أثارت فتوى الشيخ صالح الفوزان حول الليبرالية، ضجة كبيرة في أوساط المثقفين العرب في الشرق الأوسط والغرب. وكان مقال خالد الدخيل في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية بعنوان (الشيخ الفوزان والليبرالية، 25/7/2007) من المقالات العلمية الجادة، التي تناولت هذه الفتوى، وظروف صدورها، كما أشارت من طرف خفي، إلى أننا نفتي في بعض الأحيان في مسائل وأمور لسنا محيطين بها كل الإحاطة. وكان الدخيل صريحاً في هذه المسألة عندما قال: "الإشكالية أن عدم المعرفة، أو عدم الإلمام كان حرياً به أن يشكل سياجاً من الحذر وتفادي إطلاق أحكام على قضية لم يتحقق تصورها واستيعابها. تقول القاعدة الذهبية: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، مما يعني أنه لا يجوز الحكم على أمر قبل معرفته وتصوره في أكثر جوانبه على الأقل. الغريب أن هذا المنزلق هو ما وقع فيه الشيخ، مما أضطره في الأخير إلى إصدار بيان توضيحي لموقفه. "وبرر الدخيل سبب الإشكالية، التي وقع فيها الشيخ الفوزان، ويقع فيها كثير من الشيوخ، الذين يدلون بآرائهم في شتى المفاهيم التاريخية، والاقتصادية، والعلمية، والسياسية، والفلسفية الجديدة، كالليبرالية، والعَلمانية، والعولمة، والحداثة.. الخ. إلى عدم الإحاطة بهذه المفاهيم إحاطة تامة، أو الوقوف عليها طويلاً، في أرض واقعها، ومنشأها، وسياقها التاريخي، والجدل مع مفكريها ومثقفيها، أو نتيجة لغموض الأسئلة بهذا الخصوص، ومكر السائلين، الذين يتعمدون أحياناً الإيقاع بالشيوخ، وتوريطهم في مثل هذه الأسئلة، لإثارة الجدل الإعلامي والنقاش الاستعراضي بينهم وبين بقية المثقفين. وكان تبرير الدخيل المعقول والمنطقي، هو أن " الشيخ اختار أن يرفض الليبرالية هكذا، انطلاقاً من قناعاته الإيمانية المسبقة وحسب، ومن دون أدنى معرفة بالليبرالية ودلالاتها. وكأن الإيمان يقتضي عدم محاولة معرفة ما يقع خارج حدود ما نؤمن به. فحَكَمَ الشيخ على الليبرالية، دون أن يعرف عنها شيئاً، كما يشير بيانه التوضيحي."فتوى الشيخ صالح الفوزان فيما يتعلق بالليبرالية، غيض من فيض الفتاوى التي تصدر من الشيوخ في شتى المفاهيم الحديثة. وقد سبق أن ثارت مثل هذه الزوبعة عدة مرات منها في الثمانينات، عندما أصدر عوض القرني كتابه (الحداثة في ميزان الإسلام، 1988) وقدم للكتاب الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز. ومنها رسالة الدكتوراه التي تقدم بها سعيد بن ناصر الغامدي لجامعة الإمام محمد بن سعود تحت عنوان (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها، 2003) بأجزائه الثلاثة، وبحوالي 2317 صفحة. وهذا الكتاب كان أعنف من كتاب عوض القرني في حملته الشعواء على الحداثة. فقد قال فيه سعيد الغامدي عن الحداثيين من سعوديين وعرب: "إن أقوالهـم، وأعمالهـم، وعقائدهم، التي أذاعوها، توجب الحكم عليهم بالردة، وترفع عصمة الدم عنهم. إلا أنهم في الأجواء السياسية العَلْمانية المستوردة من الغرب، أذاعوا كل ما في صدورهم العفنة من كفر وإلحاد، في مراغمة ومعاندة للدين وأحكامه، وشرائعه، وعلمائه، ودعاته" (المجلد الثالث، ص 1740). وهذا الكلام أقوى بكثير مما قاله الشيخ الفوزان، بشأن الليبرالية في فتواه تلك.ولو استُفتي أحد الشيوخ في الحداثة، بعد هذا القول، وأقوال أكثر عنفاً من هذا، جاءت في كتاب الغامدي، طعناً في الحداثة والحداثيين، فلن يتأخر عن الإفتاء بما قاله الغامدي في كتابه، ويتهمهم بما اتهمهم سعيد الغامدي في كتابه المذكور.-2-تنبه محمد علي باشا (1769-1849) باني نهضة مصر الحديثة، والحاكم المثقف جداً، إلى جدوى وأهمية ابتعاث شيوخ الدين إلى أوروبا قبل غيرهم، لرؤية أوروبا على حقيقتها من خلال واقعها، وثقافتها، وعلمها، وتقدمها الحضاري، ومكتباتها، وجامعاتها، ومسارحها، وكتّابها، ومفكريها، وشعرائها.. الخ. وعندما نصف محمد علي باشا بالحاكم المثقف جداً، فذلك نابع من كونه من أوائل من تنبه إلى أهمية ابتعاث الطلبة المصريين إلى الغرب للإطلاع على نهضتهم، وحضارتهم. ولكونه شجع قدوم المهاجرين من كل صوب متمثلاً بالتجربة العثمانية، وسابقاً بذلك التجربة الأمريكية بهذا الشأن. وكونه أقام سياسة منفتحة على كل الطوائف. وبعد أن اكتشف أن استقدام الأجانب ليس كافياً لإحداث النهضة المرجوة، اعتمد سياسة تعليمية لا تكتفي بابتعاث الطلبة إلى الغرب، ولكن بتعليم عدد أكبر من المواطنين ومحو أكبر نسبة من الأمية ليصبح الشعب مواطنين لا رعايا، كما نادى خالد محمد خالد فيما بعد، في كتابه الذي يحمل عنوان (مواطنون لا رعايا). كذلك كان محمد علي باشا مثال الحاكم المثقف لكونه قرأ "مقدمة" ابن خلدون في ترجمتها التركية، قبل طباعتها وصدورها بالعربية في مطبعة بولاق عام 1857، وفضّله على كتاب (الأمير) لمكيافيللي، كما قال محمد الحدّاد في كتابه (الإسلام: نزوات العنف واستراتيجيات الإصلاح). وأخيراً، فإن هذا الباشا المثقف، هو الذي أمر بترجمة مذكرات نابليون بونابرت وسيرته الذاتية. وهو الذي عهد لرفاعة الطهطاوي عام 1841 بإنشاء "قلم الترجمة" لترجمة الآثار الأوروبية إلى العربية مباشرة. كل هذه الوقائع التي أوردناها للدلالة على ثقافة الباشا الواسعة وسعة أفقه، أردنا أن نقول بها، أن التقدم لا يتحقق إلا بالانفتاح، والازدهار لا يأتي إلا بالتعاون مع الآخر، والنهضة ليست وليدة شعب بعينه أو حضارة بعينها، بقدر ما هي كيمياء تدخل فيها كافة العناصر، وتشارك فيها كل الشعوب، ولنا من الحضارة الإسلامية خير دليل.لم يكن محمد علي باشا هو أول من أرسل الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي إلى فرنسا كشيخ مُبتعث، لكي يرى الغرب على حقيقته، وكان من نتيجة هذه الرحلة كتاب الطهطاوي الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي أحدث ثورة في نظرة رجال الدين إلى الغرب. لقد سبق الطهطاوي شيوخ كثر من رجال الدين العثمانيين والمغاربة إلى الغرب، للإطلاع على نهضته ومنجزاته العلمية والاقتصادية. فمدينتا طنجة وإسطنبول لم تنتظرا حتى عام 1834 لكي يكتشف لهما الطهطاوي الغرب الحديث، أو "بلاد الفرنجة". فقام رجال الدين المغاربة برحلات عدة إلى أوروبا قبل الطهطاوي لمعرفة ما يتم هناك فيما عُرف بـ "الرحلات السفارية"، وهي الرحلات التي يشترك فيها الفقهاء وحدهم أو مع رجال الدولة.في حين أن العثمانيين بدؤوا برحلاتهم إلى الغرب من خلال ما كان يفتنهم من تطور تقني في هذا الغرب، وقد بدأ هذا الافتتان في القرن السابع عشر. ولكن المهم في الأمر أن معظم الإصلاحات التي تمت في مصر أو المغرب أو الدولة العثمانية في عهد السلطان سليم الثالث (1762-1808) ومن جاء بعده، كانت بفضل هذه الرحلات لفقهاء، كانت ثقافتهم العامة هي الثقافة التقليدية الشائعة في كل العالم الإسلامي، في ذلك الوقت. فكان لزاماً عليهم أن يروا الوجه الآخر من العالم والحقيقة. وبرؤيتهم لهذا الوجه الآخر للعالم والحقيقة تغيرت لديهم أفكار كثيرة، وأضيئت لهم زوايا كانت مظلمة، وخافية عليهم.شيوخنا اليوم في كافة أنحاء العالم العربي بحاجة إلى بعثات استطلاعية يزورون فيها الغرب. ولا يكفي لشيوخنا أن يزوروا الغرب زيارات صيفية ترفيهية، أو زيارات علاجية، أو زيارات ديبلوماسية، كما يفعلون الآن. ولكننا نريد منهم أن يزوروا الغرب زيارات دراسية بحثية. وأن يذهبوا إلى الغرب دون مواقف مسبقة وحادة، وبفكرة أن انهيار الحضارة الغربية قريب. وأن يزوروا الغرب بعقل منفتح قابل للجدل، والاختلاف، والمغايرة. ففهمُ الآخر فهماً صحيحاً لن يتم إلا بتغيير المواقف السابقة والمسبقة، وتغيير العقل النمطي السائد، وتهيئة الذهنية اللازمة للتقبل. وأن يزوروا الغرب بمعاهده، ومكتباته، ومعاهد دراساته، وأبحاثه، ومختبراته. وأن لا يلتقوا بالسياسيين قدر لقائهم بالمثقفين، والمفكرين، والأدباء، والشعراء، والأكاديميين، والمؤرخين، والباحثين، والدارسين. وأن يسألوا كثيراً، وينصتوا كثيراً. وأن يتأملوا بصدق في تجارب الآخرين. وألا يلتفتوا كثيراً إلى تموضع المرأة في المجتمع الغربي. وأن لا يطعنوا بقيم الغرب الأخلاقية من خلال حرية المرأة، وما حققته من مكاسب اجتماعية وسياسية وثقافية، فتلك قصة طويلة. وأن يحللوا تأويلياً البُنى الراسخة للحضارة الغربية. وأن يحرروا ذواتهم من كل ما يُعيقها عن إدراك الحقيقة.ولو تحققت هذه الأحلام، فسوف نعالج أموراً كثيرة، وسوف تختفي من ثقافتنا أمراض كثيرة، وسوف تصبح وجوهنا أكثر إضاءةً، وقلوبنا أكثر صفاءً، وعقولنا أكبر اتساعاً وإدراكاً، وأحكامنا أقل ظلماً، وأكثر إنصافاً وانحيازاً إلى جانب الحقيقة، وبلادنا أقل إرهاباً.[c1]* نقلا عن / جريدة "الوطن" السعودية[/c]
ضرورة الابتعاث لعلماء الدين
أخبار متعلقة