أضواء
من الواضح أن المرحلة التي تعيشها «القاعدة» حالياً في السعودية تختلف كثيراً عن المراحل التي عاشتها خلال السنوات الماضية، فالتغرير بالصبية وتجنيدهم في صفوف الحزب التكفيري لم يعد متاحاً لمنظّري «القاعدة» وأربابها بسبب تضييق الخناق عليهم على مستويات عدة. النجاح الذي حققته وزارة الداخلية في حربها ضد أطراف «القاعدة» آتى أكله بشكل مباشر وسريع، فلم نعد نسمع عن هروب الصبية إلى العراق أو أفغانستان، كما كانت الحال في عامي 2002 و2003، ولم نعد نسمع نغمة التعاطف مع الجهاديين التكفيريين التي كانت سائدة في أول الألفية الجديدة، بل تجاوز الأمر ذلك إلى أننا لم نعد حتى نترحم ونزكّي على الله أولئك الأبطال المشوّهين الذين كانوا يسقطون صرعى في أراضي المعارك «القاعدية»، سواء الذين ماتوا خلال السنوات الثماني الماضية، أو الذين انتقلوا إلى رحمة ربهم خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي.المجتمع وعى حقيقة هذا الحزب التكفيري الخارج عن سماحة الإسلام ويسره، ووعى أكثر أنه ليس بحاجة إلى ختم «رجال دين معينين» ليتصل بربه! كنا نعيش خلال الـ 30 عاماً الماضية كذبة قروسطية كبيرة، تقول إن الطريق إلى الجنة لابد أن يمر على «محطة مطوع»، وكان من لا تظهر عليه سيماء الطاعة بالمقاييس «النجدية» بحاجة لأن يتحول أولاً إلى «مطوع» ثم يفكر بعد ذلك في الصعود في درجات الجنة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً!!هذه التبعية الكهنوتية انتهت الآن إلى غير رجعة بعد معرفة الجميع أن أبواب الله مفتوحة لكل أمة محمد باختلاف مناطقهم ودرجات تدينهم، الأمر الذي حد كثيراً من تغلغل الفكر القاعدي الذي كان يعتمد على تغييب الناس وتخديرهم باسم الدين.لكن، ولكن هنا هي مربط الفرس، ما جرت به الأحداث في الأسبوع الماضي يجعلنا نعلق الجرس في رقبة المستقبل، فمَخْبأ الأسلحة الذي عثرت عليه وزارة الداخلية قبل أيام خارج مدينة الرياض يعطي بعض الإشارات المهمة التي ينبغي علينا، بوصفنا محاربين للإرهاب والإرهابيين، أن نضعها في حسباننا دائماً.صحيح أن عمليات التجنيد والتغرير قد قلّت بشكل كبير بسبب وعي المجتمع أولاً بحقيقة الحزب التكفيري ولجهود وزارة الداخلية ثانياً، وصحيح أن صوت ابن لادن ورفاقه من كهوف أفغانستان لم يعد يجد آذاناً صاغية كما كان الوضع قبل سنوات قليلة، إلا أن تحول أرباب الفكر ومنظريه إلى جنود مقاتلين يعطي - كما قلت - مؤشرات يجب علينا درسها بتأنٍّ للخروج بنتائج تكفل لنا اجتثاث ما تبقى من هذا العفن الفكري والديني الذي استغل التدين الطبيعي لأواسط المجتمع لتسويق أفكاره الشيطانية باسم الدين والدين منها براء.«القاعدة» الآن ترمي بآخر أوراقها في السعودية، تعمل على اختراق المجتمع «عسكرياً» عن طريق منظريها ومفكريها بعد أن عز عليها الحصول على «جنود جهلة» يقبلون بتفخيخ أجسادهم ليقتلوا إخوانهم الذين لا يتمتعون بمستوى «تطوع» يماثل تطوع الأجساد المفخخة!نزول المنظرين إلى أرض المعركة يدل على أن «القاعدة» تعيش آخر أيامها في السعودية، هذا شيء جميل ورائع، لكن ذلك يدعونا أيضاً أن نغير خطتنا في محاربة القاعدة.كنا نتعامل - في مواجهة القاعدة - مع أوراق النبتة، كما قلت في مقال سابق، كنا نحاول علاج الأوراق ونترك الجذر والساق اللذين يعتبران مسؤولين مباشرين عن إنتاج الأوراق المريضة، الآن لا وجود تقريباً للأوراق، بسبب عجز الساق عن الإنتاج، لذلك علينا التعامل مع الساق والجذر، خصوصاً أنهما صارا يقومان بالدور نفسه الذي كانت الأوراق تقوم به من قبل.كيف يمكن لنا أن نتعامل مع الجذر والساق دون أن يؤثر ذلك على قناعات أوساط الناس؟!كيف يمكن أن نصد الخطر الذي تحول بموجبه المنظرون والمفكرون القاعديون إلى جنود قابلين لتفخيخ أجسادهم لقتل إخوانهم الذين لا يتمتعون بمستوى «ولاء» يماثل ولاء الأجساد المفخخة.أولاً... تجفيف منابع الفكر القاعدي من خلال: - قصر الفتوى على الجهات الرسمية فقط، بحيث لا يُسمح لأي أحد بأن يتجرأ على الفتوى موافقاً الجهات الرسمية مرة ومخالفاً لها مرات عدة.- مراجعة كل الكتب التاريخية المتداولة الآن في مكتباتنا ومحاصرتها وفرز الخبيث منها عن الطيب. كثيرون من أنصاف المتعلمين والمثقفين يؤمنون إيماناً كاملاً بكل ما ثقل وزنه واصفرت أوراقه وتقادم زمنه، حتى لو كانت خزعبلات سياسية تلبس لبوس الدين لتبرير مواقف تاريخية عمرها 700 عام!- عدم السماح لأي كائن كان بإلقاء محاضرات دينية، حتى لو كانت عن الحيض والنفاس، إلا بعد الرجوع لجهة الاختصاص المتمثلة في وزارة الشؤون الإسلامية، فمن كانت محاضرته لله ورسوله فله الإذن، ومن كانت لابن لادن ورفاقه فله المنع والتقريع والعقاب.- التأكيد على معلمي المراحل الأولية ألاّ يدخلوا الديني في غير الديني، مدرس العلوم مثلاً عليه أن يحصّن طلبته المسلمين بالعلم الطبيعي ليكون لهم دور في المستقبل يستطيعون به مقارعة الأمم الأخرى التي تسبقنا بمئات السنين، ويترك مسألة الشرعي وغير الشرعي والحلال والحرام لمدرس التربية الإسلامية.- تصفية الجامعات الحكومية الرسمية من متطرفي الفكر، الذين يخرجون علينا بين الحين والآخر بمواقف تضاد وجهة النظر الرسمية، هؤلاء لهم رأيهم الذي نحترمه، لكن عليهم، إن أرادوا أن يسوقوا آراءهم التي ترفضها أوساط الناس، أن يبحثوا عن جامعات خاصة تحتويهم وتحتوي فكرهم، نحن نثق بكل ما هو حكومي، لذلك على الحكومة أن تحمينا في هذا الجانب.ثانياً... إدخال التيارات المعتدلة إلى الواجهة الرسمية بحيث يكون حضور الليبرالي المعتدل في الشأن الاجتماعي مقابلاً للإسلامي المعتدل؛ لأن تزاحم التيارات في المشهد الوطني سيساعد على الحفاظ على نقطة وسطية تدور حولها كل الأطياف.[c1]* عن/ صحيفة «الحياة» اللندنية / مقالات سابقة للكاتب [/c]