2 نوفمبر الذكرى التسعون لوعد بلفور
محمد رجب أبو رجبفي إطار تأكيد الأدبيات الصهيونية الدعائية على التوافق بل على التزاوج بين المصالح الاستعمارية الأوروبية، وبين مصلحة الصهيونية في تأسيس الوطن القومي اليهودي، فإن الكُتّاب الصهاينة، عملوا على مداهنة ودغدغة العقلية الأوروبية الاستعمارية، من خلال تنازلهم لحركة الاستعمار الاستيطاني الأوروبي، مؤكدين أنهم سيسترشدون بتلك الحركة، ولذلك تم التركيز على المفاهيم الاستعمارية، متخذين من الاستعمار الاستيطاني ونهجه ورؤيته نموذجاً للصهيونية وبرنامجها، مركزين في رعايتهم على السمات المشتركة بين فكر الاستيطان الأوروبي الإحلالي والفكر الاستيطاني الصهيوني، وعلى الذرائع المتشابهة بين مشروعهم الصهيوني والتبريرات التي استخدمها المستعمرون الأوروبيون.[c1]توافق المصالح البريطانية الصهيونية [/c]نجد أن المنظمة الصهيونية عملت على إجراء اتصالاتها وتحركاتها السياسية الدبلوماسية في كل اتجاه، إلا أنه تبين لها ومنذ البداية أن الدولة الاستعمارية المؤهلة لتبني مشروعها الصهيوني، هي بريطانيا وذلك انطلاقاً من التوافق بل التزاوج في المصالح ما بين الطرفين، استناداً إلى جملة من المعطيات والتطورات، حيث شكل الاحتلال البريطاني لمصر، البداية العملية على طريق نهاية السياسة البريطانية إزاء الدولة العثمانية القائمة على مبدأ المحافظة على كيان تلك الدولة مما يعني بداية التوتر في العلاقات البريطانية العثمانية، مما سيتيح مناخاً ملائماً للصهيونية في تحقيق مرادها وتحركاتها، خاصة بعد أن تم توقيع الاتفاق الودي بين بريطانيا وفرنسا عام 1904م الذي اعترفت فيه الأخيرة بالاحتلال البريطاني لمصر، من هنا يمكن القول إن المنظمة الصهيونية العالمية، أخذت في التركيز في مساعيها وتحركاتها على بريطانيا من أجل الحصول على دولة أم " Mother Country “ تدعم وتتبنى مشروعها.في مطلع القرن العشرين، غدت بريطانيا أكبر دولة استعمارية في العالم وفي ظل انقسام أوروبا إلى معسكرين واشتداد التنافس والتسابق على التسلح بينها، أصبحت المهمة الأساسية المنتصبة أمام بريطانيا تتمحور في الطريقة التي تحافظ بها على إمبراطوريتها الاستعمارية والعمل على إطالة أمر وجودها، ولهذا الغرض قررت حكومة الأحرار برئاسة رئيس وزرائها كامبل بانرمان (H.C Bannerman) في عام 1907م، تشكيل لجنة عرفت باسم لجنة الاستعمار، تكونت من كبار الأساتذة الجامعيين ومن الأخصائيين في مجالات علمية مختلفة، وضمت اللجنة في عضويتها إلى جانب العلماء الإنجليز، عدداً من علماء دول استعمارية غربية، وفي رسالته التي وجهها بانرمان إلى أعضاء اللجنة، طالب بتقديم الاقتراحات والوسائل التي تمنع انهيار وانتهاء الإمبراطوريات الاستعمارية، وكذا تقديم الاقتراحات والوسائل التي تعمل على إعاقة تقدم العالم غير الأوروبي، عقدت اللجنة أكثر من اجتماع وفي أكثر من عاصمة، وأخيراً رفعت تقريرها والذي عرف باسم “ تقرير بانرمان “.ورد في مقدمة التقرير، تحديد لمصالح الدول الاستعمارية، واستعراض للأخطار المحدقة بالاستعمار، وتوصلت اللجنة في تقريرها إلى أن منطقة البحر الأبيض المتوسط هي مصدر الخطر الذي يهدد الإمبراطوريات الاستعمارية، باعتبارها همزة الوصل بين الشرق والغرب، وفي حوضها نشأت الأديان وأعرق الحضارات، وخصوصاً في شواطئها الجنوبية والشرقية حيث العالم العربي الممتد من الرباط – غزة – مرسين واضنه، كما تضم هذه المنطقة برزخ السويس حيث تتصل آسيا بأفريقيا وفيها قناة السويس شريان الحياة لأوروبا، وفيها أيضاً شواطئ البحر الأحمر وعدن وخليج العرب، حيث الطريق إلى الهند والمستعمرات.ثم حلل التقرير هذه المنطقة موضحاً كيف يسكنها شعب واحد تتوافر له وحدة التاريخ والدين واللغة والثقافة والآمال وجميع المقومات للتجمع والترابط والاتحاد، كما تتوافر لهذا الشعب كل أسباب القوة والنهوض والتحرر بسبب نزعاته التحررية وثرواته الطبيعية الكامنة وموارده البشرية المتزايدة.بعد هذا التحليل قدمت اللجنة عدة تساؤلات تتعلق بالمنطقة العربية في حال وحدتها، ودخول الوسائل الحديثة إليها، وانتشار التعليم والثقافة فيها، واستفادة شعبها من مواردها، وأجابت اللجنة على هذه التساؤلات لأنه عند حدوث ذلك “ ستحل الضربة القاضية بالإمبراطوريات الاستعمارية “ وعندها ستتبخر أحلام الاستعمار، وتتقطع أوصاله ثم تضمحل وتنهار كما انهارت إمبراطوريات الرومان والإغريق وغيرهم.ثم تطرق التقرير إلى الوسائل التي تحول دون توقيع هذا الخطر فدعا الدول ذات المصالح المشتركة إلى أن تعمل على استمرار وضع هذه المنطقة المجزأة المتأخرة والى إبقاء شعبها على ما هو عليه من تفكك وجهل وتناحر.ثم طرحت اللجنة في تقريرها، أهم واخطر توصية لدرء الخطر الذي يهدد الاستعمار(خاصة الاستعمار البريطاني) في المنطقة العربية وذلك فصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي، ولتحقيق ذلك اقترحت اللجنة في تقريرها العمل على إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط آسيا بافريقيا، ويربطهما معاً بالبحر المتوسط بحيث يشكل الحاجز البشري، وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة هذه المنطقة المقصودة بإقامة الحاجز البشري القريب عليها هي الجزء الجنوبي من سوريا (فلسطين).على أي حال، فان تقرير بانرمان، حدد الاتجاهات الأساسية للسياسة الاستعمارية الصهيونية لبريطانيا، وأصبح التقرير بمثابة برنامج لعملها الدبلوماسي والسياسي، فالتقرير جعل من فكرة استخدام الصهيونية واليهود في فلسطين، تزداد جاذبية وإغراء، قياساً بالفترة السابقة على المشروع الصهيوني، والعمل على منح الصهاينة براءة تأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين ليكون هذا الوطن قاعدة لها، تحمي من خلاله قناة السويس، وطرق مواصلاتها مع الهند.في ابريل 1915، تم تشكيل لجنة داخلية من كبار الموظفين في الوزارات البريطانية الرئيسية وبرئاسة السير موريس دي يونسن، للنظر في المصالح البريطانية في آسيا.في هذا التقرير رفضت لجنة يونسن ادعاءات فرنسا في فلسطين، وعلى اثر ذلك قررت فرنسا وبريطانيا التفاوض حول فلسطين، وفي مارس 1916 سافر كل من سايكس وبيكو إلى روسيا العنصرية ذات المطامع في الدولة العثمانية، حيث جرت مباحثات سرية وفي مارس من نفس العام تم توقيع اتفاقية بطرسبرج بين الأطراف الثلاثة، وتم الاتفاق على أن تعطى روسيا حق المشاركة في تقرير صفة الإدارة الدولية في فلسطين، وفي 16 مايو 1916 تم توقيع اتفاقية سايكس بيكو ومن أهم نتائجها:1- أن اتفاقية سايكس بيكو، شكلت تطبيقاً واضحاً لما ورد في توصيات تقرير يانرمان، فهي ركزت على التجزئة السياسية للمشرق العربي.2- أن الاتفاقية رتبت الأوضاع أمام بريطانيا لتحقيق اتجاهاتها السياسية لتبني المشروع الصهيوني، والعمل على تحقيقه دون أية عقبات او عوائق قد تشكلها الوحدة العربية.3- الاتفاقية أبعدت النفوذ الفرنسي عن فلسطين، توطئة للسيطرة البريطانية وتحقيق توجهاتها الصهيونية.4- لاشك أن وضع منطقة الخليل والنقب والساحل الجنوبي لفلسطين ، إضافة إلى المنطقة الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن، تحت النفوذ البريطاني، تقرر بهذه الصورة المتسمة بالترابط، لتأمين حماية قناة السويس من جهة، وتأمين طريق المواصلات الاستراتيجي وبشكل متصل بدءاً-من مصر- العراق فالهند.5- الاتفاقية والتقسيمات الواردة فيها، تكون قد حرمت المنطقة والبنية الفلسطينية، من منابع نهر الأردن، مما سيكون له تأثيره الكبير في الخلافات والمنازعات التي ستنشب حول مسألة الحدود، بعد انتهاء الحرب.6- اشتراك بريطانيا في إدارة المناطق المرشحة وبعد إقامة (ميناءي حيفا وعكا والنقب والساحل الجنوبي لفلسطين) زاد من تركيز المنظمة الصهيونية على بريطانيا، باعتبارها الدولة التي تتبنى مشروعهم، ومن هنا تم نقل المنظمة الصهيونية من برلين إلى لندن.7- من الملاحظ أن الحدود في الاتفاقية، لم تكن مرسومة بدقة ووضوح، غير إننا نلاحظ أن الحدود بالنسبة لفلسطين كانت لحد ما، تتسم بالوضوح، واستناداً إلى ذلك، يمكن القول أن الاتفاقية وضعت الخطوات الأولى لرسم حدود فلسطين لتكون حدوداً للكيان السياسي الفلسطيني في التاريخ الحديث، ففلسطين التاريخية المتداخلة مع الأردن، رشحت وفقاً للاتفاقية، لتكون ذات كيانات سياسية كما يلي :أ- منطقة إدارة دولية تشمل أجزاء من فلسطين غربي نهر الأردن.ب- منطقة إدارة بريطانية مباشرة، تشمل حيفا وعكا.ج- منطقة لتكون دولة عربية(أو أجزاء من اتحاد دولة عربية) بنفوذ بريطاني، تشمل المنطقة الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن جنوبي ردعه بالإضافة إلى الخليل والنقب حتى الساحل.د- منطقة إدارة فرنسية مباشرة(المنطقة الزرقاء) وهي المنطقة الواقعة الى الشمال من بحيرة طبريا بالإضافة إلى منطقة صفد.[c1]فلسطين تحت الإدارة العسكرية البريطانية [/c]تم للإنجليز ما أرادوه وأصبح سلطانهم العسكري هو المهين الوحيد على فلسطين حين أتموا احتلال جميع أطرافها في أواخر عام 1918م وقد حيل بين شعب فلسطين وباقي أخوانه العرب ففصلت فلسطين عن بقية سوريا التي احتلتها فرنسا وتركزت برامج الانجليز في تمكين الصهيونية في هذا الجزء العربي من سوريا الجنوبية وأدرك الشعب الفلسطيني إنه يواجه مؤامرة خطيرة قد تؤدي الى مصير أليم إنه فصل عن سوريا ليكون وحيداً في أي معركة مصيرية كبرى ويثقل كاهله بعبء كبير وخطير ولا يحتاج الأمر الى تساؤل فإن الوطن القومي اليهودي الذي وعدت به بريطانيا اليهود في فلسطين قد فسره اللورد كيزون تفسيراً واضحاً حين قال :" إن الوطن القومي مفاده كيان صهيوني يؤلفه اليهود ويدير شؤونه اليهود ويحكم وفقاً لمصالح اليهود ".لكن هذا الوطن القومي الذي يسعى إليه اليهود لن يكون خاصاً باليهود الذين يقطنون فلسطين فهم قلة قليلة إلى جانب السكان العرب ولذلك لا بد من الهجرة من جميع أنحاء العالم حتى يتكاثروا ويكونوا أغلبية وهذه الهجرة لابد من دولة تجمعها وتلك الأرض التي يسعون لامتلاكها لن تكون سهلة ما لم تكن فلسطين واقعة تحت نفوذ دولة صدقت لها الود ومدت يد العون لها وانطلقت الصهيونية العالمية تسعي ليقول مؤتمر الصلح كلمته لتكون بريطانيا هي الدولة المنتدية لفلسطين وقبل أن يبرم صك الانتداب أصدرت بريطانيا أمرها منذ أبريل 1918م إلى الإدارة العسكرية الحاكمة أن تسمح وأن تطيع أوامر اللجنة الصهيونية التي وصلت إلى فلسطين برئاسة وايزمان وأعطيت اللجنة جميع التسهيلات في تحركاتها وتحرياتها (49).في 28 يونيو 1919م انتهى مؤتمر الصلح في فرساي من وضع ميثاق عصبة الأمم ومن توقيعه وكان واضحاً لمعظم الوفود التي مثلت الشعوب المحكومة أن الحلفاء قد تخلوا نهائياً عن المبادئ التي نادوا بها خلال الحرب وكذلك عن وعودهم التي أبرموها مع الشعوب وأنهم لا يتعاطون أو يبحثون إلاّ عن وسيلة جديدة واسم جديد لاستعمارهم الذي اتفقوا على إحلاله محل الاستعمار التركي المهزوم .وبالفعل توصلوا في مؤتمر الصلح الذي كانت تسيطر عليه الدول المنتصرة الى اسم "الانتداب" متضمناً ميثاق الأمم هذا المبدأ كدستور لحل مشاكل الأقطار والشعوب التي كانت تحكمها تركيا وألمانيا .وقد نصت المادة (22) من الميثاق على الانتداب وأنواعه وطريقة تطبيقه وأهدافه وفي 25 نيسان 1920 إنعقد المجلس الأعلى للحلفاء في سان ريمو وقرر بناء على المادة (22) من ميثاق عصبة الأمم المتحدة وإستناداً الى رغبات الشعوب وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني ووضع سوريا تحت الانتداب الفرنسي والعراق تحت الانتداب البريطاني على أن تلتزم الدول المنتدبة برغبات أهل هذه الأقطار.إن الاتفاقية؛ وما ورد فيها من بنود متعلقة بالمنطقة العربية؛ تعتبر خرقا فاضحا لوعود بريطانيا ؛التي قطعتها للعرب في المراسلات؛ المتبادلة بين الشريف حسين بن علي والسير هنري مكماهون في العامين 1915 - 1916 ؛ والتي بموجبها تعهدت بريطانيا بدولة عربية مستقلة؛ وفي تقديرنا أن تلك المراسلات وما جاء فيها من الوعود والتعهدات؛ لا يمكن تفسيرها ؛ إلا في إطار الترتيبات والخطوات المتتالية ؛التي كان على بريطانيا إنجازها؛ خدمة لمصالحها الاستعمارية المتوافقة مع المصالح الصهيونية.في شهر يونيو1917؛ نجحت اقوات اللنبي في دحر القوات التركية؛ وفي 31 أكتوبر 1917 تم الاستيلاء على بئر السبع؛ وقبل أن تستكمل بريطانيا استيلاءها على فلسطين ؛أقدمت حكومتها على ارتكاب جريمتها بحق الشعب الفلسطيني حيث أصدرت وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917؛ القاضي بتسهيل بريطانيا إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.لقد جاء وعد بلفور إعلانا صريحا لما يبيته الإنجليز متعاونين مع الصهاينة من عمل شرير ضد هذا المنطقة العربية؛ ونستطيع القول إن الوعد غاية ووسيلة في نفس الوقت فهو وسيلة؛ في ترسيم غايات صهيونية والصليبية الاستعمارية لخلق الجسم الغريب في قلب العرب؛ وهو غاية باعتباره صورة لتحطيم الدولة العثمانية التي كانت تجمع العرب والأتراك في وطن كبير.لقد راع الغرب عامة والإنجليز خاصة ما وصلت إليه الإمبراطورية العثمانية من مكانه؛ ووجدوا إنها تقف في طريق توسعهم ولذلك كان لابد من القضاء عليها.