( 14 اكتوبر ) عاشت وقائعها .. ( الحلقة الرابعة )
عدسة وقلم / فضل علي مبارك :هي كذلك : تعيش قرية شعب هود بمحافظة حضرموت يومان تعرف فيهما الحياة فقط .. وتدب فيها الحركة إلى الدرجة التي يخال للزائر فيها أنها من كبريات المدن التي تعج بالحياة والحركة ، وليست قرية تظل مهجورة بقية أيام العام .ويوما الحياة هذين اللذين يختص بهما الناس الذين يتدفقون من كل فج عميق هي لمناسبة إحياء زيارة قبر النبي هود عليه السلام الذي يرجح كثير من المؤرخين وجود قبره في هذا الشعب المسمى بشعب - بكسر الشين - هود ، حيث ظلت عادة سنوية تتوارثها الأجيال من أبناء الهاشميين العلويين الذين يتوافدون من بقاع شتى من الدنيا ، ولم تمنع سوى نحو ست سنوات مطلع ثمانينات القرن الماضي لأسباب سياسية تتعلق بتوجهات نظام الحكم في جنوب اليمن آنذاك ثم أعيد القيام بها .وتقع قرية شعب النبي هود التي يعرفها البعض باسم القرية المهجورة إلى الشرق من مدينة تريم المشهورة كمنارة للعلم والعلماء ومعلم من معالم الدعوة الإسلامية إذ يوجد بها نحو ثلاثمائة وستين مسجداً ورباط إسلامي وكلية شريعة من العلوم الدينية الشرعية لآلاف من الطلاب من بلدان العالم المختلفة .يومان فقط يضج المكان بالحياة وقبلهما يومان يجري ترتيب الأماكن وتنظيف المساكن وجلب المؤن وبناء وتجهيز ( بسطات ) السوق للبيع والشراء وبعدهما يوماً واحداً للانتهاء من الإغلاق والعودة ، أما بعد ذلك فتتنافس الأشباح على الأزقة والشوارع والمنازل المهجورة ويخيم الظلام على القرية التي كانت قريبة عهد من الحياة .. وقال عدد من الزوار الذين التقينا بهم وتحدثوا إلى الصحيفة ممن اعتادوا على زيارة القرية في غير أيام الزيارة سواء للترتيب قبلها أو إذا ما أراد البعض من الميسورين إعمار بيت جديد في القرية للراحة فيه خلال الزيارة ، قال هؤلاء أنهم يسمعون أصواتاً غريبة وضجيج يعم المكان ، ويكاد الزائر إلى هذا المكان لا يصدق الفرق بين اللحظتين ، وكيف أن خطو الحياة المتسارع خلال ساعات ينبئ بأن المدينة عامرة طوال العام نظراً لما يلحظ فيها من دبيب حركة وعمليات بيع وشراء تتناول كل شيء ومطاعم ومشارب ومحلات تجارة ومحاضرات دينية وحلقات ذكر وأمسيات سمر يتخللها الرقص والإنشاد على إيقاعات الطبول والمراويس ، وتعقد كثير من صفقات التجارة والاتفاقات وتبادل المصالح والمنافع حيث يذهب كثيرون إلى الاعتقاد أن تلك الأيام هي أيام مباركة وأي شيء يتم فيها فهو مبارك .وعلى النقيض من هذين اليومين وما قبلهما وبعدهما لا يمكن تخيل كيف يلف الهدوء والسكينة حال المدينة بحسب ما يوصفها من زارها في غير تلك الأيام .وخلال هذين اليومين اللذين تنتعش فيهما المدينة بأسواقها وحركة الناس فيها فيمكن للزائر اغتناء ما يريد فكل شيء هنا متوفر بدءاً بأبسط الأشياء التي تكون في تناول يدك على النادر منها ، وتلحظ أن حركة التسوق لا تدل على أن هذا السوق هو سوق مؤقت سرعان ما ينتهي إذ إن دبيب الحركة فيه يشعرك وكأنه سوق عامر لمدينة عامرة ، هنا تجد أصناف نادرة من الحلويات والمكسرات التي صنعا خصيصاً لزوار القرية الذين يحرصون على الشراء منها بكميات كهدايا لأطفالهم وأسرهم ، وهنا سوق الملابس و( المعاوز ) الحضرمية ، ولا تجد مشقة وأنت تبحث عن لعب الأطفال بمختلف أشكالها ومسمياتها ، وينال العطر والبخور وأدوات الزينة نصيبهم من ( بسطات ) السوق ، ومثلما تجد الأسماك والخضار والفواكه حضوتها في السوق وطلبات الزوار فإن اللحوم المتنوعة هي الأخرى تحظى بإقبال ملحوظ حيث أنها لا تقتصر على ما هو معتاد شراؤه في الأسواق الاعتيادية من لحوم الضان والماعز إذ تجد هنا لحوم الأبقار والجمال أيضاً .وقد حرصنا خلال زيارتنا إلى هناك بعد أن شهدنا طبيعة الحياة خلال هذين اليومين ووقفنا على أدق التفاصيل سواءً بالمشاهدة أو بالسؤال والتقصي ، حرصنا على ضرورة أن نكون آخر الخارجين لنسجل دقائق تلك اللحظات ، وكيف يبدو حال القرية الذي تغير بسرعة 180 درجة ، ولولا انعدام المواصلات وبعد المنطقة عن خطوط الحركة بأكثر من 40 كم وعدم وجود تغطية هاتفية لشبكة الهواتف النقالة حيث يشعر المرء هناك وكأنه مقطوع عن العالم الخارجي ، وربما هذا ما يراد من هذه الزيارة وما يهدف إليه القائمون على شئونها حتى تتحقق - كما يصرحون - للزائر متعة الاختلاء مع الله ، وصرف النظر والتفكير عن بقية الأشياء والتفرغ للذكر والعبادة ، مع أن ذلك لم يتحقق بصورته الجلية المطلوبة لدى الغالبية بما يصحبه من جوانب أخرى نأتي على ذكرها في موقع آخر .إذ ما كان يهمنا من البقاء بعد الوقت المحدد للزيارة ومغادرة الزوار كان بهدف رصد حالة السكون وما يمكن أن ينشأ خلالها ، على الرغم من الخوف الذي لبسنا جراء تحذيرات الكثيرين وما قالوه عما يخلف الناس بعد مغادرتهم المكان من أصوات غريبة وصراخ وضوضاء يردون مصدره إلى الجن التي يقولون أنها تحتل المكان بعدهم ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى حتى نتبين صحة ما ذهب إليه البعض من قصص وروايات هي أقرب إلى حكايات الأساطير من أن المدينة تظل مبعث نور وكأنها عامرة بالحياة مأهولة بالسكان إلا أن العدم كان يفرض سطوته بقوة منذ لحظة مغادرة الزوار ، ولا تسمع سوى صفير الريح آنذاك ، وما رواه من اضطرته الظروف إلى المبيت - على قلتهم - في أيام غير الزيارة وكيف هي حالة الرعب التي عاشوها بحسب ما رووه لعكاظ . ومما يلفت النظر خلال وجودنا في قرية شعب هود عدم وجود ولو ذبابة واحدة أو غيرها من الحشرات والزواحف على الرغم من عدم النظافة ووجود مخلفات آدمية بكثرة وبدائية مجاري الصرف الصحي التي تعتمد على نظام الغرف الراشحة وأغلبها مفتوحة أو شبه مفتوحة ، ناهيك عن مخلفات الحيوانات وبقايا الأكل والقمامة وغيرها .وما أمكننا ملاحظته وجود البعوض وإن كان بكمية محدودة خصوصاً عندما يضطر المرء للجلوس في المساء أو النوم خارج المنازل .وبحكم كثرة تجوالي برفقة منسق الرحلة الزميل سعيد شكابة - في أرجاء القرية صعوداً على القبة وهبوطاً إلى النهر مروراً بالسوق بعد كل ساعة من ساعات الليل والنهار لرصد إيقاعات الحرك وكذا اضطرارنا إلى النوم على إحدى الصخور بالقرب من مسجد ( حصاة عمر ) .. لا أنسى لحظات الخوف التي كانت تتملكني في كل تلك اللحظات خوفاً من لدغات الثعابين أو العقارب أو غيرها من الحشرات على الرغم من طمأنة الكثيرين من المعتادين على الزيارة كل عام بعدم وجود شيء من ذلك لا ثعابين ولا عقارب ولا غيرها .. وهو أمر لم أصدقه رغم معايشتي له من منطلق البيئة ووضع القرية الذي أشبهه بحال كثير من قرانا التي تكاثر بها مثل هذه الآفات .ويؤكد عدد من الزوار الذين يحرصون على القيام بالزيارة كل عام أن جيوش الذباب والزواحف الأخرى كالصراصير وغيرها تتزاحم في المكان لتأتي على ما خلفه الزوار من بقايا مأكولات ومخلفات الذبائح والزوار وقمامة المطاعم وغيرها ، وهم يرون في ذلك نوع من الكرامة حتى لا يتأذى من وجودها الزوار .كذلك من الأشياء الغريبة التي تحدث في المكان ما يرويه كثير من الزوار إن المأكولات إذا ما وضعت بعد طباختها لأكثر من يومين رغم شدة الحر في القرية فإنها لا تتعفن أو تفسد حيث تظل وكأنها طازجة طبخت وأعدت في الحال ، وهو ما يعتبره البعض بـ ( مكرمة ) .وقد أراد أحد الزوار ويدعى إبراهيم الحبشي التدليل على ما تحدث به الكثيرون خلال جلسة لنا معهم حول احتفاظ المأكولات بحالتها الطازجة إذ ناولني كمية من الأرز الذي أقسم يميناً أنه قد طبخ يوم أمس وبقي في قدره كما هو مؤكداً أنه لا توجد ثلاجات أو حافظات غذاء في القرية ، ولا يكتفي المتشيعون للزيارة وما يصاحبها من ظواهر تكاد تكون غريبة بهذا القدر منها إذ يولون بعيداً لاستذكار كثير من تلك الظواهر ومنها إن منزلاً لم يحترق قط منذ بدء الزيارة قبل نحو أربعة قرون حتى اليوم على الرغم من استخدام الزوار كثيراً للحطب قبل دخول طباخات الغاز ، وأيضاً يروون أن بدوياً قام بسرقة نوافذ أحد الخدور ( المنازل التي يقطنها الزوار خلال الزيارة ) وآوى بهم إلى منزل وعندما وصله هطل مطر شديد فإذا بجدار منزله يهتد على قطيع من غنمه ويأتي على عدد منها وفي اليوم الثاني بنفس الوقت تكرر المشهد بهطول المطر وتهدم جزء آخر من الجدار ونفوق عدد من الأغنام ، ما دفع بأم البدوي أن سألته ماذا فعلت يا بني فقص عليها حكاية السرقة فأمرته بإعادة المسروقات إلى مكانها وبذلك فقد سلمت بقية أغنامه .وحيث إن الموروث الشعبي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ الاجتماعي فهو يعد مرآة صادقة تعكس مشاعر الناس على تباين حظوظهم الثقافية واختلاف مشاربهم الاجتماعية وتنوع أعمارهم ، وحيث إن الموروث الشعبي في حضرموت قد لعب دوراً هاماً وبالغاً في تشكيل عقول ونفوس الناس وخاصةً العامة منهم بأن صاحب القبر الموجود في وادي ( برهوت ) في شرق الأحقاف بحضرموت مدفون فيه النبي هود عليه السلام فقد رسم هذا الموروث روايات مثيرة للغاية أصبح ينظر لها الكثير من الناس على أنها من المسلمات التي لا ينبغي الجدال أو فتح باب النقاش حولها وبأن جعل تلك المنطقة تصبغ باللون الروحي وتلتف برداء القداسة ، فخذ مثلاً ما يرويه هؤلاء أنه كل مائة عام يحدث في مكان القبر شيء عجيب وهو أنه يخترق السحب الكثيفة عمود نار ضخم متجه صوب القبر وأنه يخرج من جوانب القبر المختلفة ومضات نور قوية تكاد تخطف الأبصار ، ولا غرو إن وجد من بين العلماء والدعاة مثل العلامة عبد الرحمن السقاف من يصف المكان الذي فيه القبر فيقول : " هو شِعب متقد بالنور فياض بالسرور شبيه بمنى من حيث الاجتماع والبهجة والدور ، فلا بدع أن يجيء فيه موضع قول الشريف الرضي : فوا لهفي كم لي على الخيف شهقةً[c1] *** [/c]تذوب عليها قطعة من فؤاديا إذ يقول السقاف معقباً على الشريف الرضي : كيف لا يكون كذلك وهو مهبط وحي ومعقل نبوة ومختلف ملائكة ومتنزل سكينة ".وهناك طرفة يتناولها الكثيرون ويسعون إلى شد الزائر لأول مرة إلى إتباعها وهي إذا ما انتهت الزيارة فعلى الزائر أن ينفض ما علق في ثيابه من تراب القرية حتى يهزه الحنين العام القادم إلى تكرار الزيارة ، وبذلك فقد فعلنا ما قيل لنا حتى نتبين مدى الشوق الذي سيجرفنا بعد ثلاثمائة وستين يوماً إلى هناك لتكرار الزيارة ورصد ما وقع فيها من تغير .