من ذكريات الاستقلال الوطني المجيد
محمد زكريا:في المقر الرسمي للمندوب السامي البريطاني المتربع على ربوة في مدينة التواهي المطلة على مياه البحر العربي والذي يطلق عليه القصر البيضاوي وخيوط أشعة الشمس الذهبية تنسج خيوطها على مياه البحر الزرقاء الأخاذة المستمد لونها من سماء عدن الصافية . جلس حاكم عدن على المكتبة وفي يديه بعض من الأوراق التي احتوت على تقارير خطيرة تفيد أنّ ثورة مسلحة اندلعت في ردفان , وتقول التقارير " أنه من الضرورة بمكان الإسراع في إطفاء جذوة تلك الثورة قبل أنّ يستفحل أمرها وتنشب نيرانها كثير من مناطق محمية عدن الغربية وتحديداً في المحميات التسع " . وكان جالساً أمام مكتبة المندوب السامي القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط بعدن . وقد ظهرت على ملامح وجه القلق والاضطراب الشديدين . وعندما انتهى المندوب السامي من قراءة التقارير وأزاح الأوراق جانباً ، وألتفت نحو القائد العسكري العام دون أنّ يتكلم ، ولكنه كان مثبتاً عينيه باتجاه القائد العسكري إليه ليحثه على الكلام . فقال على الفور القائد العسكري.[c1]عدن في بداية عام 1964م [/c]ـــ الحقيقة لقد كتبت إلى وزير المستعمرات في اللحظة والتو قبل مجيئ بالمتمردين إليكم كتبت إليه أنّ هناك تعاوناً بين مجموعة من شيوخ القبائل في منطقة القطيبي في ردفان شمال مستعمرة عدن والجمهورية اليمنية حيث تمد الأخيرة هؤلاء الشيوخ بالبنادق والذخيرة . وكان من جراء ذلك أنّ أطلق هؤلاء أسلحتهم مؤخراً على أحدى قوافلنا العسكرية التابعة لجيش الاتحاد وهي في طريقها إلى الضالع ويعتبر ذلك أول حادث يقع في منطقة ردفان . وأردف القائد البريطاني ، قائلاً : ولقد أوضحت لوزير المستعمرات ، بأنّ الجمهورية العربية اليمنية لها بصمات واضحة في ذلك التمرد والدلائل تشير بأنّ بعض من الأسلحة التي بيد بعض رجال القبائل من آل القطيبي تحمل بنادق روسية الصنع سريعة الطلقات والذي يستخدمها الأغلب الأعم الجيش الجمهوري والذي يزودها مصر عبد الناصر . ـــ المندوب السامي : بعد أنّ أشعل غليونه ونظر إلى صعود الدخان وهو يتموج ويتلوى في فضاء الغرفة ، قال بنبرة واضحة ومركزة وعينيه مثبته على القائد البريطاني : يجب العمل بسرعة خاطفة على إطفاء جذوة هذا التمرد الخطير الذي ينذر إلى عواقب وخيمة في المحمية الغربية إذا لم ينقض عليه في الحال . ويمضي في حديثه : وأخشى ما أخشاه أنّ يمتد شرارة التمرد إلى كافة المحميات التسع . ــــ القائد العام : في تلك الحالة يجب أنّ نقوم باستعراض عضلاتنا العسكرية القوية في منطقة ردفان في وقت مبكر وبذلك يسري الخوف في نفوس المتمردين من جهة وأنّ تلك القوة ستكون درساً وعبرة لمن يحاول الخروج من قبضتنا ، إذا أردنا لمثل هذا النوع من القلاقل ألا ينتشر إلى أجزاء أخرى من مشايخ وإمارات المحمية الغربية . ـــ ويقطع المندوب السامي خيط حديث القائد البريطاني ، متسائلاً عن الخطة التي يجب أنّ نتبعها في وأد ذلك التمرد في المهد ، أرجو منك التحدث بإسهاب حول تلك الخطة والهدف منها ؟ .ـــ السيطرة على خط مواصلاتنا في الضالع ومنع جماعات المتمردين من الدخول إلى المنطقة . ويضيف ، قائلاً : الحصول على قاعدة ( الثمير ) لتكون نقطة إنطلاق لدورياتنا إلى شرق ردفان . وستتم العملية بمساعدة السلاح الجوي الملكي .ــــ ما هي حجم القوة في تلك العملية العسكرية إزاء المتمردين في ردفان؟.ــــ والحقيقة لقد تم التخطيط لتك العملية العسكرية والتي أطلقنا عليها اسم ( كسار جوز الهند ) . والتي ستبدأ في الرابع من يناير 1964م . وستقوم بالعملية الكتيبتان الثانية والثالثة من جيش الاتحاد النظامي المدربين تدريباً عالياً وستدعمها المدفعية البريطانية ، والفرقة الملكية للمهندسين . وعلى الرغم أنّ القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط في مستعمرة عدن ، قد طمأن المندوب السامي إلى نجاح تلك الحملة العسكرية غير أنّ الأخير خامره أحساساً غريباً ، أنّ تلك الاضطرابات والقلاقل العسكرية التي اندلعت في منطقة ردفان ستكون لها عواقب وخيمة وخطيرة على وجود البريطانيين في المحمية الغربية إضافة إلى المحمية الشرقية في حضرموت بصورة عامة ومستعمرة عدن بصورة خاصة . وقبل أنّ يقوم القائد البريطاني من مقامه ، بادره المندوب السامي بالسؤال هل متأكد أنّ جنود جيش الاتحاد الفيدرالي وهم من أبناء المنطقة من المتوقع أنهم سيفتحون النار على أبناء جلدتهم , وعشيرتهم ؟ . ـــ ارتسمت على وجه القائد البريطاني ابتسامة لا معنى لها ، وقال على الفور أنّ جيش الاتحاد جيشاً منضبطاً و يطيع الأوامر العسكرية الصارمة الموجهة إليه . والحقيقة أنّ المندوب السامي كان صاحب نظرة ثاقبة عندما أدرك أنه من الصعوبة بمكان أنّ تحدث مواجهة صريحة بين جيش الاتحاد المؤلف من أبناء الريف والثائرين من أبناء منطقة ردفان والذين ينتمون إلى عشائر وقبائل متداخلة فيما بينهم . وأنّ تلك المسألة تمثل نقطة ضعف في الحملة العسكرية الأولى التي من المقرر أنّ تبدأ مع خيوط فجر في الرابع من يناير 1964م . [c1]الحملة الأولى[/c]وفي فجر الرابع من يناير 1964م ، أنزلت طائرات ( هيلوكبتر ) عدداً من الجنود فوق مرتفعات ردفان وتحديداً على وادي ( ربوة ) وعلى الأرض العالية المشرفة على وادي ( المصراح ) . تقدمت كتيبة بمساندة الأسلحة الثقيلة نحو وادي ( ربوة ) للسيطرة على المرتفعات العالية المطلة على وادي ( تيم ) وكتيبة أخرى صوب الجنوب الشرقي بهدف السيطرة على جبال ( البكري ) المتحكمة بالطرق وبالتالي يمكن حصار الثوار في الوادي . [c1]الثوار والانتصار الأول[/c]في ذلك الوقت كان الثوار ، يراقبون مسرح العمليات العسكرية التي كان يقوم بها البريطانيين ، وعندما حانت ساعة الصفر ، وسار العدو في مرمى الهدف ، انهمر رصاص الثوار على البريطانيين بصورة مستمرة ومكثفة ومركزة ومن كل مكان وحدثت فوضى عارمة بين صفوف الجنود ، مما دفع بالقيادة البريطانية أنّ تأمر بقية الطائرات حاملات الجنود العودة إلى قواعدها ومن جراء نيران أسلحة الثوار الكثيفة الذي لم ينقطع مما أسفر على مقتل وجرح عدد من جنود الكتيبة التي كان من المفروض عليها السيطرة على قمم مرتفعات جبال ردفان الاستراتيجية . وهكذا لم تستطيع خطة ( كسار جوز الهندي ) تحقيق أهدافها الرامية السيطرة على المرتفعات العالية في منطقة ردفان من جهة ووأد الثورة في المهد من جهة أخرى وعلى أية حال تمكن الثوار من إغلاق طريق الضالع لفترة 24يوماً على الرغم من العتاد العسكري البريطاني الفتاك والحديث بالنسبة لأسلحة الثوار الذين لا يملكون سوى البنادق العتيقة وقلة نادرة كانوا يملكون بنادق سريعة الطلقات . وبذلك تكون الحملة الأولى التي بدأت مع خيوط فجر الرابع من يناير وانتهت في 31 يناير والتي استمرت قرابة 24يوماً والتي أطلق عيها اسم ( كسار جوز الهند ) , قد فشلت فشلاً ذريعاً . وكان لها نتائج عسكرية سلبية على هيبة القوات البريطانية في المنطقة من ناحية ودفعت بعدد من القبائل في منطقة ردفان الانضمام إلى الثوار بعد أنّ أظهروا رباطة جأش ضد قوات أكثر منهم عدداً وعدة . ولقد عقب عدد من المحللين العسكريين أنّ الثوار أثبتوا بجدارة بأنهم يملكون تكتيكاً قتالي رفيع المستوى , فقد استغلوا عامل الأرض الذي يعرفونها تمام المعرفة ، واستطاعوا كذلك أنّ يأخذوا زمام المبادرة من القوات البريطانية. وكانت تلك الحملة العسكرية الأولى التي سميت ) في منطقة ردفان من أهم المعارك العسكرية وإنّ يكن أهمها على الإطلاق حيث كانت البوادر الأولى في انتصار الثوار على القوات البريطانية من ردفان إلى مستعمرة عدن . [c1]غضب في الصحافة البريطانية[/c]ولقد تسربت أنباء تلك الحملة البريطانية الأولى التي تحطمت على صخرة مقاومة الثوار في الصحافة البريطانية ، ويقال أنّ الذي سرب تلك المعلومات هو أحد مراسلي هيئة الإذاعة البريطانية ( B. B. C ) الذي كان مرافقاً للحملة العسكرية . ولقد هاجمت كبريات الصحف البريطانية هجوماً لاذعاً كبار القادة العسكريين الذين خططوا للعملية العسكرية ( كسار جوز الهند ) ، وصفتهم بأنهم ضباط مغرورين ، ومتغطرسين يظنون أنّ الحملة ماهي إلاّ نزهة عسكرية ، فاستهانوا بالمتردين الذين لقنوهم دروساً في فنون القتال بصورة تدعو إلى الإعجاب والدهشة . وعلى أية حال ، لقد كانت أقامة الصحف البريطانية الدنيا ولم تقعدها ، وثار الرأي العام البريطاني إزاء القتلى والجرحي التي وقعت في صفوف القوات البريطانية . وعلقت صحيفة التليجراف على قادة الحملة العسكرية الأولى في منطقة ردفان ، بما معناه : " بأنهم ساروا إلى المعركة وأعينهم معصوبة وهم لا يدرون عن خصمهم شيء سوى أنهم شرذمة من المتمردين سيتم القضاء عليها في الحال والتو ولكن واقع الأمر أنّ هؤلاء المتمردين كانوا أصحاب شجاعة وإقدام وثقة في النفس من جهة ولديهم قدرة عالية في التكتيكات القتالية من جهة أخرى لقنوا القوات البريطانية درساً كبيراً سيظل منحوتاً في ذاكرة العسكرية البريطانية . [c1]الحملة الثانية [/c]وكان من الطبيعي ألا تسكت قيادة الشرق الأوسط البريطانية في عدن على تلك الحملة الأولى التي باءت بالفشل العسكري الذريع والتي كانت لها عواقب ونتائج سلبية على قوة وهيبة بريطانيا العسكرية في المنطقة وأمّا في الجانب الآخر المتمثل في الثوار فقد ساد جواً من الثقة في أنفسهم بعد أنّ أوقعوا بقوات بريطانيا العظمى الهزيمة فقويت عزيمتهم على منافحة ومقاومة البريطانيين ، وأنها ليست بالقوة العسكرية التي لا تقهر . وكان من جراء ذلك أنّ انضمت عدداً من القبائل والعشائر إلى الثوار بعد الحملة العسكرية البريطانية الأولى في منطقة ردفان . [c1]خطة رستم[/c]وضع القادة العسكريون خطة أخرى أطلق عليها اسم ( رستم ) ، وكانت أهدافها تتمثل في مد سيطرة القوات البريطانية العسكرية إلى وادي ( يتم ) ووادي ذنبه ولكن فشلت أيضاً أهداف تلك الحملة الثانية بسبب أنّ الجيش الاتحادي لم يستطيع أن يمد سيطرته العسكرية على هذين الواديين . والحقيقة أنّ أفراد الجيش الاتحادي كان له دور مشرف في تلك الحملة والحملات الأخرى ، فقد رفض القتال ضد أبناء عشيرته مما كان السبب الرئيس في فشل تلك الحملة الثانية . وهذا ما نبه إليه المندوب السامي في عدن للقائد العام البريطاني في الشرق الأوسط , ويبدو أنّ هذا الأخير كان يجهل تماماً خصائص وطبيعة اليمنيين فلم يلتفت إلى كلام المندوب السامي . والجدير بالذكر أنّ الحملة الثانية وقعت ما بين الأول من فبراير والثالث عشر من أبريل 1964م . [c1]ضرب حريب [/c]والحقيقة أنّ الثوار في ردفان ، كانوا يجدون الدعم والمساندة الكاملين من قِبل ثورة 26سبتمبر في اليمن التي تحررت من قيود وأغلال الحكم الأمامي المستبد وطفقت تخطو خطوات حثيثة في بناء اليمن الحديث . وكانت السلطات البريطانية تدرك تمام الإدراك أنّ الجمهورية العربية اليمنية تساند وتمد الثوار بالأسلحة والذخيرة للوقوف ضد قواتها ولذلك عمدت على اختراق حدود اليمن الجمهوري وضرب مدنه . وقد حدث هذا عندما فشلت الحملة العسكرية البريطانية الثانية في ردفان ، فقامت الطائرات البريطانية بشن عدداً من الغارات الجوية على منطقة حريب. وكان من جراء تلك الغارات البريطانية الجوية على حريب اليمنية أنّ أثارت ردود أفعال غاضبة في الصحافة بالبريطانية من جهة وفي هيئة الأمم المتحدة من جهة أخرى .[c1]الثوار والإستراتجية القتالية[/c]ويلفت نظرنا أنّ التكتيك القتالي للثوار تطور بشكل كبير واتخذ الأداء التنظيمي الدقيق وباتت هناك استراتيجية قتالية واضحة للثوار ضد المواقع العسكرية البريطانية من جهة وازدياد أعداد الثوار بصورة ملحوظة وصل إلى أكثر من 500 مقاتل من جهة ثانية ، وبات الثوار يرتدون ملابس رسمية مميزة ، وأنهم في غاية التنظيم ، ومسلحون تسليحاً جيداً من جهة ثالثة وأخيرة . وهذا ما أكدته المخابرات البريطانية في رسائلها السرية الموجهة إلى القادة العسكريين البريطانيين . وهذا ما أكده أيضاً المندوب السامي في سياق تقريره الذي كتبه إلى حكومة بريطانيا ، قائلاً : " أن ما لم يكن عادياً هو أنّ الألغام بدأت تستخدم ، وبدأت تبلغنا التقارير عن وجود الثوار في ميدان المعركة وهم بأزيائهم المميزة يسمون أنفسهم بمقاتلي الجبهة القومية N.L.F ) ) . وكان هذا أول تهديد خطير للأمن خارج عدن نقابله منذ قيام الانتفاضات في الريف" .[c1]بزوغ الجبهة القومية [/c]ونستخلص من تقارير المخابرات البريطانية ، وتقرير المندوب السامي في حكومة عدن ، ظهور أول مرة اسم الجبهة القومية ( ( N.L.F وبعبارة أخرى أنّ تنظيم الجبهة القومية أعلن عن نفسه صراحة بأنه هو الذي يدير المعارك والعمليات العسكرية ضد القوات البريطانية سواء في منطقة ردفان أو في الضالع أو في مناطق الريف . ويذكر الدكتور محمد عمر الحبشي بأنّ الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل تأسست في 14أكتوبر 1963م " وكانت المحرك الحقيقي للتمرد المسلح في قبائل ردفان ولأحداث الثورة بوجه عام " . بات هناك تطور واضح في التكتيك القتالي للثوار لا يقتصر فحسب على ضرب العدو البريطاني بالبنادق بل بات استخدام الألغام من الوسائل القتالية للثوار . وبات أيضاً للثوار بزة عسكرية متميزة بهم ـــ كما قلنا سابقاً ـــ كل هذا يدل بصورة ملموسة على مدى التطور الكبير الذي وصل إليه الثوار في التكتيك القتالي . [c1]الحملة الثالثة [/c]وأشارت التقارير العسكرية إلى عددِ ِ من المعلومات الهامة عن الحملة الثالثة على منطقة ردفان وهي أنّ غالبية القوة البريطانية كانت مؤلفة من القوات البريطانية بخلاف الحملتين الأولى والثانية اللتين كانت غالبيتهما مكونة من الجيش الاتحادي , وتولى في تلك الحملة ( جون كابون ) القائد العام للقوات البرية في الشرق الأوسط بعدن بدلاً من قائد جيش الاتحاد . وأنشئت قوت التدخل السريع الخاصة لضرب الثوار والثورة في ردفان . ولقد سميت تلك الحملة الثالثة باسم ( قوة ردفان ) . وحددت حكومة صاحبة الجلالة البريطانية الأهداف التي يجب أنّ يتبعها ( جون كابون ) في منطقة ردفان وهي كالتالي : ـــ منع الثورة من الانتشار .ـــ عودة السلطة البريطانية المفقودة في ردفان .ـــ وقف هجمات الثوار على طريق الضالع . [c1]الثوار والتكتيك القتالي[/c]وفي الحملة الثالثة استخدم الطيران الملكي الحربي بكثافة فضلاً عن أنّ الأغلب الأعم من القوات كانت من الجيش البريطاني والذي وصل عددها تقريبا على ما يزيد عن ( 3000 ) جندي , وتم أيضاً استخدام وسائل تكتيكية قتالية لأول مرة فوق قمم جبال ردفان تتمثل بعملية إنزال الجنود من حاملات طائرات ( الهيلكوبتر ) على عددِ ِ من المرتفعات العالية ، والتحرك تحت جنح الظلام . وتم في تلك الحملة الثالثة تهجير عدد كبير من سكان قرى مناطق ردفان بغرض الضغط على الثوار . واستمرت الحملة الثالثة في منطقة ردفان أو بتعبير آخر تواصلت المعارك العسكرية بين الثوار والقوات البريطانية من 14 أبريل وحتى 11 مايو 1964م . أظهر فيها الثوار رباطة جأش ، وتكتيك قتالي رفيع المستوى ، وقدرة نارية كثيفة وقوية ومركزة ، وقدرة على المناورات القتالية أدهشت العدو. ولقد وصف أحد المراسلين البريطانيين في هيئة الإذاعة البريطانية ( B.B.C ) الثوار بــ ( الذئاب الحُمر ) نظراً لشراستهم في القتال وعدم التزحزح من موقعهم مهما كانت التضحيات جسيمة . وكان الثوار يستشهدون في مواقعهم مدافعين عنه حتى آخر قطرة في دمائهم . وعلى أية حال ، فقد باءت تلك الحملة الثالثة البريطانية في منطقة ردفان بسبب المقاومة العنيفة من قِبل الثوار ، وتطور وسائل تكتيكهم القتالي ، وبراعتهم في المناورة ، وقدرتهم الفائقة على أخذ المبادرة من العدو . وتذكر بعض التقارير السرية للمخابرات البريطانية أنه من الأسباب الأخرى التي ساهمت في هزيمة القوات البريطانية سواء في الحملة الأولى والثانية والثالثة هو أنّ جنود جيش الإتحاد ، كانوا يتراخون في تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من القيادات العسكرية البريطانية إبان العمليات العسكرية المتمثلة بعدم الرد على مصادر نيران الثوار . [c1]الحملة الرابعة[/c]وعلى الرغم من الهزائم الفادحة للقوات البريطانية التي تكبدتها على تلال ، وقمم ، وجبال ردفان التي تكاد أنّ تلثم وجه السماء من ارتفاعها الشامخ إلاّ أنّ القيادة العسكرية البريطانية وجدت أنّ تلك الهزائم المتتالية التي لحقتها بحملاتها العسكرية الثلاث صفعة في وجه هيبة وقوة بريطانيا العظمى في المنطقة . وبناء على ذلك فقد قررت قيادة الشرق الأوسط البريطانية في عدن أنّ تعد حملة أخرى تتجنب بها الأخطاء التي وقعت فيها في الحملات السابقة . واستمرت تلك الحملة على منطقة ردفان قرابة 21يوماً من 11 حتى 23مايو 1964م . وفي تلك الفترة وقعت مصادمات حامية الوطيس بين الثوار والقوات البريطانية ، وفي تلك الحملة استخدمت لأول مرة السيارات المصفحة ، والدبابات بصورة مكثفة بالإضافة إلى استخدام الطائرات المروحية ( الطوافة ) . [c1]في عرين الأسد[/c]ولقد وضعت خطة الحملة الرابعة على أساس جر الثوار إلى أماكن مكشوفة ومفتوحة ومن ثم القيام بضربهم بالطائرات ، والدبابات ، لكون السلاح الأخير يعمل بكفاءة قتالية كبيرة في المناطق السهلية والمفتوحة وبذلك التكتيك القتالي يتكبد الثوار خسائر فادحة في الأرواح مما يؤدي إلى انخفاض معنوياتهم القتالية ومن ثم القضاء عليهم . والغريب في الأمر ، أنّ القيادة البريطانية وضعت خطة ، قد ظهرت فشلها الذريع في الحملات السابقة وهي توغل الجنود البريطانيين إلى مناطق الثوار . وقد كتب أحد الضباط البريطانيين في مفكرته ، قائلاً بما معناه : " لقد دفعتنا قيادتنا العسكرية إلى عرين الأسد ، فالتهم رؤسنا " . وكان توقع هذا الضابط البريطاني في محله ، فقد تعرض الجنود البريطانيون إلى خسائر فادحة في الأرواح والعتاد . ودارت المعركة الرئيسة بين الثوار والقوات البريطانية في يوم الثالث والعشرين من مايو في قرية ( القطيشي ) والواقعة على جبال ( البكري ) . ولقد وصفت تقارير المخابرات البريطانية بسالة الثوار ، وقدرتهم على الاختفاء في كهوف الجبال بصورة تدعو إلى الدهشة ، ومهارتهم في ضرب القوات البريطانية بشكل دقيق ومؤثر ، وعلى الرغم من استخدام الطائرات الحربية ( الهنتر ) للإغارة على مواقع الثوار , واستخدام أيضاً الأسلحة الحديثة والفتاكة إلاّ أنها كلها فشلت في تحقيق أهدافها وهو القضاء على الثورة والثوار بسبب اختباءهم في أخاديد الجبال الشامخة وكهوفها العميقة وعلمها بطبيعة أرضهم . [c1]من أشرس المعارك[/c]ولقد وصف مراسل هيئة الإذاعة البريطانية ( B.B.C ) المعركة الحامية الوطيس التي دارت رحاها في قرية ( القطيشي ) المتربعة قمة جبال ( البكري ) بأنها من أشرس المعارك وأقواها التي وقعت بين الثوار والقوات البريطانية وعلى الرغم من أنّ الأخيرين كانوا يملكون الأسلحة الحديثة والفتاكة ، ويملكون الطائرات الحربية التي كانت تمطر مواقع الثوار إلاّ أنهم لم يتوقفوا لحظة عن إطلاق نيران أسلحتهم على الجنود البريطانيين . وفي نفس السياق ، تقول المخابرات البريطانية حول بسالة وشجاعة وجرأة الثوار في تلك المعركة الرئيسة : " أنّ شجاعة الثوار وقدرتهم على مقاومة الأسلحة الحديثة . قد ظهرتا بشكل مثير للإعجاب في هذه المعركة ، فقد شنت طائرات الهنتر سلسلة متتالية من الغارات على مواقع الثوار مستخدمة الصواريخ وقذائف 80مم ولكنها فشلت تماماً في أنّ توقف الثوار من إطلاق النيران " . ولم تحقق الحملة الرابعة أهداف العسكرية وهي هزيمة الثوار مما دفع بالقيادة العسكرية البريطانية في مستعمرة عدن إلى إعطاء الأوامر بالانسحاب بسبب الخسائر الفادحة التي وقعت في صفوف الجنود البريطانيين بين قتيل وجريح من جهة والخسائر الكبيرة في العتاد من جهة أخرى [c1]سلاح الجو الملكي [/c]والواقع أنّ بريطانيا منذ أنّ وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وضعت نصب عينيها على ضرورة التدخل الواضح والصريح في المناطق الداخلية والتي تعرف بـ ( المحميات التسع ) ولقد طفقت السلطات البريطانية بعقد المعاهدات مع سلاطين ومشايخ , وأمراء ، وحكام المحمية الغربية بغرض أنّ يدورون في فلكها . ورأت حكومة عدن أنه من أجل تنفيذ مخططها الرامي إلى جعل إمارات ، ومشايخ المحمية الغربية تدخل في طاعتها . كان عليها أنّ تظهر قوتها العسكرية , وكانت ترى السلطات البريطانية أنّ سلاح الجو الملكي البريطاني هو القادر على تنفيذ تلك الخطة العسكرية حيث أنه في الإمكان إخماد جذوة أي تمرد يحدث في تلك المنطقة. وفي هذا الصدد ، تقول شفيقة عبد الله العراسي : ورأت بريطانيا أنّ سلاح الجو أصبح القوة الفاعلة والمساعدة لإحداث التغييرات السياسية وتنفيذها في المنطقة وعليه فقد تدخلت بنشاط أكثر في الشئون الداخلية للمحميات كإصرارها على تحقيق الأمن في طرق التجارة ومحاولتها وضع حد للحروب الداخلية ودعم سلاطين وشيوخ المعاهدة ضد العناصر غير الخاضعة من رعاياهم ووقف الميل والاتجاه إلى التفكك والانشقاق المستمر بين القبائل . وكان ذلك بهدف خلق المناخ الملائم لها في تحقيق سياستها الداخلية " . وعلى أية حال ، عندما اندلع الكفاح المسلح في منطقة ردفان ، سارعت السلطات البريطانية بإرسال سلاح الجو الملكي إلى تلك المنطقة لإخماد الإضطرابات والقلاقل العسكرية فيها من ولكن المعارك العسكرية التي دارت بين الثوار من جهة والقوات البريطانية من جهة أخرى أثبتت أنّ سلاح الجو الملكي فشل في تحقيق الأهداف العسكرية المتمثلة بإخماد الثورة في ردفان وأنّ نظرية الاعتماد على سلاح الجو فحسب غير فعالة وأنه من الضرورة بمكان الاستعانة بالقوات البريطانية البرية وعلى الرغم أنّ السلاح الجوي الملكي كان يشن غارات مكثفة على الثوار لأحداث أكبر الخسائر فيهم إلاّ أنهم سرعان ما يعودون مرة أخرى ويكبدون القوات البريطانية خسائر فادحة .[c1]الحملة الخامسة [/c]وأعدت بريطانيا العدة للقضاء على الثوار في جبال ردفان ، فأرسلت الحملة الخامسة والتي بدأت في الرابع والعشرين من مايو وانتهت بغروب 23 أغسطس 1964م . وكان من الأهداف الرئيسة من خطة تلك الحملة الخامسة هو قطع خطوط طرق تمويل الثوار بالأسلحة والذخيرة القادمة من اليمن الجمهوري , فكان لا بد من السيطرة على وادي ( نخلين ) . ومن الأهداف الاستراتيجية لتلك الحملة أيضاً هي السيطرة على جبل ( الحورية ) الذي يصل ارتفاعه إلى ما يقرب من 5500قدم وهو أعلى قمة جبال ردفان . واستعانت بريطانيا في تلك الحملة الخامسة بالقوات المظلية المعروفة بتكتيكاتها العالية في المناطق المرتفعة . وتوغلت القوات البريطانية المحملة بالسيارات المصفحة في وادي ( نخلين ) ووادي ( نياف ) ووادي ( المصراح ) ووادي ( ذبسان ) بغرض قطع طرق قوافل الثوار التي تحمل الذخائر والمؤن من اليمن الجمهوري ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . وتوغلت القوات البريطانية المدعمة بسلاح الجو الملكي إلى داخل تلك الأودية دون أنّ تجد أية مقاومة ، وظن الجنود البريطانيين أنّ الثوار ، قد تقهقروا وانسحبوا من مواقعهم . ولم تمض لحظات حتى اشتعل الأرض ناراً ، فقد أطبق الثوار من كل مكان في الأودية ، وفوق قمم المرتفعات يصلون القوات البريطانية ناراً حامية بأسلحتهم . وكان من جراء ذلك أنّ لحقت بالقوات البريطانية خسائر كبيرة بين قتيل وجريح . وكان سلاح الجو الملكي يطير على مستوى منخفض ويلقى القنابل على مواقع ومراكز الثوار بهدف تخفيف العبء على القوات البرية التي أصيبت أصابة فادحة . واستمرت المعارك الشرسة بين الثوار والقوات البريطانية يدعمها سلاح الجو الملكي . وفي العاشر من يونيو استطاع الثوار إسقاط طائرة هيلوكبتر بعد أنّ اخترقتها نيران بنادقهم .[c1]نتائج الحملات البريطانية [/c]والحقيقة أنّ المحليين العسكريين البريطانيين اعتبروا أنّ الحملات العسكرية البريطانية الخمس على ردفان كانت حملات فاشلة بكل معنى لهذه الكلمة , والبعض قال عنها أنها الخطوة الأولى في مسيرة الاستقلال ، والبعض الآخر وصف تلك المعارك العسكرية التي دارت في تلك المنطقة بأنها كابوس مخيف للعسكرية البريطانية من جهة وأنّ الثوار أثبتوا رباطة جأش يحسدون عليها , وقدرة غاية في الروعة في استخدام أساليب التكتيكات القتالية التي أذاقت البريطانيين العذاب الغليظ من جهة أخرى . وكلما استمرت الحملات العسكرية البريطانية على مناطق ردفان والريف. كانت مقاومة الثوار تزداد صلابة وقوة وشراسة . مما دفع بمراسل هيئة الإذاعة البريطانية أنّ يصف الثوار بـ ( الذئاب الحمر ) المعروفة بشراستها في القتال وأنها لا تنسحب من ميدان القتال مهما كان خصمها أقوى منها ، وأنها تقاتل حتى آخر رمق في حياتها .[c1]الهوامش :[/c]سلطان ناجي ؛ التاريخ العسكري لليمن ، الطبعة الثالثة 2004م ، الناشر: دائرة التوجيه المعنوي ـــ الجمهورية اليمنية ـــ صنعاء ـــ .الدكتور محمد عمر الحبشي ؛ اليمن الجنوبي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، الطبعة الأولى أذار ( مارس ) 1968م . دار الطليعة للطباعة والنشر ـــ بيروت شفيقة عبد الله العراسي ؛ السياسة البريطانية في مستعمرة عدن ومحمياتها 1937 ـــ 1945م . الطبعة الأولى 2004م ، إصدارات جامعة عدن ـــ الجمهورية اليمنية ـــ عدن