مع الأحداث
يعرف التوظيف الكامل بأنه هو ذلك المستوى الذي تكون عنده جميع الموارد البشرية والطبيعية والمالية موظفة إلى أقصى طاقات ممكنة، وأنه لا يوجد توازن مستقر قبل الوصول إلى التوظيف الكامل. وهكذا تقوم الفلسفة الكينزية على التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي والتوظيف الكامل ونمو القطاع العام.ولكن ما أن تخلت الليبرالية الجديدة في الدول الرأسمالية الصناعية عن هدف التوظيف الكامل، والتضحية بدولة الوفاة، والقبول الواسع للبطالة، حتى وقعت الدول الصناعية المتقدمة في ورطة محكمة، وفي تناقض ملحوظ، إذ أنه في الوقت الذي أصبح فيه ممكناً زيادة الإنتاج زيادة هائلة ومستمرة، إلا أن هذا الإنتاج أصبح يتم بأعداد قليلة جداً من العمالة، مما يعني التزايد المستمر للعاطلين، وهو مأزق خطير، لا حل له إلا بتجاوز الرأسمالية نفسها.وإذا كانت عوامل البطالة في الدول الصناعية ناجمة من التطور التكنولوجي، وتبدل أساليب الإنتاج مما يخفف الحاجة للعمالة البشرية، فإن عوامل النمو السكاني في الدول النامية تساهم في زيادة طوابير الراغبين في الحصول على العمل دون أن تتفتح فرص جديدة أمامهم لقصور قدرات برامج التنمية. وإذا كان واقع الدول الصناعية المتقدمة يدل على صعوبات اقتصادية واضحة بالمفهوم البراجماتي لأصحاب الشركات الصناعية الكبرى، فماذا هو الحال للدول النامية الفقيرة التي لا تنتج تكنولوجيا مطلقاً، ولا تملك صناعات وطنية متطورة، ولا تفكر في زراعة أراضيها لتوفر لشعوبها الأمن الغذائي بل تستورد المواد الغذائية بالعملة الصعبة من الخارج لكي تضمن قوت مواطنيها.لابد من التأكيد على حقيقة وهي أن العالم بأجمعه قد أنساق طوعاً أوكرهاً للعولمة الاقتصادية - الرأسمالية المتوحشة، وأصبح اليوم يمثل وحدة اقتصادية متكاملة لصالح الدول الصناعية الغنية، ولكن تناسينا أن الدول النامية الفقيرة - ومنها أقطارنا العربية- تعاني من صعوبات اقتصادية شديدة الوطأة قياساً بما تعانيه الدول الصناعية، فهناك بلدان تتمتع بظروف أفضل، وتتوافر لديها إدارات اقتصادية جيدة، في حين تعاني بلدان أخرى من سوء الإدارة والفساد بأنواعه وأشكاله المختلفة، ومن عدم توافر مناخات ديمقراطية فيها بالشكل السليم.لقد أصبحت البطالة هي القنبلة،دائمة الخطر،التي أخذت تشهدها اليوم الدول الرأسمالية الصناعية بشكل متزايد وبخاصة بعد انهيار نظام العولمة وآليات السوق الاقتصادي الحر،وما سببه في خلق أزمة مالية عالمية حادة في أثناء الولاية النهائية للرئيس السابق (بوش الابن) للولايات المتحدة الأمريكية.إذ لا يزال العالم كله يعاني من تداعياتها وسلبياتها في تفويض مقومات الاقتصاد العالمي.ومن المتوقع أن تحتدم الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مراكز المنظومة الرأسمالية بعد اتساع رقعة الأزمة المالية العالمية وتأثيراتها السلبية في التجارة العالمية،بيد أنه لن يكون بإمكان أي دولة رأسمالية أن تتحمل على المدى الطويل هذا الضغط الاجتماعي والتوترات المتزايدة التي سببتها البطالة،والتسريح الجماعي للعمال والموظفين جراء تفاقم الأزمة المالية العالمية التي أجبرت كثيراً من الشركات والمؤسسات المالية والصناعية على إشهار أفلاسها،الأمر الذي أفضى إلى تصاعد أحوال الجيش الاحتياطي للعمل،وتدهور أوضاعهم المعيشية والاجتماعية،وتزايد عمليات الافقار لأقسام واسعة من العمال والموظفين،وهذا ما نلمسه اليوم بشكل متصاعد في الدول الصناعية المتقدمة وبقية دول العالم قاطبة.ختاماً نقول،إذا كان هذا هو الحال بالنسبة للدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة،وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية،أن تعاني صعوبات اقتصادية شديدة وضائقات مالية كبيرة،فما بالنا بدول نامية فقيرة ومنها أقطارنا العربية التي انتهجت سمات الليبرالية الجديدة،وذلك بالأخذ بآليات السوق الاقتصادي الحر،وبيع مشروعات القطاع العام،والتخلي عن هدف التوظيف الكامل .....إلخ حتى أوقعت نفسها في ورطة رئيسية.على أن ما يهمنا الإشارة إليه في هذا السياق،هو موقف الحكومات العربية التي انساقت إلى السياسات الليبرالية الجديدة،وجعلت التعليم خاضعاً لاقتصاديات السوق،ومن ثم وقفاً على من يقدر على تحمل نفقاته المرتفعة.والرأسمالية الجديدة الصاعدة في الوطن العربي حكمت بهذا الشكل على االقاعدة العريضة من العمال والموظفين والفنيين،وشرائح كثيرة من الطبقة المتوسطة،حكمت عليهم بالبطالة المستديمة.فهل من مراجعة لهذه الهيكلية الاقتصادية الجديدة وسياساتها الليبرالية القاتلة واستبدالها بهيكلية اقتصادية ملائمة لواقعنا العربي وبخاصة بعد أن أثبتت العولمة فشلها الذريع في العالم،وتسببت في خلق أزمة مالية عالمية حادة؟أرجو ذلك.