بداية، ومن حيث المبدأ، لست ضد ظاهرة رفع بيانات المطالبة السياسية، أو حشد التواقيع لها، من كل حدب وصوب، في أي مكان في العالم، أو كما جرى ويجري في السعودية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بشكل لافت. هو نوع من الاحتجاج "السلمي" أفضل من أحداث شغب، وارتكاب أعمال عنف هنا وهناك. هذا من حيث المبدأ، ثم ان هناك قراءة مثيرة وممتعة لظاهرة البيانات المذيلة بعشرات الأسماء في السعودية، فهي، إضافة لأشياء أخرى، نوع من استعراض الوجود، والقول بأن ما نطالب به يملك سندا شعبيا، وهو رأي الشارع، وفي تقديري أنه يجب أن لا يقلق السعوديون كثيرا من ذلك، رغم أنه يخدش الهدوء و"الركادة" السعودية المألوفة في الساحة المحلية. صحيح أنه وبعد تضخم هذه الظاهرة، وسيلان البيانات من تكتلات واطراف سياسية موجودة في المجتمع، خصوصا خلال سنتي 2003م و2004م، صدر قرار حكومي بمنع موظفي الدولة من التوقيع على هذا النوع من البيانات السياسية (2004)، لأنهم يعملون في الدولة في نهاية الأمر، إلا أن هذا الامتناع من قبل بعض موظفي الدولة لم يصمد طويلا، ولاحظنا خلال الشهرين الأخيرين عودة ظاهرة البيانات، وكان آخرها بيانٌ موقعٌ من قبل 61 شخصا، من أكاديميين وموظفي دولة، يعبر عن رؤية مغرقة في تشددها لطبيعة السياسات الحالية في السعودية. البيان كان تحت عنوان:"تحذير وبيان" وكان من ابرز موقعيه ناصر العمر وخالد العجيمي، وغيرهما من رموز "الصحوة" أو الإسلاميين المسيَّسين في السعودية. ميزة هذا البيان، الأخير، على غيره من بيانات الفترة الحالية، هي لغته الحادة، وتصويره البالغ الترهيب للمشهد السياسي الحالي، فهو بيان من النوع العالي الصوت، يعكس المزاج المتوتر الذي افرزه، إنه يريد إقناع من يطالعه بوجود: "عصابة معروفة بالتوجه التغريبي المنحرف قد تمكنت من التأثير على القرار، والتولي على بعض المؤسسات ذات الأثر الكبير في هوية المجتمع ومستقبله"، حسب نص البيان، وأيضا هذه "العصابة" متهمة من قبل موقعي البيان بـ :"سعيها الحثيث نحو تجفيف منابع الخير فيه وجره إلى ضروب الانحراف". ولذلك، ولأن موضوع المرأة موضوع أثير لدى التيارات الأصولية، وتعرف أن عزفها على وتره هو عزف سهل وقريب يستميل أذن الثقافة التقليدية (والتي ينتقدها الخطاب الصحوي في جوانب اخرى!)، فإن البيان ركز عليها، وكاد، أقول كاد، أن يصرح بأسماء المسؤولين المتهمين بإفساد المرأة في السعودية، يقول البيان: "لقد تولى كبر هذا الدور التخريبي ـ مع الأسف ـ جهات وشخصيات تنتمي إلى هذا الوطن جعلت همَّها تنفيذ المخطط الغربي الماكر؛ يوما باسم توسيع عمل المرأة وعلاج البطالة ويوماً باسم تمكين المرأة وتنميتها". وحتى تكتمل أضلاع الهجوم الكبير، يتم الثنية بالإعلام، وقد صدر بيان خاص بالهجوم على "انحراف" الإعلام من قبل هذه القوى، لكن في بيان الـ61، الذي نتحدث عنه هنا، فالإعلام السعودي متهم بأنه أصبح محتكَرا من "الضالين" و"يعبر عن رأيهم الضال وحدهم إلا في القليل النادر". وأخيرا يصل البيان إلى "الذروة" في التحريض حينما يصف مخالفي هذه القوى من السعوديين الآخرين بقوله: "هؤلاء هم عصابة النفاق في مجتمعنا، فماذا نرجو منهم ، لقد حذرنا الله من أمثالهم فقال: ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)، وبقوله: (هم رسل الكفار الموطئون لهم، ومن خان الله ورسوله فهو لما سواهما أخون)". كما قلت في البداية، لست ضد مبدأ البيانات، مع أني لست من أهلها يمينا أو يسارا، ورغم معرفتي بحساسية الحكومات عادة من ذلك، ولكن الأمر هنا يحتاج إلى مدخل مختلف للنقاش، فلا تصبح المسألة الحق أو عدم الحق في إصدار بيان وتحشيد تواقيع عليه، بل يصبح المدخل هو: هل إصدار مثل هذه البيانات، وبمثل هذه اللغة، وبهذا النوع من التحريض، أمر مريح ؟! آخذين في الاعتبار ما تحمله من اتهامات وتوصيفات للمخالفين تصل إلى حد قارب التحريض على قتلهم، أو إضعاف الاكتراث لأمرهم لو حصل، على سبيل الافتراض، أن شابا متحمسا ذهب بالبيان حدا يتجاوز الكلمات إلى الأفعال، ورأى أن من واجبه "الشرعي" أن يريح العباد والبلاد من احد "رسل الكفار" هؤلاء ! وما بيان أسامة بن لادن الأخير المحرض على قتل مثقفين وشعراء وكتاب عنا ببعيد. لا ! بل وإن هناك اتفاقا على شخصيات مشتركة بين بيان بن لادن وبيان الـ61 هؤلاء، ونجد نفس الشخصيات يحرض عليها، لكن بن لادن يدعو لـ "قتلها" صراحة، وبالاسم، وهؤلاء، وبتلميح يشبه التصريح عنهم، يصفونهم بالنفاق الاقبح ويدعون لـ"قتالهم" والإغلاظ عليهم أسوة بمنافقي المدينة في العهد النبوي. أي انه اختلاف في الدرجة وليس في النوع ! هذا النوع من البيانات، اجد صعوبة في إدراجه ضمن أفعال الاحتجاج السلمي، وأجدها اقرب إلى بيانات التحريض على القتل أو الإلغاء، وهنا تصبح الكلمة جهدا يدخل ضمن الفعل العنفي لا السلمي، وكما قيل: وإن الحرب مبدؤها كلام ! وحتى لا أشتت القارئ غير المتابع، فإن منبع نقمة هؤلاء الموقعين ولغتهم المتطرفة، هو أن هناك وجهات نظر تختلف معهم حول بعض قضايا ادارة الشأن العام، وكذلك حول قرار تفصيلي صغير يتعلق بحق المرأة السعودية بالعمل في محلات بيع الملابس الداخلية للنساء، إضافة لقضايا اخرى تتعلق بالإعلام والتعليم...الخ، وهي كلها وجهات نظر أو خطوات تعمل ضمن الشرعية السعودية، أي أنها تستند إلى ثقافة المجتمع والحكم : الإسلام والتقاليد العربية، ولكنها تحاول الاستجابة لمتغيرات العصر، ضمن هذا الإطار، بيد أن القوى التي يمثلها أناس مثل أصحاب البيان يغضبهم هذا الأمر، فيصورون الأمور وكأن الشعب السعودي معرض للردة عن الاسلام! لمن لا يعرف حقيقة ما جرى. ولعل ذلك هو الذي دفع وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبدالعزيز إلى القول لصحيفة "عكاظ" السعودية أمس تعليقا على موقعي هذا البيان:"إذا كانوا أصحاب تخصص وعلم شرعي فهم اول من يعلم ما تطبقه الدولة من أحكام شرعية لأنها هي دولة الإسلام". الحقيقة هي أن هناك سجالا سعوديا جديا، بل أقول هناك "صراع" بين رؤيتين، على كيفية الإبحار بالسفينة السعودية، وكان من الممكن أن يتم التوصل الى مساحات مشتركة بين الطرفين لو أن النقاش ظل محكوما بإحسان الظن، واستبعاد الهواجس العدائية ونظريات المؤامرة، خصوصا، وهذا أمر واقعي حقا وليس من قبيل التلطيف، أنه لا توجد من وجهات النظر "المعتبرة" في السعودية، وجهة نظر واحدة معلنة تدعو إلى الانقضاض على هوية السعودية وثقافتها، ولكن يوجد خلاف في تفسير وتأويل هذه الثقافة وكيفية التواؤم معها. إذن، ها قد عادت البيانات، من جديد، ومعها سيعود السجال بين الأطراف والتيارات المختلفة.. لكن هناك فرقا بين عودتها الاخيرة هذه وبين حالها قبل الاحتجاب، فقد كانت البيانات سنة 2003م مثلا، وعلى خلفية الفرز الداخلي بين التيارات السعودية على خلفية الحرب الجارية في العراق بعد سقوط نظام صدام، كانت البيانات تعكس مجمل مواقف التيارات الفكرية والسياسية المختلفة، نشير مثلا إلى بيان النخبة الشيعية (شركاء في الوطن) الصادر في 30 ابريل 2003م وبيان القوى السلفية حول حرب العراق الذي أكد على وجوب نصرة أهل السنة من العراقيين، وبيان التقدميين ذي النكهة اليسارية (معا في خندق الشرفاء) الذي غطته صحيفة "الوطن" السعودية 10 نوفمبر2003م . لكن خريطة البيانات هذه المرة لا تتسع إلا لنوع واحد من الألوان. البيانات، كلام، والكلام تعبير عن موقف، في لحظة مشوشة تشهدها المنطقة المحيطة بالسعودية، لحظة تتطلب الكثير من المواقف، حسبما تمليه دواعي الآيديولوجيا، أو طبيعة تفسير المصلحة الوطنية، لكل طرف. المهم أن تبقى هذه المواقف في إطار الكلام، وأن لا تتوقف الدولة عن خط التنمية وان لا تغير إيقاعها، لا ببطء كما يريد المرتابون من المحافظين، ولا بسرعة كما يريد المتحمسون من الليبراليين، ولندع بخار الكلمات يتنفس، أعجبنا عبيرها أم ساءنا.* نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية
|
تقارير
البيانات السعودية .. إعادة تصوير
أخبار متعلقة