من كتابات الأديب الراحل : محمد حسين الدرزي
بقلم الشاعر الغنائي الراحل/ محمد حسين الدرزي أثناء قراءتي للكتاب التاريخي القيم (هدية الزمن) للأمير أحمد القمندان العبدلي المتوفي في العام الميلادي 1943م استوقفتني صفحة وجدت في متنها ما مفاده : (أن عمرو مزيقا بن ماء السماء) لما خرج من مأرب هو و(مالك بن اليمان) بعيد خراب (سد مأرب) أرسلوا الرواد تلتمس لهم الماء والمرعى، وكائد (عائد بن عبداللاه) وهو من بني مالك بن بضر بن الأزد من بني الرواد، حيث كلف بارتياد الجهة الجنوبية السفلى من بلد أخوتهم حمير، فلما عاد رفع تقريره شعراً حيث قال:علام ارتحال الحي من أرض مأرب[c1] *** [/c]ومأرب مأوى كل راض وغالبأما هي فيهــــا الجنتـــان وفيهمـــا[c1] *** [/c]لنا وطن فيها فنون الأطـــايبإلى أن يقول:لقد درت لكم صيداً والسحوتين بعده[c1] *** [/c]وعـنــه والسيــان بـيـن الذنائب وغــورت حتـى طـفــت أبيـن بعـدمــا[c1] *** [/c]خبرت لكم لحج الربى والسباسبوالسباسب هنا تعني الأشجار والأغصان وكل ما نجم عن بطن الأرض من نبت وزراعة، ولعل ذلك يؤكد دون ريب قدم لحج بتسميتها وميزتها الزراعية، وأن لحجاً حميرية تربة وإنساناً، ولقربها من عدن كانت بمثابة الأم الحنون لها تغذيها وتسقيها، نظراً لافتقار عدن للماء العذب وكلما يتعلق بالزراعة، ومما يدعوا إلى الاستغراب هو أن كثيراً من المراجع التاريخية تنسب دائماً عدن إلى أبين (عدن أبين) وبالأصح المراجع التاريخية غير اليمنية، أنما قد يكون مرد ذلك لمعرفتهم عدن، أي المؤرخون عن طريق البحر، وطبيعي التصاق أبين بالبحر، جعل عدن في نظرهم أقرب إلى أبين، وذلك كما أعتقد هو ما جعل نسبة عدن إلى أبين ومن المؤرخين اليمنيين ايضاً من أعتمد نسبة عدن إلى أبين، ولكن تجنباً للخلط بين عدن وبين كثير من البلدان المنتشرة في اليمن والتي يطلق عليها تسمية (عدن) وأشهرها (عدن لاعه) و(عدن حمادة في الضالع)، ولا يعني ذلك نكران أهمية أبين بالنسبة لعدن، أو نسيان أن عدن هي ثغر اليمن وبوابته البحرية منذ أقدم العصور. مع ذلك أيضاً تجد لحج هي فعلاً بوابة عدن، فإذا ما أغلقت هذه البوابة، أنكتمت أنفاس عدن وأصابها من الضرر الكثير.فقد مثل قديماً من أراد السيطرة على عدن، فليسيطر أولاً على لحج وإمكانياتها البشرية والزراعية. وهنالك من الأمثلة الكثير ومنها: تاريخ، توزيع الذين كانوا في بعض الأزمنة حكاماً للحج وعدن، وهم بنو عم اختلفوا وقامت حرب بينهم استمرت سنين، ذلك لغرض هيمنة كل منهم على عدن، ولكن عبر الهيمنة أولاً على لحج وبالفعل كانت لحج هي ميدان قتالهم، حيث لحج حينها عاصمتين، عاصمة إدارية وهي "الرعارع"، تبعد عن الحوطة عاصمة لحج الان بحوالي كيلو ونصف تقريباً إلى الشمال منها. عاصمة ثقافية تدعى "الميبة" إلى الغرب من الحوطة بنصف كيلو تقريباً، كان سكانها في الأغلب من الفقهاء وعلماء الدين وأصول الشريعة ومن بينهم (أبو عبدالله محمد بن سعيد بن معنى القريضي)، تفقه على يد العلامة عمر بن عبدالعزيز حفيد أبي قرة - أما أبو قرة هذا فهو موسى بن طارق اللحجي الرعرعي، نسبة إلى بلدة الرعارع التاريخية آنفة الذكر للقريضي مؤلفات كثيرة في الفقه وعلوم الشريعة منها كتابي (المستصغي) و (القمر) مستنبطات من فقه مالك وأبو حنيفة، كما أفاد أبو مخرمة في كتابه (ثغر عدن) من الأدلة على طول باع لحج في المجال الثقافي منذ القدم الكثير والكثير مما لا يتسع له المجال ها هنا، إنما الأخرى إن تثبت للأجيال المعاصرة إن أسلاف أسلافهم كانوا يتمتعون بثقافات عالية حكاماً ومحكومين، ومن بينهم الرزيعيين أبناء لحج وحكامها، المنحدرون أصلاً وقديماً من "همدان" القبيلة اليمنية المشهورة، ولعل سبب الإشارة إليهم وتقديمهم في الذكر عن غيرهم هو انشدادي إلى مشهد حربي مأساوي وثقافي في الوقت ذاته فعند بداية الحرب والإعداد لها بين بني العم الزريعيين، تمركز بنو مسعود في مدينة (الرعارع)، وبالمقابل تمركز بنو الداعي سبأ في مدينة "الميبة" وقبيل ساعة الصفر وبعد أن تم الاستعداد الرحال والعتاد بكلا الطرفين لخوض الحرب، خرج فارسان من الرعارع من بني مسعود يتلمسان خبر الطرف الآخر صاحب "الميبة" وفي منتصف الطريق الفارسان علاماً فسألاه: أبن من أنت؟ فقال: (أنا الراعي سبأ) فقال أحمدهما وكان أمير من بني مسعود: يا غلام أبلغ أبيك بأننا العشية سنقبل الحشمات التي في خيامه، وانصرفا وانصرف الغلام إلى الميبة حيث أبلغ أباه بما سمع من ذلك الفارس وسماه. فقال الأب: أو قال ذلك. قال : نعم ومن ساعته عبأ حيث ثم أنطق نحو الرعارع مبتدئاً الهجوم وقال أبو الحسن الهمداني في (الصفة):- إن وادي لحج كان على أيامه في القرن الثالث الهجري يمر وسط مدينة الرعارع. وهذه مسألة تحتاج منا إلى الكثير من التمعن والتفكير. واد يمر وسط مدينة ؟!! بالمعاينة أن كان يقصد الوادي الصغير وهو فعلاً يقصده فإن الوادي كما نراه اليوم يبعد عن بقايا (الرعارع) وهو القل الكبير بأكثر من نصف كيلو تقريبا ً. أذا فكم كانت مساحة مدينة الرعارع حينها؟! هل كانت ممتدة شرقاً متجاوزة موقع الوادي الآن؟ فإن كان ذلك كذلك فيقيناً أن مدينة (الرعارع) التاريخية مطمورة تحت الأرض، وبمرور الزمن توسعت الرقعة الزراعية شرقاً وغرباً منها على حساب آثارها.قال المؤرخ أحمد فضل القمندان (العبدلي) نقلاً عن بعض المراجع التاريخية: عندما التقى الجمعان من بني زريع دارت المعركة في وسط (الرعارع)، أي في الوادي، وبينما القوم منهمكين في القتال أذ أتى السيل بقوة في الوادي فجرى بين القوم وصعد كل فريق إلى ضفة من ضفاف الوادي وأخذوا في تبادل الكلام والوعد والوعيد أو بهذا المعنى، أذ كان الراعي سبأ ذلك اليوم ومن معه من أبنائه وجيشه وقوفاً على الضفة الغربية الشرقية من الوادي منيع بن مسعود وخرسانة وباقي جيشه، وقد كان منيع هو الذي أرسل الشتيمة للراعي سبأ عبر أبنه الصبي في صباح اليوم نفسه، قال حمد بن الراعي سبأ: أثناء المعركة حمل منا فارس على منيع بن كثر الجلاد بالسيف يومها وعقر الكثير من الخيل من الجانبين، وحينما برز منيع بن مسعود على ضفة الوادي والدم لازال يقطر من أنفه وفمه ناداه والد سبأ قائلاً: كيف رأيت تقبيل الحشمات؟فرد عليه وبشرعة قائلاً وجدته كما قال المتنبي: (والطعن عند محبيهني كالقبل/ قال فلم يزل الناس يستحسنون هذا الجواب لموافقته شاهد الحال.كما قال المؤرخ العبدلي، هو ذا ما أشرت إليه سلفاً ففي عز المأساة لم ينس بن الرعارع ما أكتسب عبر مشوار حياته من ثقافة. أستحضر المتنبي في الحال وبسرعة تفوق سرعة الكمبيوتر.. اختار عجز بيت فقط من قصيدة تربو عن الثلاثين بيتاً فأفحم مخاطبة. الخلاصة لقصة بن زريع أن تم النصر للراعي سبأ صاحب (الميبة) وبالمناسبة (الميبة) هي ميبتين الميبة العليا والميبة السفلى والعلماء والقضاة والمثقفون هم في العليا أكثر، يطلق عليه أسم"مشقر إلى اليوم، نسبة إلى الرحل الطيب أبو عبدالله محمد بن إبراهيم الشهير بـ (مشقر) من سكان الميبة العليا، كان له قدر من المعرفة والصلاح، توفي كما قال صاحب (ثغر عدن) سنة 684هـ والأرجح أنه قبر في موقع القرية التي أستحدثت بعد وفاته ليطلق عليه أسمه وكان لمشقر ولد أسمه الفاروق ولي قضاء لحج سنة 728هـ، ومن بين سكان "الرعارع" و "الميب" كانت ظاهرة إلى وقت قريب من الآن، ربما ستون أو سبعون سنة كما قيل لي، وكان يباع (الآجر) "الطوب الأحمر" المستخرج من أبنيتها المطمورة في أسواق الحوطة أما اليوم فسنجدها قابعة تحت أرض زراعية توسعت على حساب آثارها كحال أختها (الرعارع) تماماً، يقال أنه اشتهرت بجوار موقع (الميبة) قلة كبيرة تحولت بمرور الزمن إلى زراعي، مثلي أن التلة هذه حينما يملؤها السيل ويطمئن صاحبها، تنفجر محدثة دوي هائل كأنه المدفع، ومن ثم يفور الماء سريعاً إلى أسفلها، ويتكرر ذلك كل موسم زراعي، ولعل تفسير ذلك هو أن تلك التلة أو القطعة الزراعية بقايا منازل وآبار أثرية تابعة (للمبية) التاريخية.أما "الرعارع" فمن بعض بقاياها تل كبير .. آثار الحرق ظاهرة على أتربته، تعلوه أجزاء من أوان زجاجية وخز فيه غاية في الجمال الزخرفة، ولها الوان تنم عن سلامة ذوق صانعيها، والملفت للنظر هو ثبات تلك الألوان تحت حرارة الشمس وتناوب المناخات لمئات السنين، كما أن هناك قرية بدأت ترعرع على سطح ذلك التل تحت أسم (الرعارع).(ولله ميراث السموات والأرض) صدق الله العظيم.[c1]-------------المراجع:-[/c]1- صفة جزيرة العرب للهمداني.2- ثغر عدن لابي مخرمة.3- قرة العيون لأبي الدبيع.4- هدية الزمن لأحمد فضل القمندان العبدلي.