منذ نحو ربع قرن تقريبا كان كل ما تسمح به أو ترخص له الدولة لم يكن موضع شك أو تساؤل شرعي، قامت البنوك السعودية فأودع الناس أموالهم وتعاملوا معها، واستثمروا، أنشئت شركات عملاقة فساهم الناس فيها، وتداولوا أسهمها، ولم نسمع أو نقرأ سؤال الحلال والحرام آنذاك، لم يكن الناس في جهل مطبق أو غفلة هائلة، لكنهم كانوا على قناعة تامة بأن الحلال هو الأصل، وأن دولتهم دولة إسلامية فلا يمكن أن تسمح لمحرم أو تبيح حراما، ومنذ نحو عقدين بدأ همس ما سمي بـ"الصحوة" يتحول إلى الجهر، وشيئا فشيئا أصبحت قضية الحلال والحرام هي الشغل الشاغل للسعوديين. ابتداء بالبنوك وجواز التعامل معها من عدمه، وانتهاء بعباءة المرأة وهل تلبسها فوق الرأس أم فوق الكتفين، وأمور كثيرة لا تحصى ما بين البدء والانتهاء، خضعت للتشدد في الفتوى التي تحرم أكثر مما تحلل، بينما هذه الأمور في السابق لم تكن تثير اهتمام أو ريبة أحد، وأصبح المفتون في هذه الشؤون أكثر من أن يتم إحصاؤهم ابتداء من التلفزيون والصحف، ومرورا بالمدارس والجامعات والأشرطة والنشرات وانتهاء بالمجالس والمناسبات، وأخيرا دخلت مواقع الإنترنت بقوة وزخم كبيرين، وما إن نشطت سوق الأسهم السعودية، ورخصت الدولة لعدد من الشركات الجديدة حتى ظهر جيل من المفتين تخصصوا في هذا المجال يأمرون الناس بالبيع والشراء في هذا السهم، ويمنعونهم عن ذاك، ويبيحون لهم المساهمة في هذه الشركة، ويحرمون عليهم تلك، وأصبح المواطنون في "حيص بيص" ما بين مفت يبيح، وآخر يحرم. ومع أن البنوك السعودية كانت أول من استجاب لهذا الضغط، وأصبح لكل بنك هيئته الشرعية التي تبيح وتمنع، إلا أن هذا لم يعد كافيا أمام طوفان الفتاوى الجديدة، فلم تعد هذه الهيئات الشرعية هي المرجع الموثوق فيه للناس، بل إن بعضها أصبح موضع شك في ظل ما يفتي به من يتصدرون شاشات الفضائيات أو مواقع الإنترنت. ولهذا كله فليس غريبا هذه "الضجة" المثارة حول المساهمة في شركة "ينساب" ما بين محلل ومحرم، وسائل لحوح، المسألة ليست غريبة فهي امتداد طبيعي لذلك الطوفان "الصحوي" الذي اجتاح البلاد وبرمج عقول العباد، فأصبحوا لا يثقون فيما تبيحه أو ترخص به الدولة. وهذا أمر طبيعي، فطالما أن الدولة ذاتها سمحت لهذا التيار أن ينمو ويتغلغل ويتدخل في خصوصيات الناس، وحياتهم، ويحملهم على ما يريده فقط، ويشكل لنفسه قاعدة عريضة متجذرة لها أدبياتها ومراجعها الخاصة، فإنه من الطبيعي أن تتطاول الأعناق "المفتية" لتبلغ المشاريع الكبرى والقرارات الاستراتيجية، فليس معقولا ولا مقبولا أن نقبل من هذا المفتي أو ذاك أن يحدد لنا مواصفات عباءة المرأة وطريقة لبسها، ونقره عليه وندعمه ونعاقب من يخالفه ثم نرفض منه تدخله في تحليل أو تحريم المساهمة في شركة عملاقة مثل "ينساب" فكلا الأمرين "العباءة، والشركة" شأن عام يهم المواطنين جميعا، وفوق ذلك لم يعد هناك مجال للقبول أو الرفض بعد أن أصبحت القاعدة العريضة تفرض ما تشاء.وأنا في الحقيقة لا مشكلة عندي سوى أنني - وهذا أمر يخصني - في حيرة من أمري، إذ لم أستطع حتى هذه اللحظة أن أجد رابطا أو جامعا بين قناعتي المتجذرة بأننا نعيش في ظل دولة إسلامية تطبق أحكام الشرع الحنيف، ولا يمكن أن تبيح حراما أو ترخص لمحرم، وبين هذه "الضجة الإفتائية" التي تثور كلما أباحت الدولة شيئا أو رخصت له ابتداء من العباءة وغيرها من شؤون المجتمع ومرورا بجوال "الكاميرا" وغيره من اختراعات العلم والصناعة، وانتهاء بمساهمة شركة ينساب التي لن تكون آخر ما ترخص به الدولة ويظل الناس حوله حيارى هل هو حلال أم حرام؟، إنني - علم الله - أريد أن أفهم فقط. نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية
|
مقالات
حروب الفتاوى
أخبار متعلقة