الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه آثر حياة التقشف والعزلة على حياة الترف والتمتع بالحياة.بدءاً من الرَّبَذَةُ، إحدى أولى المدن الإسلامية في الجزيرة العربية، والتي تقع على مسافة نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من المدينة المنوّرة، والتي كانت في وِلايَةِ عُمَرَ بنِ الخطاب حِمَىً لإبِلِ الصدقةِ وخيلِ المسلمين، ثم أصبحتْ محطةً رئيسيةً عَلَى طَرِيقِ الحَجِّ القادم من العراق الْمَعْرُوفِ بِدَرْبِ زُبَيْدَةَ. واسم الربذة ارتبط بالصحابي الجليل أبي ذر الغفاري. ففي هذه المدينة أمضى رضي الله عنه أيامَه الأخيرة، بعدما رأى ما حلَّ بالناس من ترفٍ وفساد.وأبو ذرّ، وهذه كُنْيَتُه، اسمُه جندبُ بنُ جُنَادةَ الغِفاري، فهو من بني غِفَار، إحدى القبائل التي كانت تقيم على طريقِ التجارة بين مكة والشام. وكان أبو ذرِّ من أوائل الذين اعتنقوا الإسلام. فعندما سَمِع بأن نبياً بُعِثَ في مكة، ذهب إليه، وأسلمَ علانيةً في المسجدِ الحرام، فضرَبه رجالُ قريش، وكادوا يقتلونَه لولا تَدَخُّلُ العباسِ وتذكيرُهم بأن الرجلَ من غِفَار، التي تسكنُ على طريق تجارتِهم إلى الشام. عاد أبو ذرٍ إلى قومِه بين مكة والمدينة، وأصبح من الدعاةِ إلى الله، وكان له أثرُه الكبيرُ بين أهلِه وقبيلته. وظل كذلك حتى هاجرَ إلى المدينةِ بعد غزوة الخندق. وفي السنوات القليلة التي أمضاها أبو ذر يترددُ على المدينة المنورة، ظهرت شخصيتُه القوية وصلابتُه، كما تحددتْ معالمُ زُهدِه وتقشُفِه، وابتعادِه عن زُخْرِفِ الدنيا، وحُبِّه المساكين، وجهرِه بالحق، وميلِه إلى العزلة. شارك أبو ذرِّ رضي الله عنه في الفتوحات في عهدِ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ثم آثر الإقامةَ في بعضِ مناطق الشام، بعدما رأى العُمران يتوسعُ في المدينة، وتظهرُ على الناس آثارُ النعمة، وهو أمرٌ لا يتوافقُ مع شخصيتِه. وكان ممن خرجوا مع معاوية إلى فتحِ قبرص في السنةِ الثامنةِ والعشرين للهجرة. لكنه اختلفَ مع معاويةَ بسبب مظاهرِ الترف التي سادت في الشام. فبدأ يدعو الناسَ إلى التقشفِ والزهد. وتجمَّعَ حولَه كثيرٌ من الفقراء، فشعرَ معاويةُ بالخطر، لكنه يعرفُ قَدْرِ أبي ذرٍّ، فلم يَقْرَبْه بسوء.وتشير بعض الروايات إلى أن أبا ذر وهو في طريقه إلى المدينة بعدما تركَ دمشق، أقام فترةً في منطقةٍ في الأردن تدعى الربدة غيرِ بعيدةٍ عن طريقِ القوافلِ بين الشامِ والجزيرة العربية فذهب إليها طوعاً، بخلاف ما قيل فيما بعد من أنه نُفي إليها. وفي عزلته هذه، أمضى أبو ذر أيامَه الأخيرة. وتوفي رضي الله عنه في السنة الثانية والثلاثين للهجرة. وفي هذه المنطقة في الأردن، هناك بقايا منزلٍ أقامَ فيه أبو ذر، وبُني عليه فيما بعد مسجدٌ تم تجديدُه في الآونة الأخيرة.