يوسف أباالخيلينعى الباحث العربي المقيم في فرنسا "هاشم صالح" على العالم الإسلامي قبوله توطين التكنولوجيا الغربية ورفضه في نفس الوقت للأفكار والنظريات الفلسفية الغربية التي شكلت جذراً أساسياً لها، وقبله كان المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري ينعى في سِفْره الرائع( نقد العقل العربي) على هذا العقل ازدواجيته في التعامل قديماً مع الفلسفة اليونانية بأخذه منها ما استطاع خلطه بالفلسفة الإشراقية والعرفان الباطني وباتخاذه المنطق كآلة شكلية للجدل فقط والتي لم يزد في اتخاذه له - أعني المنطق - على أن استبدل به آلية استنباطية عربية هي القياس الفقهي والكلامي. شخصياً لا أرى في هذه الازدواجية إلا نوعاً من الشيزوفرينيا أو انفصام الشخصية التي أصابت الثقافة العربية منذ أن تخلت عن المحاولات الأولى للتنوير سواء منها ما كان على يد التنويريين الأوائل كأبي حيان التوحيدي والجاحظ وابن حزم وابن رشد وقبلهم الكندي والفارابي (خصوصاً في محاولتهما تبيئة الفلسفة والمنطق في الثقافة العربية) أو ما كان منها على يد خلفائهم المحدثين أمثال الطهطاوي ولطفي السيد والكواكبي ومحمد عبده والأفغاني وغيرهم من المعاصرين. بالمقابل فإن هناك من المعاصرين من يدعو إلى الحداثة الفنية - وفقاً للاعتقاد بإمكانية تجزئة الحداثة - وترك الحداثة الفكرية، لأن الأخيرة بزعمهم تتعارض مع الثوابت الدينية الإسلامية، وفي تقديري فدعوة مثل هذه لا تخرج إلا من تحت عباءة عدم فهم الفرق الدقيق بين الإسلام وبين التراث الإسلامي التاريخي، الإسلام بصفائه الأول كما نزل على محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم يفرق تماماً بين الناحية الروحية والناحية الاجتماعية بكافة ما تشتمل عليه من سياسة واقتصاد وتربية وتعليم وصناعة إلخ، الأولى تنظمها النصوص الصحيحة صحة قطعية ثبوتاً ودلالة، أما الثانية فمتروك شأنها للعقل البشري ليرى فيها ما يشاء وفق مصالح الجماعة الراهنة المتأثرة بالمتغيرات الزمانية والمكانية، وهذه هي الحداثة بعينها بغض النظر تماماً عما اصطحبته الممارسات التاريخية الاجتماعية منها والسياسية معها من تراث بشري خلط الروحي بالدنيوي والسياسي بالديني تبعاً لإملاءات أيديولوجية مختلفة. لقد كانت تصرفات الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه توحي بالتفرقة التامة بين ما يجب أن يتولاه العقل البشري وبين ما يجب أن يتولاه النص الديني، وقصة تأبير النخل المشهورة تنطق بهذا الأمر جلياً، فقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل فسأل عما يصنعون فقالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال "ما أظن يغني ذلك شيئا" فتركوا التلقيح فلم يثمر، فأُخبر بذلك فقال "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه" فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به". وفي إحدى روايات الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال عقب تلك الحادثة" ما كان من أمر دينكم فإليَّ وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به"، وهو نص محكم واضح يعطي للعقل البشري مجاله لأخذ زمام المبادرة في تنظيم شؤون الاجتماع وفق متطلبات ومعطيات العصر المعاش، وهذا الأمر ما هو إلا لب الحداثة وأسها وأساسها المكين، ليست الحداثة شيئاً آخر غير الاقتناع بقدرة العقل البشري على تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية تفسيراً علمياً سببياً لا مكان فيه للخرافات والصدف، ومن ثم قدرته انطلاقاً من ذلك على ابتداع النظم والقوانين التي تسير أمر الجماعة البشرية في لحظة من لحظات التاريخ المتحرك السائر دوماً، باستصحاب مصالح الناس وما إليه يتطلعون من حياة هانئة آمنة مستقرة، وباب المقاصد الشرعية التي تُعنى بالبحث عن مقاصد النصوص الشرعية باب واسع ومورد هائل للنهل منه على طريق تعبيد الطريق للعقل العربي للقيام بدوره المعطل منذ نهاية القرن الخامس الهجري تقريباً وحتى الآن، وأولى خطوات إقالة عثرات هذا العقل تكمن في فك الاشتباك بينه وبين العقل الفقهي الجامد الذي ينظر إلى النصوص بمعيار ظاهرها فقط بعيداً عن تطبيق أثر التقادم والتغاير على المصالح الحياتية التي تنشدها النصوص والتي نزلت من أجلها في الأساس، العقل التقدمي يرى مثلاً أن منع أو إباحة أي نوع من المعاملات يجب أن يرتبط بمعيار واحد أساسي وهو معيار المصلحة الدنيوية المعاشة، ولنا في هذا السياق أن نتذكر الخليفة عمر بن الخطاب عندما أوقف العمل بالكثير من النصوص القرآنية عندما رأى أن مقاصدها لم تعد أساسية في حياة الناس، لنعِد إلى الأذهان في هذه العجالة موقفه من سهم المؤلفة قلوبهم، إذ أوقفه فور توليه الخلافة رغم النص عليه في القرآن، وذلك عندما رأى أن الغاية منه وهي تقوية الإسلام بتكثير أنصاره لم تعد قائمة بعد أن أعز الله الإسلام ودخل الناس فيه أفواجاً.* نقلاً عن صحيفة ( الرياض) السعودية
|
ثقافة
انفصام الشخصية العربية
أخبار متعلقة