصلحة البلد، وتسكت عن الاغتيالات، فضلاً عن أنها تنفذ أجندة خارجية، ولهذا فإن كل ما يقال عن مطالب سياسية داخلية لهذه المعارضة هو كلام لا يسنده الواقع، فجميع المشاورات والوساطات المحلية والإقليمية منها على وجه الخصوص قدمت لهذه المعارضة أكثر مما تحلم به أي معارضة، لكن ذلك لم يجد نفعاً، فالمعارضة اللبنانية لا تريد المشاركة في الحكم بل تريد الحكم كله وصولاً إلى تعطيل جميع الالتزامات الدولية التي وافقت عليها حكومة السنيورة وعلى رأسها المحكمة الدولية. تريد أن تغلق ملف اغتيال الحريري وكل ما ترتب عليه، ما يعني أن الأزمة الحالية لا علاقة لها بكل ما يقال عن الفساد والديون وبقية قائمة الإصلاحات التي تلوح بها المعارضة، فلبنان اليوم يحترق من أجل تحقيق مصالح إقليمية ، ولا سبيل للخروج من هذه الأزمة إلا إذا اقتنع اللبنانيون إن المعارضة الحالية في لبنان لا تستحق هذا اللقب، فالمعارضة أهم صفاتها الحرص على المصلحة الوطنية، في حين أن ما تقوم به المعارضة هو إحراق لبنان من أجل حماية مصالح دول وأفراد تحت شعار الديموقراطية.* نقلا عن جريدة "الحياة" اللندنية
أخبار متعلقة