هشام علي بن علي نحاول في هذه الإلمامة تقديم بعض الملامح الأساسية عن موقع الثقافة والبناء الثقافي في عهد الرئيس علي عبدالله صالح، كيف تظهر القضايا الثقافية في فكر الرئيس وفي الأجندة العملية التي وضعها منذ البدايات الأولى لمشروعه التاريخي، الذي حمله معه إلى رئاسة الجمهورية، في وقتٍ كان الرهان السياسي يكاد يقتصر على توفير الأمن والاستقرار للبلاد، نتيجة للاضطرابات المتلاحقة والانقلابات المتكررة في شمال اليمن وجنوبه في سبعينيات القرن الماضي.ولا نستطيع أن نحيط بتفاصيل هذا المشروع الوطني التاريخي، في هذه الورقة المختصرة، ولا بمسيرته العملية، فهو يتوزع في ميادين متعددة، سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية وتنظيمية وغيرها من المجالات التي تتداخل وتتواتر وتتقاطع مع متغيرات وطنية وقومية ودولية، داخلية وخارجية، محلية وعالمية.أي أنّ هذا المشروع التاريخي لم يكن كتابة في صفحة بيضاء أو تأسيساً في مجتمع هادئ ومتناغم، على العكس، فكانت مؤشرات هذا المشروع توحي بنوعٍ من الملاحة في بحار صعبة.إلا أنّ هذه المصاعب التي تكتشفها الرؤية الواقعية لأوضاع اليمن آنذاك، التي تبعث على التشاؤم والقلق، قابلها تفاؤل الإرادة وقوة العزيمة في فكر الرئيس علي عبدالله صالح، وهذا ما انعكس سلوكاً وعملاً في مسيرته النضالية، من تجرِبة تجميع القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحت مظلة المؤتمر الشعبي العام، وهي تجربة أولى محدودة لممارسة التعددية والديمقراطية في إطار تنظيمي واحد، إلى تحقيق المشروع التاريخي الكبير في توحيد اليمن في 22 مايو 1990م، وما ترافق مع الوحدة من إعلان للتعددية السياسية وحرية التعبير والصحافة وغيرها من الممارسات الديمقراطية، وكذلك عمليات تحرير الاقتصاد وتشجيع المبادرات المجتمعية في شتى مناحي الحياة.وقد كان تحقيق الوحدة بما حملته من آفاق واسعة، استعداداً وطنياً جاداً للدخول إلى القرن الواحد والعشرين بكل تحدياته المختلفة والمضطربة.هذا العرض لمتغيرات الثقافة لا يمكن أن يتحقق بمعزلٍ عن المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو مع تحولات المجتمع اليمني خلال عقود ثلاثة [c1]موقع الثقافة في قلب المشروع السياسي[/c]لا نستطيع أن نبحث عن التغيرات الثقافية، أو عن المشروع الثقافي بكل ما يحمل من محددات وآليات عمل، بمعزلٍ عن السياسة ومتغيراتها، فالثقافة والسياسة رغم الاختلاف بينهما من حيث الجوهر وطبيعة العمل، إلا أنّهما تتداخلان وتتقاطعان في اتجاههما نحو المجتمع وقضاياه وتسلكان منهجين متضادين في التعامل مع متغيراته، فالسياسة تفترض الاختيار بين الممكنات التي تحتملها تحولات المجتمع، وهو ما يُعبِّر عنه بالقول إنّ السياسة هي فن الممكن.. وبخلاف ذلك، تبدو الثقافة نوعاً من التصميم على تحقيق المستحيل، أنّها تفتح آفاقاً واسعة باتجاه المستقبل، لا تستسلم لحدود الواقع أو لضيق الإمكانيات.وإزاء تعقيدات الواقع اليمني في السبعينيات، حيث تصطرع أفكار ومصالح وقوى، وحيث عَلاقة حرب وعداء بين الشطرين، أو هذا ما كانت تنزع إلى فرضه قوى إقليمية ودولية، وحيث حروب أهلية قائمة أو في حالة تأهب، داخل كل شطر، بالإضافة على مُناخات الصراع العالمي التي تلقي بظلالها على اليمن. إزاء هذا الواقع المعقد والمنذر بتفكيك وتفجيره برزت فكرة الجمع والتأليف والتوحيد، في المشروع التاريخي الذي قاده الرئيس وهو ما تجلى في بُعدين اثنين : سياسي وثقافي، تمثّل البُعد السياسي في تكوين تنظيم سياسي يعمل كإطار واسع لكل القوى والتيارات السياسية الوطنية التي تجمعها أهداف الثورة اليمنية ومبادئها.وتمارس حق الاختلاف والتنوع في إطار تلك الوحدة التنظيمية الشاملة وقد كانت الثقافة هي البُعد الثاني في هذا المشروع، أو الشرط المكون له والضروري لتأسيسه، وهذا ما حمله مشروع الميثاق الوطني الذي كان مشروعاً للحوار الفكري بين مختلف التيارات السياسية والثقافية التي ضمها المؤتمر الشعبي العام، لم يكن التجانس أو غلبة تيار فكري واحد هو هدف ذلك الحوار، بل كان الإيقاع المتناغم الذي يسمح بتعدد الأصوات والحوار هو الهدف من الحوار، وهو ما تحقق في الميثاق الوطني، الذي لا يزال قادراً على التعبير عن التنوع والغنى الفكري، رغم مرور ربع قرن من الزمان على إقراره ولعلنا نحتاج إلى تحيين زمني ومراجعة فكرية لبعض مكوّناته، في ضوء التغيرات التي شهدتها اليمن والعالم خلال هذه المرحلة، ومثل هذه المراجعة هي تأكيد لاستمرارية هذا الميثاق وقدرته على تجديد حضوره ولسنا بصدد البحث في هذا الموضوع، لأنّه خارج السياق.هكذا نلاحظ أنّ الثقافة تلازمت مع المشروع السياسي التاريخي للرئيس، فالوحدة التنظيمية قابلها أو أنطلق إلى جانبها مشروع ثقافي وطني، يقوم على الحوار ويفتح مجالات التنوع.ويتأكد هذا التلازم بين السياسة والثقافة داخل المشروع التاريخي في المرحلة الثانية، الأكثر أهمية وتاريخية، أعني في مشروع الوحدة اليمنية، فتحقيق الوحدة السياسية لليمن تضمّن مشروعاً ديمقراطياً تقوم دعائمه على التعددية السياسية وعلى حرية الفكر والتعبير.فمشروع الوحدة السياسية فتح المجال للتعبير الحر والفكر الحر، الحق في تكوين الأحزاب والمنظمات، للصحافة الحزبية والأهلية، لتكوين وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، ويمكن أن نجد في كل هذه الأشكال والتعبيرات السياسية والمدنية، منسقاً جامعاً يرتكز على الثقافة كمفهوم شامل يعبر عن المجتمع ومتغيراته.هكذا نلاحظ أنّ الثقافة تسير جنباً إلى جنب مع السياسة في هذا المشروع الوطني التاريخي، وأنّها تتقدم السياسة في بعض الأحيان وتمنحها أفقاً أوسع.إنّ مقارنة سريعة بين قانون الأحزاب وقانون الصحافة والمطبوعات تكشف الأفق الأوسع لحرية التعبير والفكر.ويعظم دور الثقافة في المشروع التاريخي للرئيس، بقدر ما يواجهه المجتمع من تحديات، ففي مواجهة فتن الانفصال والطائفية والمذهبية والمناطقية، تبدو الثقافة الوطنية في المشروع الوطني القادر على تحقيق الاندماج المجتمعي ونبذ ثقافات الفتنة بكل نوازعها الشريرة، فالثقافة تعمل على ترميم وإصلاح قيم المجتمع من خلال نقد الأفكار والتيارات التي توزع الفتنة وتنشر الخراب، وللثقافة قوة في هذا الميدان، تفوق قوة الأسلحة والمدافع، فهذه الأخيرة توجه نيرانها على ظاهر الأرض، بينما تتعمق الثقافة لتجتث جذور الفتنة أو تطفئ جمراتها المدفونة تحت الرماد.وفي مواجهة الإرهاب تقدم الثقافة مشروعاً للحوار أو لممارسة الاختلاف دون الحاجة للإلغاء، أي إلغاء الآخر بقتله أو بتكفيره كذلك تشيع الثقافة روح التسامح والتآلف.وقد رأينا الحرص الدائم للرئيس علي عبدالله صالح على الحوار، سواء في الإطار السياسي والتنظيمي، أو في سياق التعامل مع الشباب الذين وقعوا ضحية للأوهام الخادعة، وفي هذا الإطار يغلب الأخ الرئيس ثقافة التسامح والحوار.
الثقافة في المشروع السياسي للرئيس علي عبدالله صالح
أخبار متعلقة