يعتبر ارتياد الأسواق العتيقة تقليدا في شهر رمضان المعظم سواء لشراء لوازم المناسبات الاحتفالية العائلية كختان الأطفال وهدايا المخطوبين بما يعبر عنه ب”الموسم”أو لاقتناء فواكه عيد الفطر والحلويات المميزة للشهر الفضيل . وتحف الأسواق ذات الصناعات النبيلة بالجامع الذي يتوسط قلب المدينة وتحيط بهذه الأسواق الدور المعدة للسكنى ومن حولها الأسواق المختصة في الصناعات العادية. وينطبق هذا التصميم المعماري على مدينة تونس التي تتسع لما يقارب عن 40 سوقا من بينها 26 مغطاة يتوسط المدينة منها 16 سوقا بنيت حول جامع الزيتونة المعمور . واعتبارا لقيمة هذه الأسواق التاريخية والمعمارية والاقتصادية يتم الحرص على صيانتها وإحيائها ودعم وظائفها والحفاظ على خصوصياتها إذ أن معظم أسواق مدينة تونس تمسكت بنوعية حرفتها المتوارثة أبا عن جد مما جعلها مقصدا للمواطنين والسياح الذين يسعون وراء روائع المنتوج الوطني من الصناعات التقليدية.وعن تاريخ نشأة الأسواق وخصائصها يذكر السيد الباجي بن مامي أستاذ الحضارة الإسلامية أن بعض المؤرخين العرب والمستشرقين اثبتوا في بحوثهم وجود الأسواق منذ نشأة مدينة تونس وأول إشارة إليها كانت في كتاب “طبقات” لأبي العرب في القرن 3 هجري.كما عرج عليها المؤرخ الطاهر الفارسي في كتابه “ مناقب سيدي محرز” فأشار الى أن هذا الشيخ أعطى في نهاية القرن 4 هجري نفسا جديدا للأسواق المجاورة لمقره والموجودة في باب سويقة في حين اثبت المستشرق الفرنسي المؤرخ روبار برنشفيغ في كتابه “بلاد البربر الشرقية من عهد الحفصيين الى أواخر القرن 15 ميلادي” وجود تبادل تجاري واقتصادي انطلاقا من الأسواق مع مدن ايطالية واسبانية وفرنسية مما يدل على حيوية التجارة في تونس بحكم موقعها في ملتقى بلدان المشرق وسائر بلدان المغرب . واتضح من خلال هذه الإثباتات التاريخية أن سوق الفكة “بيع الفواكه الجافة “ الذي يرجع تاريخه الى القرن 11 ميلادي يعد من أقدم الأسواق المحيطة بجامع الزيتونة إذ أن موقعه يفتح مباشرة على المدخل الرئيسي للجامع .وبالتوازي مع هذا السوق وفي نفس القرن بني سوق البلاط المنسوبة تسميته حسب المؤرخين الى بلاط الخراسانيين “من أواسط القرن 11 الى أواسط القرن 12 ميلادي “ لقربه منه واشتهر حرفيوه سابقا بتجارة الحشائش الطبية وزيت الزيتون ومن توابعه سوق الزرارعية . ويذكر أن بناء الأسواق المتاخمة للجامع يعود الى العهد الحفصي في القرن 13 ميلادي وبالتحديد الى أبي زكرياء الحفصي الذي أسس سوق العطارين. وهو يمتد على طول الجهة الشمالية للجامع الكبير والمختص في بيع العطورات والبخور وبعض المواد الأولية المستعملة في صنع أدوات التجميل التقليدية. وقد أضيفت إليها في ما بعد بعض المنتوجات المتعلقة بالعرس التقليدي مثل السلال “كنستروات” المبطنة التي تحمل فيها هدايا العروس. كما بني سوق الشماعين حيث كانت تباع الشموع بمختلف أشكالها وأحجامها والذي أصبح يعرف بسوق البلاغجية . وفي القرن 15 ميلادي أمر الأمير أبو عمرو عثمان بتجديد سوق القماش. كما أنشىء في القرن نفسه سوق السكاجين الذي يعنى بصناعة الجلد و زركشته . وبعد فترة التراجع التي عرفتها الأسواق على مستوى نشاطها خلال القرن 16 ميلادي نتيجة الحرب بين تركيا واسبانيا 1535”1574 ميلادي شهدت هذه الأسواق انطلاقة جديدة منذ سنة 1611 ميلادي حيث أعطاها يوسف داى دفعا جديدا خاصة بإنشائه سوق البشامقية المختص في صنع أحذية خفيفة يستعملها المشائخ و رجال الدين بصفة عامة وسوق الترك إذ كانت تباع فيه ترك الأموات وسوق الجرابة ذو التجارات المختلفة وسوق البركة الذي اختص عند بنائه في بداية القرن 17 ميلادي في بيع الرقيق ثم أصبح سوقا للصاغة خاصة من قبل الحرفيين اليهود الذين بلغ عددهم 120 حرفيا سنة 1890. ومن الأسواق المحيطة بجامع الزيتونة سوق النساء، أين تجد المرأة كل لوازمها. وسوق الربع حيث كانت تصنع الصناديق المزركشة المعدة لحفظ الملابس والمصوغ وسوق اللفة المختص في الصناعات الصوفية مثلما هو الشأن بالنسبة الى أسواق الوزر والصوف والبرانسية إضافة الى سوق الكبابجية وفيه يقع لف الخيط القطني المعد لتوشيح اللباس التقليدي وسوق الجزائرية المعروف بحرفة خياطة الجبة التقليدية. ومواصلة للأسواق القريبة من الجامع الأعظم والمسماة بالأسواق الوسطى بنى حمودة باشا الحسيني في القرن 18 ميلادي سوق الباي والمعروف بتجارة شتى أنواع الأقمشة في حين بعث الحسين بن علي في بداية هذا القرن سوق السراجين وهو المكان الذي تصنع فيه سروج الخيل الجلدية ونظرا لوفرة الزياتين ببلادنا منذ سالف العهود فقد افرد زيت الزيتون بسوق أطلق عليه اسم سوق الزياتة. كما حظيت الزهور منذ القدم باهتمام أهل المدينة فتم جمعها في سوق الطيبين الذي تحول في ما بعد الى سوق الكتبيين وهو قريب من سوق القشاشين أين تباع الثياب القديمة وسوق السرايرية حيث تصنع محامل البندقيات من الخشب “بطانة البندقية”. وفي أول الفترة المرادية كان يوجد بهذا السوق جانب مختص في بيع السلاح .ويرجح المؤرخون أن هذا الجانب كان يصنع فيه السلاح في العهد الاغلبي .كما أن نهج القصبة كان يطلق عليه في الماضي اسم سوق الطويلة وهو امتداد للأسواق الوسطى القريبة من جامع الزيتونة وفي أطرافه نجد سوق المالحية وهي الخضر المصبرة بالملح و سوق النحاس المعروف برفعة منتوجه وبمهارة حرفييه وكذلك سوق القرانة التي جاءت تسميته نسبة لليهود الذين استقروا سابقا في تونس قادمين من بلدة ايطالية تدعى “القرانة“. وعرفت تونس في القرن 19 ميلادي ازدهارا تجاريا قائما على ضروب من الصناعات والتجارات الرائجة أبرزها وأرقاها في مستوى الجودة صناعة الشاشية التي اشتهرت في كامل المدن الإسلامية. واستمرت الى يومنا هذا وقد تركزت متاجر بيع الشاشية في سوق الشواشية الممتد من جامع حمودة باشا الى مشارف سوق العطارين من جهة وسوق الصوف من جهة أخرى. وتوجد بمدينة تونس عدة أسواق أخرى بعيدة عن جامع الزيتونة لكونها تختص في صناعات “ملوثة” نسبيا لا تتلاءم وحرمة الجامع كصناعة الحديد وبيع التبن والخيول والتي تفصلها عنه من كل النواحي مساكن الأهالي أين الأزقة الضيقة والأبواب المزدانة بالمسامير . ومن بين هذه الأسواق سوق المر الذي كان يجمع تجار التبن والخيول وصار في ما بعد سوقا لصنع الغرابيل وسوق الحدادين الذي تهيأ فيه صفائح الخيول وغيرها من الأدوات الحديدية. وليس بعيدا عن ذلك يوجد سوق العصر وكان به حرفيون يعتنون بترميم الأسلحة القديمة وقسم آخر منه به خياطون يعدون الملابس العادية. أما سوق الصباغين فيهتم صناعه بصباغة الأقمشة. وتدبغ في سوق الدباغين جلود الحيوانات تمهيدا لصناعة الأحذية وغيرها .وقرب ربض المركاض هناك رحبة الغنم وهي سوق كانت تباع فيه الماشية بمختلف أصنافها. وبجانب ربض باب سويقة يجد الزائر سوقا تختص بصناعة الفخار تسمى سوق القلالين وقد تراجعت أهميته في القرن 19 ميلادي. ويسهر على حسن سير عمل مختلف أسواق مدينة تونس وضمان جودة منتوجها وصيانتها من الدخلاء سلك من الأمناء مشهود لهم بالأمانة وحذق الصنعة ويقع تعيينهم بقرار . وتعتبر أسواق مدينة تونس رمزا من رموز الفن المعماري الأصيل. وتتركب هندستها من أعمدة حجرية ذات أصول أندلسية تعلوها أقباء من الآجر التقليدي تحيط بها جدران سمكية تجعل مناخها باردا صيفا ومعتدلا شتاء وتقسم أرضيتها الى ثلاثة ممرات أوسطها رئيسي للمارة والمتجولين وجانباها يفتحان على الدكاكين الممتدة على طول الدرب. وقد كانت هذه الممرات تستمد نورها ولزمن طويل من كوات في أسقفها قبل أن تستنار بالفوانيس.أما دكاكين الأسواق فيتميز أثاثها برفوف خشبية منقوشة ومزركشة .ويتجلى ذلك بالخصوص في سوق العطارين حيث يتضوع عبق العطور والبخور. وان المار بالأسواق يشعر حتما بمناخ الألفة السائد بين حرفييها وبروح البذل والعطاء وأيضا بعراقة هذه المعالم التاريخية التي تبقى راسخة في الذاكرة.
|
اتجاهات
جولة تاريخية في أسواق مدينة تونس
أخبار متعلقة