وداد البرغوثيقد لا تفصل بين الحياة أو الموت إلا شعرة واحدة، لكن ما يفصل بين ثقافة الموت وثقافة الحياة مسافة لا يجسرها أي جسر. ما يدعو لسوق هذه المفارقة هو تزايد الحديث عن "ثقافة الموت" في الآونة الأخيرة، بطريقة من الخلط العبثي بين الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الوطن وبين الانتحار، الخلط المقصود بين شهوة القتل وبين مواجهة القتلة. لو عدنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء ، إلى ثقافة كنا نتأسس عليها، ونظرنا إلى رواية ألكسندر بيك " طريق فولوكولامسك أو " قصة الرعب والجرأة" حسب الترجمة العربية، لوجدنا أن الكاتب قد أسس لثقافة الحياة من خلال تدريب الجنود على حب الحياة مرتبطة بمفهوم الوطن. والوطن هو ليس مجرد الأرض ولكنه الأرض والناس الذين يحبهم الجندي والذي عليه أن يواصل حياته من أجلهم. فكان المدرب يسأل الجندي : هل تحب وطنك؟ يجيبه الجندي : نعم ولولا حبي للوطن لما جئت أقاتل . يسأله المدرب: هل تجيد الزحف؟ هل تجيد إطلاق النار ؟ إلى آخر من الأسئلة التي يريد من خلالها الاطمئنان على جاهزية جنديه القتالية، إلى أن يجد ثغرة معينة ، فيقول له إذن أنت لا تحب وطنك ، فما دمت لا تجيد كذا .. فمعناها أنك لن تستطيع أن تقتل عدوك وسيقتلك، وسيدخل إلى وطنك.. إلخ من هذا التدريب النفسي والتثقيف الحياتي .إذن المنطلق الأساس لدى الكاتب ولدى بطله ماميش أوغلي هو حب الوطن والدفاع عنه وقتل العدو المحتل.كان هذا طبعا أثناء الحرب العالمية الثانية. وكانت موازين القوى مختلفة، وكان النصر على النازية قد صبغ كل شيء بصبغته. وأضفى مفاهيم مختلفة وأرسى أسسا نضالية وثقافية تختلف كثيرا عما هو سائد اليوم أو عما يحاولون " تسويده". لذلك اخترعوا للنضال في مواجهة العدو هذا المسمى البغيض " ثقافة الموت" لماذا. لأن هناك من يفجر نفسه في هدف نضالي ضد عدوه الذي احتل أرضه. وهنا أميز بين التفجير ضد العدو المحتل والتفجير العشوائي الذي يستهدف الأبرياء. لماذا سميت هذه ب"ثقافة الموت" وفي ظل موازين قوى أخرى تسمى نضالا وبطولة وتضحية؟ ألكسندر بيك ثقف بثقافة الحياة أو القتال من أجل الحياة لأنه كان ينظر لثقافة قتال في جيش يعد من أقوى جيوش العالم في حينه. ومن هنا حين يثقف الجندي بضرورة إتقان كافة فنون القتال فإن الهدف من ذلك هو قتل العدو، فلو كان الاستشهادي الفلسطيني مثلا يمتلك ما يمتلكه أي جيش قوي من معدات القتال هل كان يلجأ إلى تفجير نفسه؟ هل هي الرغبة في الموت؟ كلا وألف كلا.ليس رغبة في موت عبثي ولا قاصدا الانتحار. قصده أولا وأخيرا أن يحمي وطنه وأن يقتل محتلي هذا الوطن تماما كما يناضل أي شعب وأي مقاوم ضد أعدائه في مختلف العصور.قصده من موته الفردي أن يوقف موتا جماعيا يتربص بأهله وشعبه وبني جلدته ودينه وقومه في كل لحظة. فأين هي ثقافة الموت إذن؟ أما يمكن لأي مقاتل نظامي أن يقتل؟ أما يذهب الجندي إلى المعركة وهو يتوقع الموت في كل لحظة؟ لماذا يذهب إذن؟ هل شهوة للموت، أو تشبعا بثقافة الموت أم تلبية لنداء الواجب والضمير في حماية الأرض والأهل؟لا أرى في الحديث عن "ثقافة الموت" وربطها بحالات نضالية على أعلى ما تكون مستويات التضحية أكثر من نوع من النفاق الثقافي وفلسفة الانهزام الداخلي ، في ظل سيادة ثقافة العولمة الداعية والمؤسسة أصلا على سيادة القوة ولو بطغيان. ما يدعو الفلسطيني لأن يفجر نفسه ليس ثقافة الموت، لكن مشهد الموت الماثل أمام عينيه في كل لحظة وثانية هو الذي يدفعه لذلك. فأن يسمع طفلي عن وصول مرض انفلونزا الطيور إلى قرية ما فيسأل مازحا: كم جيب وصل؟ ويقصد بذلك كم جيب عسكري اسرائيلي؟ هل ثقافة الموت هي التي جعلته يطرح هذا السؤال التهكمي أم أن تهكمية الحياة وتوقع مشهد القتل اليومي من جراء وصول جيبات الاحتلال هي التي تدعو لهذا التهكم؟أن يلتقط فتى نصف وجه لشهيد أو قدما أو يدا أثناء جمع الأشلاء في مجزرة في أحد بيوت مخيم بلاطة قبل أيا/، أو أن تفقد فتاة شقيقها وخطيبها في ذات اللحظة برصاص جنود الاحتلال، أو أن تقتل امرأة أولادها الثلاثة ويجرح زوجها ووداها كما حدث في قرية روجيب محافظة نابلس ، أو أن تقتل أسرة أبو كويك في رام الله بصاروخ بينما كانوا عائدين من مدارسهم، أن تسمم مدارس بكاملها كما حصل في مدارس جنين ،وعشرات من مشاهد الموت اليومي الذي لا تفسير له سوى شهوة القتل لدى المحتلين، ولا أحد يتحدث عن ثقافة الموت لديهم، أو ثقافة التلذذ بموت الآخرين . حين يسافر أفراد المارينز مئات وآلاف الأميال يقطعون الجبال والمحيطات ليموتوا في أرض لا يعرفون لها وجها ولا شكلا، ولم تطأها أقدامهم ولا حتى في الخيال من قبل ، ويعودوان جثثا إلى واشنطن أو لندن أو استراليا أو غيرها لا أحد يجرؤ في الحيث عن ثقافة الموت، أو شهوة القتل. كل مشاهد الموت الفظيعة وال\دموية التي يقوم بها المحتلون ضدا أبناء الشعب الرازح تحت الاحتلال ولا أحد يفلسف هذا الموت ولا يضعه في أي سياق سلبي. أما موت الفرد في سبيل حياة أسرته وأمته وشعبه والدفاع عن أرضه فينبري له المثقفون والمستثقفون، الفلاسفة والمتفلسفون ليتحدثوا عما يسمونه ثقافة القتل في محاولة منهم للتغطية على النفسية المهزومة في داخلهم. هل بعد هذا نفاق ثقافي أكثر من هذا النفاق؟ بالله عليكم أجيبوا.
|
ثقافة
ثقافة موت أم نفاق ثقافي ؟
أخبار متعلقة